في المقال السابق توقفنا عند أولي لحظات النزال ما بين “سنوهي” وغريمه الآسيوي وبينما السهام تنهمر علي سنوهي ولحظة الحقيقة تقترب فلندع سنوهي قليلاً لنتوقف عند نقطة هامة طرحت منذ عشرات السنين, أصواتاً علت تنادي بتشابهات ما بين قصة “سنوهي” وبعض القصص التوراتية.
سنوهي المصري والنبي يوسف
من المثير للإهتمام هو الربط ما بين قصة “سنوهي” وبين النبي التوراتي “يوسف”, فحتي هذه النقطة لربما لا يجد القاريء تشابهاً بين القصتين, ولكن من قال بوجود ذلك التشابه قد طرح وجود “توازي” ما بين القصتين, فسنوهي هو مصري هرب إلى بلاد كنعان وسوريا وقضى وقتاً هناك حتي أصبح مسئولاً بارزاً هناك وإستقر وكون أسرة قبل أن يعود لبلاده , بينما علي العكس فيوسف هرب من كنعان وسوريا إلى مصر وإستقر هناك وأصبح مسئولاً بارزاً ومن ثم إتحد بأسرته مصرة أخري وعاد إلى وطنه (بعد وفاته محمولاً في تابوته).
علي أنه يمكننا – وبشيء من التحفظ- إعتبار ذلك التوازي مع الأخذ في الإعتبار أن تدوين قصة سنوهي تسبق بكثير تدوين وتداول القصة التوراتية للنبي يوسف, وعلي أية حالة فذلك الإتجاه الذي يربط دوماً ما بين التاريخ المصري والقصص التوراتية علي ما يبدو سيستمر طويلاً منذ أن بدأ التنقيب علي أرض مصر لأغراض توراتية واضحة لإثبات وتأريخ قصص العهد القديم, وتلك الأساليب معروفة منذ القدم وحتي طرق إيجاد التشابه ما بين قصتان ومن ثم الزعم بأن الأحدث تدويناً هي الأصل بل وحتي محاولة إقحام نصوص مصرية في غير موضعها مثلما حدث مع لوحة النصر للملك “مرنبتاح” والتي ما أن ورد بها كلمة “يسريار” (إسرائيل) إنبري كثيرون يميناً ويساراً محاولين بلا جدوي الربط ما بين ذلك النص وبين قصة خروج اليهود من مصر.
ومن المثير للإهتمام أن الجزء التالي من قصة “سنوهي” تم ربطه هو الآخر بقصة توراتية أخري وهي صراع “داوود” مع “جالوت”, والذي إنتهي بإنتصار “داوود” الشاب علي المحارب الصنديد “جالوت” بضربة واحدة, وهو ما روته قصة سنوهي في زمن يسبق تدوين تلك القصة, حيث أن “سنوهي” إنتصر بنفس الكيفية, خلاصة القول أن ذلك الربط في النهاية لم يؤدي إلى شيء فعلياً علي أرض الواقع ولم يتمكن أحد منه الربط ما بين القصص التوراتية وبين تاريخ مصر.
سنوهي ينتصر علي عدوه بضربة واحدة
ما أن يري “ٍسنوهي” السهام تنهمر تجاهه حتي تفاداها ثم إتجه ناحية عدوه – المقاتل الآسيوي- ليلتحم معه ليضرب “سنوهي” عدوه الضربة القاتلة.
وعندما إقترب كل منا من الآخر
هجم علي فأصبته, وإستقر سهمي في عنقه
فصرخ وإرتمي علي أنفه
فأجهزت عليه بفأس الثتال
وصرخت صرخة النصر
وقفت علي ظهره وفرح القوم لذلك
عانقني “عامو ننشي” أمير “رتنو”
الحنين إلى الوطن
وعندما إقتربت قصة “سنوهي” من نهايتها نجد أن القصة تتحدث وبإفراط عن الحنين إلى الوطن, فها هو ذا سنوهي وقد تقلد أعلي المناصب في أرض “رتنو” وهو هو ينعم برغد العيش وبحبوحته, ولكنه وعلي الرغم من ذلك ينقصه شيء!
وطنه, فحنينه إلى وطنه يطغي علي أى شعور لديه وفي الفصوص التالية من القصة نجد أن “سنوهي” كانت رغبته الوحيدة أن يعود إلى وطنه .. وأن يدفن فيه.
