يخرج علينا البعض بين الحين والآخر يطلق الفرضيات والافتراضات والأوهام التي تقول  بأن قدماء المصريون قد تحدثوا باللغة العربية ويستندوا في ذلك إلى افتراضات واهية تعتمد في ظاهرها وباطنها على نظريات المؤامرة التي تأتى بتفسير خيالي لكل شيء بلا حجة أو دليل استنادا على منطق هناك مؤامرة من الغرب علينا وعلى حضارتنا وماضينا وحاضرنا، وبما أن العلوم غربية  إذن فكل ما اقول صحيح، ومن ثم يمضون في خيالاتهم، كما أنهم يظنون أن تحدثهم باللغة العربية الآن يعنى أن هذا الوضع كان قائماً منذ آلاف السنين ايضاً وهذا  ايضاً خطأ فادح، ومما ساعد في ذلك هو أن المصريون حالياً لا يتحدثوا لغة أسلافهم بالفعل وكن كيف حدث ذلك؟

اللغة المصرية القديمة

كما أشرت في مقالات سابقة أن المصريون كان لهم لغة واحدة مع تطور الزمن أصبحت تكتب بأربع طرق مختلفة ” الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية، القبطية” وهي أربع خطوط كتابية لنفس اللغة، وهذه اللغة لا تزال متداولة حتى يومنا هذا وعلى الرغم من ذلك فإنها ليست شائعة في مصر ومقتصرة على أماكن معينة وذلك لأسباب تاريخية، كان أهمها استيلاء الإسكندر الأكبر على مصر.

الاسكندر الأكبر
الاسكندر الأكبر

 

الإسكندر: الغازي الحالم

مع دخول الاسكندر الاكبر لمصر كان ذلك هو البوابة التي دخلت منها الحضارة والمفاهيم الاغريقية لها، إلا انه قبل عصور الاسكندر كان اختلاط اليونانيين بالمصريين قائماً بالفعل عن طريق المرتزقة والتجار بل أن واحد من أشهر المؤرخين الاغريق وهو “هيرودوت” قد زار مصر هو وغيره قبل عصر الاسكندر الأكبر.

وفى تلك العصور ظهر الخط القبطي والذي كان خطاً جديداً يمثل جسر التواصل ما بين المصريين واليونانيين، وقد كان الاسكندر ينظر لمصر باعتبارها ذات وضع خاص بل أنه اعتنق ديانتها وتم تتويجه كابن للإله آمون طبقاً لقصة معبد الوحي (معبد سيوة) الشهيرة، بل أن المصادر التاريخية تشير لأن الاسكندر الأكبر جرى تحنيطه ودفنه على الطريقة المصرية القديمة.

بوفاة الاسكندر الأكبر وتوزيع اركان امبراطوريته كانت مصر من نصيب صديقه القائد “بطلميوس” الذي قام بالاستقلال بمصر لنفسه ونسله من بعده وأسسوا في مصر ما يسمى بالأسرة البطلمية والتي انتهت بالملكة كليوباترا السابعة.

كليوباترا السابعة وابنها قيصرون
كليوباترا السابعة وابنها قيصرون

في تلك العصور أصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر، وهي لغة المكاتبات ومخاطبة الحكومة إلا ان الاندماج الديني ما بين المصريين والاغريق لم يمنع اللغة المصرية القديمة من الازدهار، وذلك لأن وعلى الرغم من ان اليونانية كانت اللغة الرسمية إلا ان طقوس المعابد كانت تتم باللغة المصرية القديمة وكان ملوك تلك الاسرة بشكل عام على الرغم من كونهم محتلين يحترمون العقيدة المصرية القديمة بل ويمزجونها مع عقيدتهم.

وقد استمر هذا الحال حتى مصرع كليوباترا ودخول مصر في نفق مظلم مع محتل جديد غاشم وهم الرومان.

