قامت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف نهر النيل والذى كان شريان الحضارة لمصر القديمة والذى لم يقتصر المصرى القديم على السكنى حوال ضفافه وإنما صال وجال عبر مياهه شمالاً وجنوباً، بالإضافة إلى ان مصر تطل على بحران وهما الأبيض المتوسط الذى أطلق عليه المصرى القديم الأخضر العظيم، وكذلك الأحمر الذى سجلت لنا الحضارة المصرية مغامرات المصريين القدماء عبره، لذلك كان من الطبيعى أن تكون المراكب جزء لا يتجزأ من الحضارة المصرية القديمة، وقد برع المصريون فى فنون الملاحة وصناعة المراكب فى فترة مبكرة جدا من التاريخ الانسانى ووصلوا لمستويات متقدمة فى تلك العلوم.

عبر النيل والبحار

مع الإمتداد الهائل لنهر النيل عبر أرض مصر وتعدد فروعه وقنواته وترعه فى العصور القديمة عما نعرفه اليوم، كان النهر هو أحد وسائل المواصلات الأساسية فى مصر القديمة، فتعددت أشكال المراكب ما بين الصغيرة المصنوعة من البردى وحتى العملاقة المصنوعة من خشب الأرز الجيد المجلوب من لبنان.

وقد استخدم المصريون النهر ليس فقط فى الابحار عبر مصر ولكن أيضا أرسلوا عبره البعثات إلى الجنوب فى بلاد النوبة القديمة بجزئيها النوبة السفلى (الأقرب لمصر) والعليا (السودان حاليا)، وقد ارسلت تلك البعثات من العصور المبكرة سواء براً أو نهراً وكان من أقدم تلك الحملات ما حدثت فى عصر الملك “سنفرو” من الأسرة الرابعة.

أما البحر فقط عرف المصريون القدماء مبكراً مهارة وفنون الابحار فيه وأشهر قصص الإبحار فى البحر الأحمر تعود للبعثات الاستكشافية التى قام بها المصريون القدماء لبلاد “بونت” القديمة والتى تقع على ساحل البحر الأحمر ( لربما الصومال أو اريتريا حاليا؟؟)

وتعود أقدم القصص لبعثات بلاد بونت إلى عصر الملك “ساحو رع”  من الأسرة الخامسة والذى توفى حوالى 2475 ق.م أى ان أقدم تاريخ مسجل لارسال المصريون للبعثات لبلاد بونت يعود لما يزيد على 4500 عام، وجدير بالذكر أن بعثة ساحو رع لبلاد بونت هى أقدم بعثة عثرنا على توثيق عليها حتى الآن وهذا لا يعنى أنها الأقدم فلربما كان معرفة المصريون ببلاد بونت وارسال البعثات لها يعود لعصر الاسرة الرابعة على أقل تقدير.

لماذا دفن المصريون القدماء المراكب؟

كان المصرى القديم يعتقد أنه عندما يبعث فى العالم الآخر فإنه سيمارس حياته كما عاشها على أرض مصر، وكان من ضمن تلك التجهيزات للعالم الآخر هو دفن المقتنيات مع المتوفى لستخدمها فى عالم الخلود، وقد كانت المراكب أحد المقتنيات التى دفنها المصريون معهم.

فمنذ العصور المبكرة وتم العثور على مراكب أو بقاياها أو حتى الحفر التى تحويها، فعلى سبيل المثال لدينا مراكب الملك “حور عحا” وعددهم 14 مركب، وكذلك مراكب للملك “خعسخموى” من الأسرة الثانية, وعثر عليهم جميعا بمنطقة أبيدوس بمحافظة سوهاج.

ومن العصور المبكرة أيضا لدينا المراكب التى تم العثور عليها فى حلون وطرخان.

مراكب أبيدوس.
مراكب أبيدوس.

وفى أبو رواش تم العثور مؤخراً على مراكب للملك “دن” من الأسرة الأولى، وفى نفس المنطقة حفرة عملاقة لدفن مركب ضخمة بجوار هرم الملك جدف رع من الاسرة الرابعة.

وأهرامات مصر لم تكمن استثناء هى الأخرى، بالاضافة إلى حفرة مركب “جدف رع” فى ابو رواش، فلدينا حفر للمراكب فى منطقة أبو صير بجوار أهرامات الملوك: نفر اف رع ونفر اير كا رع من الاسرة الخامسة، وفى سقارة حفرة لمركب بجوار هرم الملك أوناس من الأسرة الخامسة أيضا.

أما أشهر المراكب التى تم العثور عليها فكانت 6 مراكب بحالة حفظ ممتازة تم العثور عليها فى منطقة دهشور بجوار هرم الملك “سنوسرت الثالث” كانت محفوظة بالمتحف المصرى بالتحرير وتم نقلها إلى متحف شرم الشيخ.

