المعابد المصرية القديمة هي واحدة من أهم الآثار التي تركها المصريون القدماء. لتعطينا لمحة عن معتقداتهم وحتى طريقة حياتهم بل وبراعتهم الهندسية.

لم تكن المعابد المصرية القديمة دوراً للعبادة أو مستقرأ للإله فحسب. فقد تجاوزت فلسفة بناء المعابد إلى فكرة أخرى وهى تخليد لذكرى من رحلوا عن عالمنا من ملوك. وقد نشأت تلك الفكرة مبكراً جداً فى التاريخ المصري القديم.

استعرضنا من قبل فكرة وفلسفة بناء المعابد المصرية وانقسامها إلى نوعين:

  1. المعابد الطقسية.
  2. وهناك نوع آخر يطلق عليه المعابد الجنائزية: وهو المصطلح الذى استخدمه علماء الآثار للإشارة إلى طراز من المعابد. كان يطلق عليه معابد ملايين السنين في مصر القديمة.

وكان الغرض منها استمرار وضمان عملية البعث والخلود للملك المتوفى. حال رحيله عن دنيانا بل والإشراف على الطقوس والخدمات اليومية التي ستضمن تجدد هذا البعث بصورة طقسية يومية.

وتختلف تلك المعابد عن المعابد الإلهية في أنها تقع في الغرب عكس المعابد الإلهية التي تقع شرق النيل. فكانت معابد تخليد الذكرى قائمة على فكرة إعادة البعث من الموت ومملكة الغرب.

سنحاول كالعادة بتبسيط غير مخل تتبع تلك الفلسفة في مصر القديمة منذ العصور المبكرة.

البعث والخلود فى مصر القديمة

كان المصري القديم مراقباً جيداً للبيئة من حوله. وقد لاحظ أن كل شيء يبدأ وينتهى ومن ثم يبدأ من جديد في دورة لا نهائية. فالشمس تشرق وتغرب ثم تشرق مرة أخرى، والنيل يفيض ويغيض ثم يفيض.

وحتى دورة حياة النباتات والحيوانات من حوله تمر بنفس الدائرة، فلم يكون الإنسان استثناء لهذا كله؟ وأين يذهب بعد الموت؟

بدأت فكرة الاعتناء بالعالم الآخر منذ عصور مبكرة في مصر القديمة، فيوجد أدلة أثرية تشير لدفنات منظمة منذ عصور ما قبل التاريخ.

وتليها عصور ما قبل الأسرات التي شهدت تجمعات حضارية تم تسميتها (ثقافات)، نذكر منها حضارة العمرى  (حلوان) والمعادي والتي يطلق عليها أم حضارات مصر السفلى، مرمدة بنى سلامة، وفى مصر السفلى لدينا دير تاسا والبدارى  ونقادة، وقد استمرت نقادة لثلاث مراحل حضارية متتالية انتهت بتأسيس الدولة المصرية على يد الملك “نعرمر” موحد القطرين (يعرف أيضا باسم مينا ونارمر).

رأس تمثال منسوب للملك نارمر، متحف بترى.
رأس تمثال منسوب للملك نارمر، متحف بترى.

مع تطور تلك الدفنات والطقوس المتعلقة بها، تحول الأمر من دفنات بسيطة بمقتنيات معدودة إلى دفنات أكبر وأوسع، شواهد قبور، بل حتى أماكن للزيارة فوق الأرض عرفت باسم (المصطبة) وقد استمر تقليد الدفن تحت الأرض للمتوفى مع المقتنيات والمصطبة كجزء علوى لا يتجزأ من الدفنة فوق الأرض مخصص لزيارة الأحياء لذلك المتوفى وتأدية الطقوس على روحه من تقديم قرابين وتلاوات مع زيارة المتوفى، وتطور الأمر لاحقاً لوجود كهنة كانت مهامهم هي الإشراف على تنفيذ تلك الطقوس وتأديتها لضمان حياة المتوفى الأبدية.

الأهرامات فلسفة الخلود

مع تطور الدفن الملكي من مصاطب إلى أهرامات في عصر الملك “زوسر” أول ملوك الأسرة الثالثة تطورت عقيدة الدفن في مصر القديمة لتشمل الهرم وهو بيت الأبدية الخاص بالملك ومصعده إلى السماء.

فلم يكن الهرم مجرد مقبرة وإنما آلة كبيرة لعملية البعث والخلود ومصعداً لتحقيق الاتحاد السماوي مع الإله الشمسي مع شروقه وغروبه كل يوم.

لم يكن الهرم بناء قائم بذاته، ففي عصر الملك “زوسر” صاحب أقدم هرم في العالم أجمع ( كان عبارة عن 6 درجات في تطور لشكل المصطبة نفسها ولم يكن هرم بمفهوم الهرم كما نعرفه اليوم).

