لم يكن هناك دافعاً أكبر من الدين للمصري القديم ليشيد ما شيد ويبنى حضارته، كان هو المحرك الرئيسي تقريبا لكل شيء تقريباً في حياة المصريين، ولكن كيف رأى المصرية القديم نفسه ديانته وكيف أثرت على حياته؟

ماذا كانت ديانة المصريين القدماء؟

المفاجئة الكبرى التي لربما ستدهش الكثيرين أن المصري القديم لم يكن هناك تعريفاً للدين في لغته القديمة!

نعم لم يكن للدين تعريفا لغوياً على الأقل في صورته المصرية الخالصة قبل أن تمتزج بعض مفاهيمه بحضارات أخرى كاليونانية والرومانية، فقد كان المصري القديم يدمج الدين في أسلوب حياته وليس العكس.

قامت ديانة مصر القديمة على فلسفة سنطلق عليها اصطلاحا فلسفة “النترية” وهى مشتقة من الكلمة المصرية القديمة “نتر” وجمعها “نترو” والتي يتم ترجمتها إلى إله فى النصوص بشكل عام، فكان المصري القديم يصف الشمس بانها “نتر” ولها أسماء وتحولات كثر فقرص الشمس المجرد هو “آتن” وشمس الصباح هي “خبرى” وفى الظهيرة هي “رع”، بل أن رع لع صيغة مؤنثة وهى “رعيت” وكلهم يشار إليهم بانهم “نتر”، ولغويا فالشمس يطلق عليها في اللغة المصرية القديمة فى بعض المراحل  “شمس أو شمش” أيضا كما ينطقها المصريون حاليا!

لنأخذ مثالاً آخر: القمر، فى اللغة المصرية القديمة يعنى “إيعح”، وتجسيده هو “خونسو” إبن “آمون” فهو سيد القمر والمسافرين، وكذلك ارتبط به تحوت رب القلم في مصر القديمة.

أما على مستوى الملوك فكل ملك متوفى هو “أوزير” رب العالم الآخر في مصر القديمة، وكذلك هو “نتر” طيب.

خلاصة القول أن كلمة “نتر” كانت تشمل مفهوماً واسعا من الكيانات البشرية والغير بشرية، التحولات والأشكال، فحتى في العالم الآخر فالكيانات الطيبة هى “نتر” وحتى شياطين العالم السفلى هي “نتر” أيضاً.

أي أن كلمة “نتر” كانت تشمل الطيب من الأمر وقبيحة، الخارق للطبيعة، الظواهر الكونية، قوى الطبيعة نفسها.

أما من نطلق عليهم اليوم آلهة بالمعنى الحرفي للكلمة مثل “آمون”, “رع”, “ماعت”، “جحوتى” ..الخ فهم أيضا تم الإشارة لهم بانهم نتر.

الآلهة المصرية القديمة.
الآلهة المصرية القديمة.

وفى النصوص المصرية القديمة نجد حتى صيغ القسم تقسم بهؤلاء النترو فعلى سبيل المثال نجد الملك “رمسيس الثانى” فى تتويجه لكبير كهنة آمون فى الكرنك والمدعو “نب ونن أف” يقسم قائلا

أقسم ب “رع” الذى يحيا لى ويحبني”

بينما لم يختلف الوضع عند العامة ففى قصة الفلاح الفصيح نجد الفلاح بعدما ضاقت به سبل الشكوى يقول

“سأذهب وأشكوك إلى أنوبيس!

أي أن تلك الفلسفة كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة المصريين القدماء وليست بالضرورة الصيغة النمطية التي لربما تتبادر إلى اذهان البعض فلم يصحو المصري القديم من نومه ليشكر رب النوم على منحه نوما هادئا او يفتح نافذته فيشكر رب الشمس أو يخرج من داره فيشكر رب الأرض الخ، كانت فلسفة قائمة على احترام كل تلك الظواهر والخوف من الضار منها وشكر النافع، كما أن المصري القديم لم يكن يمانع أبدا في دخول مفاهيم اجنبية لفلسفته الدينية فنجد في عصور كثيرة دخول معبودات آسيوية إلى مصر بل وتشييد معابد لها ولا يوجد دليل على ذلك أوضح من معبد “حورون” رب الأرض الكنعاني فى هضبة الجيزة أو حتى معبد عشتار الذى قام على خدمته شخص سوري يدعى “روما” وغيرها الكثير، فكان الاحتواء لا يشكل مشكلة للمصري القديم فلم تكن لديه مشاكل دينية تجاه أحد.

فى المرحلة الأخيرة للغة المصرية القديمة وهى القبطية تحولت كلمة “نتر” إلى “نوتر” وتمت ترجمتها إلى: قدرة إلهية، والقبطية هي امتداد اللغة المصرية القديمة ولكنها تكتب بطريقة مختلفة، نفس اللغة ولكن بخط مختلف.