بعدما أنهي “سنوهي” نزاله من البطل الآسيوي نجده يختم ذلك النزال بالأشعار الآتية
في يوم من الأيام فر أحد الهاربين
ولكن صيتي الآن قد وصل القصر
في يوم من الأيام كان متلكىء يتلكأ بسبب الجوع
والآن أعطي الخبز لجاري
في يوم من الأيام ترك شخص بلاده بسبب العري
والآن اتلألأ في بيض الثياب والكتان
وفي يوم من الأيام كنت أسرع في السير لأن لم يكن لدي من أرسله
والآن لدي عدد كبير من الخدم
إن بيتي جميل, ومسكني رحب
ويذكرني الناس في القصر
يخبرنا النص بوضوح عن رسالة ورغبة دفينة لدي “سنوهي”, فعلي الرغم من رغد العيش الذي يتمتع به قياساً علي قصة هروبه من مصر إلا أنه لخص ما يريد في جمل بسيطة وهي “صيتي وصل إلى القصر”, “يذكرني الناس في القصر” وهو هنا يقصد القصر المصري, أى أنه يحكي لنا أنه أصبح معروفاً في بلاده مرة أخري, وهو ما يعكس رغبته في العودة لوطنه والتي حسمها في نهاية تلك الأشعار عندما نجده يتمني أن يرأف به الملك “سنوسرت الأول” ويطالبه بإلحاح أن ينزل به الرحمة فيعطف عليه ويأذن له في العودة إلي مصر.
ليت جسمي يعود إلى شبابه
فالشيخوخة قد حلت وحل معها الضعف
وهنت ذراعي وأصبح الموت قريباً مني
عد إلى الوطن !
مع إرسال “سنوهي” لتلك السرالة المفعمة بالمشاعر لملكها, فإذا بالرد يأتي سنوهي ليلقي في قلبه الفرحة بمفاجأة لم يتوقعها أبدا, فالملك يأذن له بالعودة , وقد أورد “سنوهي” الخطابان – الذي أرسله والذي إستقبله في خطابه, ومن الملحوظ في ذلك الخطاب ذكر أحوال الملكة “نفرو” زوجة الملك “سنوسرت الثالث” حيث طمأنه الملك علي أحوالها وهو ما قد يقودنا إلى وجود صلة قرابة ما بين الملكة وبين “سنوهي” وذكر الخطاب الأحوال الجيدة للملكة وأولادها وكذلك مناصبهم وقام بتذكير “سنوهي” بالخير الذي سيناله إذا فكر في العودة إلى مصر, وعلي أية حال فقد كان رد الملك هو الآخر مفعما بالحب والحنين إلى الوطن يستميل فيه سنوهي للعودة, قام الملك بتذكير سنوهي لتركه لمصر وإستقراره في بلد أجنبية علي الرغم من أنه لم يقترف أى ذنب , سيذكره بشيخوخته وأقتراب وفاته, وبحاجته للعودة ليقبل الثري أمام أبواب القصر, سيقومون بفعل كل شيء له ما بيليق به وسيتم تحنيط جسده كما يجب أن يكون.
سيكون لك جنازة يوم دفنك
وسيكون تابوتك من الذهب ورأسك من اللازورد
ستكون السماء فوقك وستوضع فوق زحافة
ستجرك الثيران وينشد المنشدون أمامك
ستؤدي رقصة ال”موو”علي باب مقبرتك
وسيقرأون لن ما تتطلبه مائدة قرابينك
ستذبح الذبائح علي مذبحك
وستكون أعمدة قبرك من الحجر الأبيض بين مقابر الأبناء الملكيين
إنك لن تموت في بلاد أجنبية
لن يدفنك الآسيويون
ولن يلفوا جسدك بجلد الماعز
فكر في آخرتك وعد إلى مصر
عودة سنوهي إلى مصر
وبينما “سنوهي” وسط رجال قبيلته تصله رسالة مختومة بالختم الملكي المصري, فيستمر قلبه في الخفقان وما أن يفتح الرسالة تشتد فرحته ويرقص قلبه فرحاً … سيعود إلى وطنه بعد كل تلك السنين.
إرتميت علي الأرض
أمسكت التراب وأهلته علي شعري
أخذت أجرب بين المنازل فرحاً وأنا أقول:
كيف تحدث كل هذه الأشياء لخادم أضله فؤاده فأتي إلى بلاد متوحشة
يبادر “سنوهي” بالرد السريع على الملك “سنوسرت”, ومجده يذكر هروبه من مصر ولكنه لم يجب لنا علي السؤال بشكل حاسم حيث نجده يقول أنه لم يدبر لذلك ولم يفكر فيه وأنه لا يعرف لم فعلها, وفي ذات الخطاب يخبرنا سنوهي شيئاً آخر وهو أنه كان يعتبر نفسه يحكم في تلك البلاد الأجنبية بإسم مصر.
بعد وصول رسالة الملك سنوسرت بيوم واحد يغادر “سنوهي” أرض “يا” بعدما سلم ثروته إلى أولاده وجعل أكبرهم شيخاً للقبيلة في مكانه.