 

الرومان ونهاية اللغة المصرية القديمة

مع احتلال الرومان لمصر تغير الوضع تماماً، فمصر لم تعد دولة مستقلة وإنما مجرد ولاية رومانية، وبالتالي فقدت مكانتها كمركز علمي وثقافي مهم واصبحت نقطة استراتيجية ومورد اقتصادي للإمبراطورية الرومانية، وفى تلك العصور وصلت نسبة الأمية في مصر إلى ارقام مفزعة تجاوزت 85% وهو ما ساعد كثيرا على تسارع وتيرة الأحداث لاحقاً في انهيار اللغة المصرية بل وجزء كبير من الحضارة نفسها.

كانت نقطة التحول الكبرى هي تحول الامبراطورية الرومانية للمسيحية بشكل رسمي، فقبل المسيحية كان الرومان ” وثنيون” طبقاً للتعبير المسيحي، وكانوا يحاربون المسيحية.

ويضطهدون معتنقيها وينكلوا بهم، ولكن مع تحول الرومان أنفسهم للمسيحية أنقلب الآية وأصبح الرومان أنفسهم ينكلون بمن هو غير مسيحي، واقترن ذلك مع الأمية بقلة استخدام الخطوط القديمة لكتابة اللغة المصرية القديمة مع ازدهار الخط القبطي آخر الخطوط.

إضطهاد المسيحيين فى روما.
إضطهاد المسيحيين فى روما.

أصدر الإمبراطور الروماني جستنيان قراراً بغلق جميع المعابد الوثنية والذي كان شرارة البدء في إغلاق وتدمير المعابد المصرية بالفعل حتى لم يتبق منها سوى معابد أقاصي الجنوب وعلى رأسهم معبد الإلهة ايزيس في جزيرة فيلة بأسوان.

معبد فيلة: آخر صرخة للحضارة المصرية

ففي 24 اغسطس 394 م، ترك كاهن مصري يدعى “اسمت آخوم” نقشاً موجود الآن ببوابة الامبراطور هادريان بمعبد فيلة، هذا النقش هو آخر نقش بالخط الهيروغليفي في الحضارة المصرية القديمة مكتشف حتى الآن، وهو ما يعنى أن إغلاق المعابد المصرية ومعبد فيلة تحديداً قد اقترن بنهاية استخدام الخطوط الكتابية القديمة وعلى رأسها الخط الهيروغليفي.

نقش إسمت آخوم
نقش إسمت آخوم

وقد تحالف كهنة هؤلاء المعبد في محاولة أخيرة مع قبائل البلميين النوبية والتي حافظت على الوضع لفترة قصيرة من الزمن ثم لم يلبث أن تعقدت الأمور أكثر وتم إغلاق المعبد وإلى الأبد، وفى ظاهر الأمر يبدو أن اللغة المصرية القديمة قد استمرت على اقصى تقدير حتى القرن الخامس أو السادس.

المسيحية والأقباط واللغة المصرية القديمة

مع دخول المسيحية إلى مصر تم ترجمة نصوص الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية القديمة ولكن بخطها القبطي، وبقى منطوقها موجوداً بين الشعب المصري وإن كانت طريقة كتابتها المتاحة وقتها هي واحدة بينما تراجع بل وانحسر خطوطاً مثل الهيروغليفى، وهنا يجب التنويه عن امر مهم وهو أن المواطن المصري في العصور اليونانية الرومانية كان يطلق عليه المواطن الايجوبتي (المواطن المصري) نسبة إلى ايجوبتس وهو اسم مصر عند الاغريق، وهو اللفظ الذى اصبح بعد ذلك قبطي، فتعبير قبطي يشير إلى المصريين جميعاً بغض النظر عن أديانهم ولا يختص بمسيحيي مصر فقط دوناً عن غيرهم.

وقد نشا هذا الخلط في المسمى مع تبنى الكنيسة المصرية للاتجاه الأرثوذكسي ومعرفتها باسم الكنيسة القبطية وهو ما جعل مصطلح قبطي يلتصق بمسيحي مصر وقتها ومن ثم ومع دخول العرب المسلمون استمرت تلك التسمية الخاطئة.