تبسيطاً للقول فإن تلك الفلسفة كانت تتجاوز ما يمكن أن نطلق عليها وثنية، أو حتى توحيدية، وأن كلمة نتر تختلف من نص لآخر حسب استخدامها والمشار إليها، فما هو تعريفها إذن؟

من هم الآلهة؟

إذا وضعنا توصيفاً لكلمة إله فستختلف الكلمة من دين لآخر ومن عقيدة لآخرى، ففى الأديان السماوية هو “الله” صاحب القدرة والقوة وحده وهو خالق كل شىء ولكن لا يوجد تفسير لماهيته لأنها لا تدركها العقول، بشىء من التبسيط يمكن أن نختصر صفات الإله لإثنتين أساستين وهى القدرة على الخلق بالإضافة إلى وجود طقوس منظمة لعبادته نضيف إلى ذلك الإيمان، فتشترط الأديان السماوية على عنصرين أساسيين وهما الإيمان بالله واليوم الآخر ( القيامة والحياة الأخرى) وهو إختصار لربما يكون مخلاً ولكن دعنا نجعل منه أرضية مشتركة للبحث.

إذا طبقنا تلك الشروط فسنجد أن المصريون بلا شك قد أمنوا بوجود إله ووصفوه بجميع الصفات التى وصفتها به العقائد الأخرى من حيث قدرته اللامتناهية وعدم إدراك الأبصار والعقول له،

أما عن شروط العبادة فكانت المعابد المصرية القديمة لا تؤدى نفس الغرض الذى تؤديه المساجد والكنائس فى يومنا هذا، فهى ليست دوراً للعبادة مفتوحة للكل، كانت تسمى فى اللغة المصرية القديمة “حوت نتر” مستقر الإله وكان الكهنة فقط هم القائمون على الطقوس بداخل المعبد فهم من يعتنون بتماثيل هذا “النتر” ويؤدون الطقوس له، أما العامة فكان دورهم يقتصر على خدمات لساعات قليلة فى المعابد فى مهام مثل تحضير المؤن او حتى حمل القرابين وينتهى دورهم بإنتهاء مهمتهم، أما العامة الرغبون فى التعبد فلم يكن هذا المفهوم معروفاً لدى المصرى القديم فأقصى ما يمكن أن يصل له العامة داخل المعابد هو الساحات الامامية وفى مناسبات معينة مثل الإحتفالات والأعياد.

أما عن الألوهية فسنجد أن هناك آلهة كبار بالفعل فى مصر القديمة وعلى رأسهم الإله “رع” سيد مدينة عين شمس القديمة “إيونو” الذى تسيد مصر بقوة ونفوذ عظيمين فى فترة الدولة القديمة وبناة الأهرام ومعه الإله بتاح رب الحرفيين والصناع فى مدينة منف  وظهر لاحقاً الإله “آمون” إله طيبة الذى أصبح سيد مصر القديمة مع بزوغ نجم عائلة الملك “احمس” قاهر الهكسوس فإندمج مع الإله “رع” وأصبح آمون رع الإله الإمبراطورى الخارق فائق الشهرة الذى إستمر حتى إندثار الديانة المصرية القديمة، مع ظهور إستثنائى للإله “آتون” قرص الشمس المجرد فى عصر الملك “إخناتون” والذى عمل على إعادة هيكلة المعتقدات المصرية القديمة وإختزالها فى إله واحد فقط إلا أنه على الرغم من ذلك لم يستطع التخلص أو التنصل من معبودات أخرى مثل تجسيد الإله “رع” فى عين شمس بإسم “رع حور آختى” وكذلك الإله “شو,” ومعهم الإلهة “ماعت” تجسيد العدالة والإنتظام الكونى فى مصر القديمة فنجده يذكرهم فى ترنيمة للإله آتون فيقول

“الابتهال لرع حور آختى المبتهج في الأفق في اسمه مثل شو الموجود فى الآتن فليحيا إلى أبد الآبدين، آتون الحى، العظيم في احتفال سيد كل ما يحيطه الآتن،سيد السماء، سيد الأرض”

كذلك فإننا نجد إخناتون نفسه يقوم بتقديم الماعت نفسها كقربان إلى الإله آتون، وهو قربان شهير قامن بتقديمه ملوك مصر قبل إخناتون بكثير، بل أن الآتن نفسه كان موجودا ومعروفا قبل ألف سنة من ميلاد إخناتون نفسه فما فعله كان مشابها لما فعلته عائلة الملك أحمس قاهر الهكسوس عندما أصبح إلههم المحلى “آمون” ذو اليد العليا، ففعل إخناتون المثل مختاراً آتن هذه المرة ولكن برؤية مختلفة لم تتخلص من الماضى فى جوانب كثيرة.