ومن ثم توجه للحدود المصرية عبر طريق حورس وما أن وصل هناك حتي أرسل ضابط الحدود برسالة إلى القصر الملكي, فأرسل الملك سنوسرت بسفن مملؤة بالهدايا تم منحها لأفراد البدو الذي رافقوا سنوهي, وقام سنوهي بتعريفهم فرداً فرداً إلى الموظفين الذين جائوا من قصر الملك.
سنوهي في حضرة الملك سنوسرت
وجانت لحظة اللقاء وحضر “سنوهي” في حضرة الملك “سنوسرت الأول”, ما أن وصل “سنوهي” إلى القصر حيت وجد الأبناء الملكيين في إنتظاره علي البواب الخارجية واصطحبوه إلى قاعة العرش فرأي جلالته فوق العرش وما أن رآه حتي سجد.
إرتميت علي بطني
ذهب عني عقلي في حضرته
بالرغم من أن جلالته قد خاطبني برفق
كنت كرجل خطفوه في الظلام
فرت روحي مني
وارتعش جسدي
ولم يعد لقلبي وجود في جسمي
ولم أعد أعلم إذا كنت حياً أم ميتاً
أمر الملك “سنوسرت” أحد موظفيه بأن يرفع سنوهي من علي الأرض, وأمر بإدخال الأطفال الملكيين وخاطب الملكة قائلاً: أنظري, هذا هو سنوهي الذي عاد إلينا, آسيوياً, إبناً حقيقياً من أبناء البدو.وتم لقاء سنوهي بالترحاب والأغاني وأمر الملك بتعيينه في البلاط الملكي ليكون من كبار الموظفين.
ويستطرد سنوهي ليروي لنا الفارق بين التقاليد المصرية وغيرها, فيذكر لنا أنه تم أخذه إلى منزل أحد الأمراء وتم إعداد حمام له , وبعدها تم تعطيره وإلباسه فاخر الثياب.
وجعلوا السنين تغادر جسمي وتنسلخ عني
سرحوا شعري
ألقوا إلى الصحراء بالقاذورات
وألقوا بملابسي إلى ساكني الصحراء
ألبسوني أفخر الثياب
وعطروني بأفضل العطور
نمت علي سرير وتركت الرمال لمن هما فيها
وزيت الخشب لمن يلطخ نفسه به
…. كان الملك هو من أمر بفعل ذلك
لم يحدث أن تم فعل مثل هذه الأشياء لرجل بسيط مثلي
وهآنذا أعيش يغمرني فضل الملك حتي يحين يوم وفاتي
ختم سنوهي قصته بعودته الأسطورية إلى مصر وتحقق حلم حياته بان يدفن فيها , وهو علي ماي يبدو ما تحقق كما كان يريد وأكثر بفضل عطف الملك “سنوسرت الأول”.
هل حدثت قصة سنوهي؟
ويتبق السؤال, هل كانت أحداث قصة سنوهي حقيقية أم لا؟
وحقيقة الأمر أنه لا يوجد لدينا مصادر تؤكد حدوث تلك القصة وبالمثل لا توجد مصادر تنفيها, إلا أن الصياغة الأدبية للقصة وإحترافية كاتبها ترجح وجود جزء من الخيال فيها, إن لم تكن برمتها من صنع الخيال, ولكن هذا ليس مؤكداً بشكل قاطع , لأن تلك القصة وعلي غير عادة نصوص الأدب المصري القديم القصصية تذكر أماكن وأشخاص توجد علي أرض الواقع.
سنوهي في العصر الحديث
كانت قصة بل وإسم سنوهي إلهاما للعديد من الفنانين والكتاب علي مصر العصور, ففي عام 1945 نشر الكاتب الفنلندي Mika Waltari ميكا والتاري روايته الشهيرة “سنوهي المصري” Sinuhe The Egyptian,
وتلك القصة لا يربطها بواقائع قصة سنوهي سوي إسمه أما الأحداث والحبكة الدرامية فكلها من خيال الكاتب, ولكن ذلك لم يمنع أن تحقق الرواية نجاحا منقطع النظير وصل أصداؤه إلى مصر فأثني عليها “طه حسين” بنفسه, ,وفي عام 1954 تم عمل فيلم سينمائي يحمل نفس الإسم ومستوحي من الرواية حقق نجاحاً باهراً هو الآخر وتم ترشيحه لجائزة أوسكار.
كارتون سنوحي
في عام 2007 تم عرض مسلسل الرسوم المتحركة الشهير “مغامرات سنوحي”, وعلي مدار ثلاث مواسم خاض المشاهدون مغامرات بطل المسلسل الطفل المصري القديم سنوحي مع أصدقائه, ولا داعي لذكر أن ذلك المسلسل لا علاقة له بقصة سنوهي الأصلية.