أحد مراكب سنوسرت الثالث.
أحد مراكب سنوسرت الثالث.

ولم يكن دفن المراكب عادة مقتصرة على الملوك، بل تم العثور على حفر للمراكب بجوار مصاطب (مقابر) لكبار رجال الدولة مثل مصطبة الوزير كاجمنى فى سقارة، ومصطبة وزير آخر يدعى “بتاح شبسس” فى أبو صير.

 

مراكب أهرامات الجيزة

لم تكن أهرامات الجيزة باستثناء هى الأخرى فحول الهرم الأكبر “هرم خوفو” فى الجيزة تم العثور على 5 حفر للمراكب تم انتشال مركبين منها، وكذلك حفرتان اضافيتان تخص الأهرامات الصغيرة حول هرم خوفو ليكون المجموع حتى الآن سبع حفر للمراكب خاصة بمجموعة الملك خوفو الهرمية.

حفر المراكب بهضبة الجيزة.
حفر المراكب بهضبة الجيزة.

وقد تطابقت تلك المعطيات مع هرم خفرع الذى تمك العثور على مجموع 7 حفر للمراكب حوله هو الآخر، أما هرم من كاو رع (الهرم الأصغر) فلم يتم العثور على أى حفر للمراكب حوله حتى الآن وذلك لربما لعدم اكتمال المجموعة الهرمية للملك فى حياته وعلى اية حال لربما تكشف البعثات والحفائر عن معلومات جديدة بهذا الشأن.

وكان من الصعب على علماء الآثار معرفة الاغراض التى استخدمت فيها كل المراكب وذلك لان معظم الحفر تكون فارغة أو تحتوى على قطع صغيرة وبقايا أخشاب وذلك بسبب تدميرها أو سرقتها فى العصور القديمة، وكانت مركبى خوفو التان تم العثور عليهما استثناء مذهل بسبب حالة حفظهما المذهلة.

 

المراكب فى مصر القديمة

تعددت استخدامات المراكب فى مصر القديمة وكانت جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للابحار فى النيل، وقد استخدموها ايضا لرحلات الحج الى مدينة ابيدوس وكذلك فى الاحتفالات والاعياد، وعلى مستوى القصر الملكى فكانت الملوك لها مراكب شخصية ضخمة تستخدمها فى زيارة الأماكن المقدسة وحتى الابحار فى النيل لزيارات المواقع وغيرها من الأغراض.

المراكب فى مصر القديمة.
المراكب فى مصر القديمة.

 

مراكب الشمس

كان هناك نوع آخر من المراكب وهى المراكب الدينية فى مصر القديمة، والتى استخدمت للابحار فى السماء.

آمن المصريون القدماء أن الابحار فى السماء يتم باستخدام المراكب وقد أطلقوا على تلك المراكب “ويا إم ححو” وتعنى مراكب الأبدية، وقد كانت أشهر تلك المراكب هى مراكب الإله “رع”.

مركب النهار، معنجت.
مركب النهار، معنجت.

إعتقد المصريون القدماء أن الإله رع يبحر فى سماء النهار باستخدام مركب إسمها “معنجت” وفى الليل يستخدم مركب إسمها “مسكتت” وقد ظهرت تلك المراكب فى كثير من الجداريات طوال الحضارة المصرية القديمة.

 

وقد اعتقد المهندس كمال الملاخ ان المركبان اللتان تم العثور عليهما عام 1954 هما مراكب الإله رع “معنجت” و”مسكتت” ومن هنا ظهر مصطلح “مراكب الشمس” الذى تبنته الصحافة المصرية حتى يومنا هذا للاشارة لتلك المراكب حتى أصبحت جزءاً من مصطلحات الشخصية المصرية.

وقد وافق المهندس كمال الملاخ فى ذلك الاعتقاد عالم الآثار الشهير الراحل “سليم حسن” ومعهم عالم آثار شهير يدعى “ياروسلاف تشرنى”

وعلى الرغم من ذلك فإن تلك الافتراضات قد ظهرت بينما المراكب لا تزال بالحفر لم يتم انتشالها أو عمل اى دراسات كافية عليها، وعلى ايه حال فلا يزال يتبنى ذلك الرأى العديد من علماء الآثار ممن لهم وزنهم وثقلهم العلمى حتى الآن.

 

هل أبحرت مركب خوفو فى النيل؟

مع انتشال مركب خوفو الأولى وبدأ فحصها ومن ثم ترميمها واعادة تشييدها ظهرت فرضيات أخرى للغرض من صناعة تلك المركب، فقد ظهرت المركب مختلفة عن الشكل المتعارف عليه لمراكب الإله رع، كما أنه لم يتم العثور على أية علامات أو رموز تخص مراكب الإله رع من ضمن مقتنيات المركب، لذلك بدأت رحلة بحث جديدة عن الغرض من تشييد ذلك المركب.