لماذا لا يتحدث المصريون الآن لغة أسلافهم القدامى

كان التحول اللغوي الأخير في تاريخ مصر هو دخول العرب المسلمون إليها، وحقيقة الأمر ان دخول العرب في البداية لم يقترن بانتشار اللغة العربية ولا حتى الإسلام، بل ان الأمر تم تدريجيا وعلى مر العصور، وكانت النقطة الفارقة هو سياسة تعريب الدواوين في عصر الدولة الأموية وهنا كان على من يتعامل مع الحكومة ومؤسساتها لا بد أن يتحدث ويكتب العربية، وهو ما جعل تعلمها ضرورة في ذلك الوقت، اقترن ذلك بدخول عدد كبير من المصريين إلى الاسلام حتى اصبحت الاغلبية مسلمة، ونظراً لارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم والدين الإسلامي اصبحت شائعة بالفعل في مصر رسمياً وشعبياً مع احتفاظ المصريون بلهجاتهم الدارجة وتعبيراتهم المتفردة التي لا يشاركهم فيها أحد.

 

الأقباط المسلمون

تزامن ذلك مع انحصار استخدام اللغة المصرية القديمة في الكنائس المصرية والتصاق كلمة اقباط بمسيحيي مصر أكثر فأكثر مع تعريف الكثير من المسلمين لأنفسهم بأنهم عرب، أي ان الأمر بداً وكأن قبطي تعنى مسيحي ومسلم تعنى عربي، وهي المغالطة التي لا معنى لها فعلى سبيل المثال وحتى الآن نجد أن حتى غير المصريين وحتى العرب أنفسهم لا يفعلون في تلك المغالطة

الكلام بان المسلمين الموجودين في مصر هم العرب الذين هاجروا، هذا غير صحيح أبدا، كلمة أقباط ليست للمسيحيين وحدهم، القبطي هو المصري، المصري المسلم من اصول مصرية قبطي، المصري المسيحي من أصول مصرية ايضاً قبطي، المصري المسلم من أصول عربية هذا ليس بقبطي، وهؤلاء قلة في مصر.

الغالبية الساحقة من مسلمي مصر هم الأقباط المسلمون!!

جاء هذا التصريح في لقاء متلفز للشيخ الحبيب على الجفري موضحاً تلك الحقيقة التاريخية البديهية التي لربما يغفلها الكثيرون في مصر نفسها.

العامية المصرية

العامية المصرية يظن الكثيرون أنها مجرد لهجة عربية أو حتى مزيج لغات مستخدم في مصر، وصحيح أن هناك الكثير من التعبيرات العامية المصرية ترجع للغات أخرى، وهو حتى ما حدث مع اللغة المصرية القديمة بشكلها القديم فهي مثل أي لغة أثرت وتأثرت بغيرها، إلا أنها كانت أقدمهم فلذلك كان لها نصيب الأسد من التأثير على غيرها.

لذلك فإن الأغلبية الساحقة من مصطلحات العامية المصرية هي موروثات مصرية قديمة، بل أن الأمر شمل أيضاً اللهجات ما بين المنطقة والأخرى، فاللغة المصرية القديمة لا زالت متداولة بشكل ما في العامية المصرية التي تحتوي على الآلاف من الكلمات المصرية القديمة، بل أن هناك بعض الكلمات العربية الذي يظن البعض أنها عربية خالصة إلا ان لها أصل مصري قديم فهذه بضاعتنا ردت الينا.

مصر علمت العالم: اللغة المصرية القديمة وتأثيرها فى اللغات الأخرى

على الرغم من انحسار اللغة المصرية القديمة ووصولها إلى الشكل الحالي إلا ان المفارقة تكمن في أن اللغة المصرية القديمة قد أثرت في جميع لغات العالم، فالإغريق يذكرون مراراً وتكراراً في تراثهم وحتى على لسان مثقفيهم ومؤرخيهم ورحالتهم أن الاغريق قد تعلموا الابجدية من الفينقيين، ولكنهم لم يفسروا كيف وصلت الابجدية للفينيقيين؟

الأبجدية السينائية
الأبجدية السينائية

وإجابة هذا السؤال تكمن في سيناء أرض الفيروز، حيث ظهر هناك أحد أشكال الكتابة المصرية والتي تسمى الأبجدية السينائية وهي أقدم ابجدية في العالم وهي الأبجدية التي تبناها الفينقيون ثم نقلها الاغريق ثم من اللاغريق اقبتس بقية العالم لنجد في جميع اللغات أصلاً مصرياً.