ألحق به مجموعة من المباني كان أهمها ما أطلق عليه المعبد الجنائزي (معبد تخليد الذكرى)، وهو معبد مخصص لتلقى القرابين على روح الملك المتوفى وإقامة الطقوس التي يشرف عليها الكهنة لضمان تجدد هذا البعث يومياً.

الملك زوسر وهرمه المدرج.
الملك زوسر وهرمه المدرج.

 

على الرغم من أن مجموعة الملك زوسر الهرمية فريدة من نوعها ولم تتكرر سوى لمرة واحدة في المجموعة الغير مكتملة للملك “سخم غت” والموجودة بمنطقة آثار سقارة بالقرب من مجموعة الملك “زوسر” إلا أن البعد الفلسفي لبناء معابد تخلد الذكرى بقى كما هو لاحقاً في المجموعات الهرمية للملوك الذين تلوهم على عرش مصر ولكن مع تطور جعل مهام تلك المعابد أكثر تعقيداً.

معابد الأهرامات المصرية

مع جلوس الملك “سنفرو” أول ملوك الأسرة الرابعة على عرش مصر نجد أن المعابد الملحقة بالأهرامات قد شهدت تطوراً مذهلا وتعقيداً أكبر، فتخطيط المجموعات الهرمية منذ عصر سنفرو لم يتغير طوال عصور بناء الأهرامات المصرية.

فنجد أن المجموعة الهرمية تكونت من: الهرم، معبد ملاصق له سمى بالمعبد الجنائزي، طريق ممهد مرصوف يسمى الطريق الصاعد وفى نهاياته يطل على نهر النيل معبد عرف بمعبد الوادي، مع ظهور أهرامات صغيرة شيدت بجوار الأهرامات الكبيرة أهرامات صغيرة في الحجم سميت بالأهرامات العقائدية.

أي أن الهرم ألحق به أكثر من مبنى طقسي كان محور بنائهم هو الطقوس المرتبطة بدفن الملك في الهرم وكذلك عملية بعثه وخلوده لآلاف السنين لاحقاً وليس فقط بشكل وقتي متعلق بالهرم نفسه.

ومن أقدم المعابد الجنائزية الكاملة هو المعبد الصغير (المقصورة) الملحقة بهرم “ميدوم” في بنى سويف وهو المعبد الوحيد من نوعه الذى لا يزال محتفظا بسقفه الحجري كاملاً مع وجود لوحتان حجريتان ذات شكل نصف دائري كانتا علامة مميزة على المعبد الجنائزي وتكررت لاحقاً في الأهرامات المصرية.

هرم ميدوم: على اليمين بقايا الطريق الصاعد، وعلى اليسار مدخل المعبد الجنائزى للملك سنفرو.
هرم ميدوم: على اليمين بقايا الطريق الصاعد، وعلى اليسار مدخل المعبد الجنائزى للملك سنفرو.

 

لم يكتف سنفرو ببناء هرم ميدوم فقط، فعلى ما يبدو أن محاولات بناء هرم ميدوم لم تتكلل بالنجاح ولم تكن بالشكل المرضى للملك نفسه فقام بنقل مشاريعه إلى صحراء دهشور، وهناك بعض الآراء التي قالت بان هرم ميدوم كان مخصصاً للملك “حونى” آخر ملوك الأسرة الثالثة.

والذى كان خليفته على العرش هو سنفرو، وأن سنفرو قام بإتمام تلك المجموعة الهرمية لحونى، إلا أنه لا يوجد ما يثبت ذلك حتى الآن حيث أن جميع الأدلة تشير إلى أن الهرم من أعمال سنفرو، وكان السبب فى ذلك الاعتقاد هو علماء الآثار المبكرين ومنهم “جاستون ماسبيرو” الذى افترض أن وجود أكثر من هرم للملك “سنفرو” لربما ينفى نسب هرم ميدوم له.

معابد أهرامات دهشور والجيزة

قام الملك سنفرو بنقل مشاريعه الهرمية إلى صحراء دهشور، وقام أولا ببناء الهرم الذى عرف لاحقاً باسم الهرم المنحنى بسبب أن المهندسين قاموا بتغيير زاوية البناء في منتصف المشروع فظهر الهرم منكسراً من أعلى وعلى ما يبدو أن عدم رضاء سنفرو عن المشروع قد تكرر كما حدث في ميدوم فقام بنقل المشروع شمالاً وشرع في تشييد هرم جديد وهو المعروف باسم: الهرم الأحمر الذى كان أول هرم كامل في تاريخ مصر ( أي أنه أول هرم حقيقي بجوانب ملساء بشكل هرمى واضح)، وقد رجح العلماء أن الهرم الأحمر كان المثوى الأخير للملك سنفرو وأن أهراماته الأخرى لم تخصص للدفن.