فتعددت الآراء ما بين أن تلك المركب كانت للاستخدام الشخصى، او انها كانت من مراكب البعثات التى يتم ارسالها للنوبة أو حتى لبلاد بونت، وفرضيات أخرى متعددة.

إلا ان المركب نفسها كان لها ظروف خاصة جعلت عملية تحديد الغرض منها صعبة بعض الشىء، فعلى سبيل المثال لم يتم العثور على شراع أو صارى للمركب بداخل الحرف مع القطع الخشبية والحبال.

كابينة مركب خوفو
كابينة مركب خوفو

كذلك فإن كابينة المركب الرئيسية مغلقة لا تسمح بالنظر من خلالها باى شكل، فالجالس بداخلها لن يرى خارجها وهو ما لا يتفق مع فكرة أنها مركب للابحار الشخصى.

كما أنها لا يوجد بها مساحة كافية لحمل البضائع على سطحها كما كان يفعل المصريون القدماء، واذا افترضنا أنها سفينة بضائع يتم تحميل البضاع بها فى الجزء السفلى فإن جزء المركب السفلى ليست به أية مساحات تخزينية.

مراكب بعثات النوبة, والبضائع محمةل على السطح.
مراكب بعثات النوبة, والبضائع محمةل على السطح.

بل أن الموضوع إزداد تعقيداً لعدم وجود اماكن واضحة لجلوس البحارة للتجديف بالمجاديف العملاقة التى عثر عليها مع المركب.

 

مركب الرحلة الأخيرة

إلا أنه كان هناك غرض آخر للمراكب فى مصر القديمة أخبرتنا عنه الكثير من المصادر الاثرية

ذهب ليرتاح فى أفقه مثل الآلهة، وهناك فعل له مثلما فعل للإله أوزير … تم التجديف به فى قاربه الملكى عبر النيل وارتاح فى بيته الأبدى غرب طيبة.

النص السابق من بردية هاريس وفيه يتحدث الملك “رمسيس الثالث” عن جنازة والده الملك “ست نخت”، ويذكر أن تفاصيل دفن والده تمت عبر نقل جثمانه عبر مركب فى النيل نقلته من الضفة الشرقية للغربية ليدفن فى وادى الملوك.

لوحة تخيلية للمراكب الجنائزية.
لوحة تخيلية للمراكب الجنائزية.

وهو ما يمكن أن يفسر به استخدام مركب خوفو، فتلك المركب العملاقة هى التى نقلت جثمانه للضفة الغربية ومن ثم تم دفنه فى الهرم الأكبر، وما يتسق مع تلك الفرضية أن كابينة المركب مغلقة تتسق مع فكرة وضع التابوت بداخلها، كذلك فإن هذا النوع من المراكب كان  يتم سحبه عن طريق مركب أخرى وهو ما يفسر عدم وجود شراع أو صارى.

توجيه المركب والتجديف من وضع الوقوف.
توجيه المركب والتجديف من وضع الوقوف.

كانت هناك طريقة لتوجيه المراكب فى مصر القديمة تعتمد على وقوف البحارة وامساكهم بالمجاديف للحفاظ على مسار ووجهة المركب وهو ما ظهر فى جداريات كثيرة من مصر القديمة، وهو ما يمكن أن نفسر به عدم وجود أماكن لجلوس البحارة فى مركب خوفو.

 

مراكب خوفو التى أبحرت فى النيل

مع ظهور فكرة المركب الجنائزى للملك خوفو، اتخذ البحث عن الغرض من استخدام المركب الثانى منحنى جديد يمكننا تلخيصه فى رأى عالم المصريات الراحل “عبد الحليم نور الدين” فى كتابه “تاريخ وحضارة مصر القديمة” :

أما عن الأغراض التى استخدمت فيها هذه السفن، فيبدو أن واحدة منها استخدمت فى نقل جسد الملك من قصره على الضفة الشرقية للنيل إلى منطقة الهرم على الضفة الغربية منه، واستخدمت الثانية فى حفل تتويج الملك الذى كانت بعض مراسيمه تجرى على ضفة النيل. واستخدمت بقية السفن فى رحلات إلى بعض الاماكن المقدسة فى شمال مصر وجنوبها. وخلاصة القول أن هذه السفن استخدمت فى اغراض جنائزية ودنيوية وأنها لا صلة لها بمراكب الشمس، نظراً لاختلاقهما فى الشكل ولعدم العثور على الرموز المعروفة لمركب الشمس من بين الأشياء التى عثر عليها فى سفينة خوفو.

ولا تزال عملية البحث مستمرة حتى يومنا هذا، ولعل الابحاث التي ستتم على المركب الثانية تكشف لنا المزيد من الأسرار.