إخناتون ونفرتيتى
إخناتون ونفرتيتى

إنطبقت شروط الخلق والعبادة على هذه الآلهة وغيره الكثير من آلهة مصر القديمة ولكن ظل إرتباط كلمة نتر بكل ظاهرة حتى ولو كانت شريرة يثير الحيرة فى توصيف كلمة “نتر” نفسها، خاصة أن الكثير من الآلهة فى مدنهم المحلية اتخذوا صفات الخلق وكانت لهم مستقرات هم الآخرين. بينما كانت هناك كيانات أخرى وصفت بنتر ولم تأخذ تلك الصفات ، الموضوع يزداد حيرة وتخبطأ كلما تعمقنا فيه.

موحدون ام وثنيون

مع دخول المسيحية إلى مصر على يد روادها الأوائل هرباً من بطش الإمبراطورية الرومانية التى كانت تضهد المسيحية، وجدوا ملاذهم في مصر ولم يكن هناك أي غضاضة لدى المصريون فى تقبل واحتضان المعتقد الجديد فمنهم من تحول للديانة الجديدة ومنهم من بقى على معتقده القديم، بل أن النصوص تخبرنا على سبيل المثال بان طقوس عبادة الإلهة “إيزيس” في فيلة كانت تتم جنباً إلى جنب مع دير بنفس الجزيرة، وكانت الضربة القاصمة مع تحول الإمبراطورية الرومانية فى عهد قسطنطين الأكبر إلى المسيحية، ومن ثم البدء في اتخاذ إجراءات فيما عرف باسم ” اضطهاد الوثنيين في الإمبراطورية الرومانية”  وتمت فى عهد قسطنطين الثانى الذى أمر بإغلاق المعابد ومنع تقديم القرابين تحت طائلة الموت وإزالة مذبح النصر من مجلس الشيوخ، وفى عصره بدء حتى العامة من المسحيين فى تخريب وتدمير المعابد ونهبها، واستمرت علاقة الإمبراطورية الرومانية بغير المسيحيين فى شد وجذب لفترة طويلة بسياسات مختلفة على مر الزمن.

أما فى مصر كانت تلك  القرارات التي ترتبت على هذا التحول كارثية فى مصر تحديداً فترتب عليه إغلاق المعابد بل واعتقال الكهنة واضطهادهم، وكانت واحداً من آخر المعاقل المصرية هو معبد “إيزيس” فى فيلة ، الذى تم إغلاقه هو الآخر مع تخلى قبائل البلميين النوبية عن كهنة المعبد بعد حمياتهم له لفترة طويلة، وظلت تلك القرارات تطبق فى صرامة مع وجود حاكم روماني فقاموا بتتبع واصطياد كل من كان يحاول إقامة أى طقوس بداخل المعابد باعتبارها ممارسات شيطانية، ومن هنا تم تصنيف معتقدات ما قبل المسيحية إلى “وثنية”، وفى الإسلام ظهر مصطلح الكفار.

إضهاد الرومان للمسحية الذى تحول للعكس مع إعنناق الرومان للمسيحية.
إضهاد الرومان للمسحية الذى تحول للعكس مع إعنناق الرومان للمسيحية.

ترتب على الحقبة الرومانية فى مصر تفشى الأمية فى مصر  ووصولها إلى نسب مرعبة مما أفقد المصريون الصلة لغوياً وعقائديا بتاريخهم القديم.

خاتمة

مع إعادة انتشال الحضارة المصرية القديمة مرة أخرى من تحت الرمال بفك رموز حجر رشيد بدأت الحضارة المصرية تخبرنا عن نفسها لأول مرة من قرون عدة، فعثر على نصوص تنضح بصفات الإله الخالق القادر التي لا تعد ولا تحصى، كذلك المنظومة الأخلاقية التي اتبعها المصري القديم فكان حتى قطع مجرى المياه جريمة تمنع صاحبها من الوصول إلى الجنة.

وحتى في فترات متأخرة من تاريخ مصر نجد بلوتارخ يقول على لسان محدثيه من المصريين:

المسألة ليست أننا نكرم هذه الأشياء (التماثيل) بل إننا نكرم عن طريقها الألوهية ما دامت هي بطبيعتها أشد المرايا صفاء لإظهار الألوهية، لذلك يجب علينا أن نعتبر هذه الأشياء بمثابة أداة فى يد الإله الذى ينظم كل شىء”

لذلك فإن التصنيف العادل والمنصف لحضارة مصر القديمة ومعتقدها أنها خارج إطار الأديان السماوية، فلا هى وثنية ولا توحيدية لأنها لم تأخذ نفس الإطار الفكرى لأنها ببساطة لم تقم على الأسس التى آمن بها أصحاب الديانات السماوية اليوم، مع احتفاظها بسمات الأخلاق الحميدة ونظرة راقية للإله.