أهرامات الملك "سنفرو".
أهرامات الملك “سنفرو”.

وفى هضبة الجيزة قام خلفاء سنفرو وأولهم إبنه “خوفو” بإتباع نفس التقليد  ولكن هذه المرة مع ظهور زيادة فى عدد الأهرامات الطقسية الصغيرة، فعلى سبيل المثال فإن هرمى “خوفو” و “من كاوو رع” ملحق بهما ثلاثة أهرامات صغيرة، بينما هرم “خفرع” ملحق به هرم طقسى واحد فقط، وقد تعددت الآراء فى ماهية تلك الاهرامات الطقسية فنسبها البعض للملكات زوجات الملوك المذكورين أو حتى تم نسب واحد منهم لأم الملك خوفو وهى الملكة “حتب حرس” زوجة “سنفرو”.

وأغلب الظن أن تلك الاهرامات الطقسية وحتى المجموعة الهرمية نفسها ارتبطت بطقوس عيد مصري قديم كان يسمى عيد “سد” ويعرف اليوم باسم عيد تجديد الشباب، وهى مجموعة من الطقوس كان يؤديها الملك على مدار أيام طويلة ( بلغت الشهر في بعض الحالات) في ربوع مصر وارتبطت الأهرامات بجزء من تلك الطقوس.

أما معابد الوادي والمعابد الجنائزية فيعتقد العلماء أنها كانت معابد طقسية لتخليد ذكرى الملك  وإتمام عملية التحنيط.

الدير البحري

مع انهيار الدولة القديمة لم تذهب فكرة تشييد الأهرامات المصرية من الوجود فمرت مصر بعصر الانتقال الأول الذى أعقبه تأسيس الدولة الوسطى. والتي استمرت في بناء الأهرامات وتشييدها بل أن الامر تجاوز ذلك فبعد سقوط الدولة الوسطى واحتلال الهكسوس لمصر. نجد أن تقليد تشييد الأهرامات استمر هو الآخر حتى كان آخر هرم معروف لنا وهو هرم الملك أحمس قاهر الهكسوس ومحرر مصر.

أما عن تطور الفكر العقائدى المتعلق بالدفن فى تلك الفترة فلدينا مثال فريد من نوعه وهو معبد الملك “منتوحتب الثانى” والقائم بجوار معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحرى، ذلك المعبد الذى كانت تعلوه قمة هرمية وكان مدفن الملك نفسه أى أن المعبد نفسه أدى جميع الأغراض مجتمعة بتصميم فريد لم يسبقه إليه أحد.

معابد ملايين السنين

مع تأسيس الدولة الحديثة والتي كان أول ملوكها هو أحمس نفسه بدأ الاتجاه إلى فلسفة مختلفة عن الأهرامات في الدفنات الملكية، ففي ذلك العصر بدا واضحاً أن الأهرامات ليست منيعة أمام اللصوص وأن كل الأهرامات المصرية تمت سرقتها ونهبها عن بكرة أبيها ولم يتبق منها شيء، لذلك كان لا بد من وجود خيار بديل .

وهنا وقع الاختيار على وادى الملوك وأغلب الظن أن اول ملك قام بتشييد مقبرة في وادى الملوك كان “تحتمس الأول” وأشرف على تنفيذ تلك المقبرة مهندساً يدعى “انينى”، وكانت الفكرة بسيطة ومبتكرة، فموقع وادى الملوك يشرف عليه قمة جبلية تمثل الشكل الهرمى نفسه، والمقابر نفسها منقورة في صخر الوادي، وقد استمر الدفن بوادي الملوك لفترة طويلة جدا من الزمن حتى بلغ عدد المقابر والدفنات وحتى الآبار غير المعروف غرضها المكتشفة حتى هذه اللحظة في الوادي 67 مكاناً.

وادى الملوك.
وادى الملوك.

ما يهمنا فى الأمر هو أن فلسفة معابد تخليد الذكرى ظلت قائمة، فكان الملوك يدفنوا بالوادي بينما تبنى معابد لتخليد ذكراهم في الغرب أيضا بالقرب من وادى الملوك، وأشهر تلك المعابد على الإطلاق هو مبعد الدير البحري المخصص للملكة حتشبسوت، معبد رمسيس الثانى المسمى بالرامسيوم، معبد سيتى الأول، معبد هابو للملك رمسيس الثالث وكذلك معبد أمنحتب الثالث بكوم الحيتان وبجواره معبد الملكة تاوسرت.

معبد الدير البحرى.
معبد الدير البحرى.

 

وغيرهم من جميع ملوك الدولة الحديثة الذين كانت معابد تخليد الذكرى جزءاً لا يتجزأ من عقيدة البعث والخلود فى مصر القديمة.