في بقعة نائية من جنوب مصر كان هناك جبلان واحداً منهم يتجلي فيه الإله حورس لمنطقة “محا” والآحر شمالاً تتجلي فيه الإلهة “حتحور” سيدة منطقة إبشك، ونظراً لقدسية ذلك المكان وقع الإختيار عليه في عصر رمسيس الثاني ليبني فيه معبدان مع اجمل المعابد في تاريخ مصر، وهما المعبدان اللذان سيعرفا اليوم بإسم معبدي أبو سمبل.
رمسيس البناء العظيم
لطالما السماء موجودة, ستبقي أثاري علي ظهر الأرض
تلك العبارة هي واحدة من أشهر مقولات الملك “رمسيس الثاني” التي حفظها لنا تاريخه, فلرمسيس شخصية إستثنائية إنعكست علي العديد من إنجازات حياته وحتي تناوله للأمور, ذلك الملك الذي وصفته عالمة المصريات الفرنسية “كرستيان نوبلكور” بانه الشمس الساطعة في سماء الحضارة المصرية.
كان لرمسيس طموح غير عادي في كل شىء وتضمن ذلك مشاريعه لبناء المعابد والآثار في جميع أنحاء مصر حتي أصبح هو أكثر ملك حملت الآثار إسمه في تاريخ مصر والعالم.
عندما إتجه رمسيس لمنطقة النوبة القديمة كانت مشاريعه مختلفة عن بقية أنحاء مصر, والنوبة قديما كانت مقسمة إلى جزئين وهما النوبة السفلي والعليا ويقع جانب كبير من النوبة السفلي في مصر بينما بقيتها مع النوبة العليا في السودان حالياً، تركزت مشاريع بناء المعابد في عصر رمسيس علي النوبة السفلي مثلما فعل من قبله ملوكاً آخرين وعلي رأسهم الإمبراطور أمنحتب الثالث.
وتميزت معابد رمسيس في النوبة بانها كانت كلها منقورة في الصخر، أى أن تلك المعابد قد نحتت في الجبل مباشرة ولم تبني, وقد قام رمسيس ببناء سبعة معابد كاملة في النوبة وعلي رأسها معبدي أبو سمبل (المعبد الكبير والصغير), معبد جرف حسين, بيت الوالي, وادي السبوع, الدر وجميعهم يقعون ضمن نطاق الحدود المصرية حالياً وأخيرا معبد أكشا والذي يقع في السودان حالياً.
الغريب في الأمر أنه بعد بناء رمسيس لتلك المعابد لم يبني ملك مصري واحد معبداً إضافياً في النوبة علي مدار ألف عام كاملة فلم يبلغ أحدهم مبلغ ثراء ونفوذ وسلطان رمسيس من بعده.
بناء معبد أبو سمبل
مع حلول العام 15 من حكم رمسيس الثاني بدأ العمل في تشييد معبدي أبو سمبل وهي المنطقة التي تنقسم إلى معبدين واحد يقع شمالاً وهو المعبد الصغير والمكرس لنفرتاري زوجة رمسيس مع الإلهة حتحور “سيدة منطقة إبشك”, ثم المعبد الكبير والذي يقع جنوباً وهو مكرس للإله رع حور آختي مع الملك رمسيس الثاني.
بخلاف ظاهرة التعامد الفريدة والتي تحدث في موعدين ثابتين من كل عام في قدس أقداس المعبد الكبير فإن معابد أبو سمبل كانت إستثنائية في كل شيء, فبها مجموعة من الجداريات والمناظر وكذلك التماثيل وحتي الرسائل المغزة باللغة المصرية القديمة جعلتها محل إهتمام الزائرين والباحثين علي مدار العصور.
كان رمسيس يهدف من بناء هذان المعبدين هو إقرار سيطرة مصر علي تلك المنطقة وما يقع خلفها جنوباً من النوبة القديمة, وكذلك ليكون المعبد بمثابة بوصلة فلكية وحتي إجتماعية مصرية لسكان المنطقة وإمتدادها جنوباً.
المعبد الكبير معبد ابو سمبل
تم نقر معابد أبو سمبل في الصخر علي محور غرب- شرق أى أن واجهة المعبدين تستقبل الشمس كل يوم مع شروقها، وهي الرسالة المقصودة تماماً من رمسيس ومهندسوه والتي أثبتتها ظاهرة التعامد السنوية, إذن ذهبنا إلى واجهة المعبد الكبير فسيبدو المشهد مألوفاً لكل مصري لأنه يراه يومياً حتي وإن لم يشعر أو حتي يتذكر فصورة واجهة المعبد الكبير موجودة علي ورقة بنكنوت فئة الجنية بكامل تفاصيلها.
أول ما نراه في واجهة المعبد هي الأربع تماثيل الضخمة الجالسة وكلها للملك رمسيس الثاني وهذا صحيح بالفعل إلا ان النقوش المصاحبة لتلك التماثيل تخبرنا أن كل تمثال فيهم له إسم فمن اليمين مري إتم (محبوب الإله آتوم), مرى إمن (محبوب الإله آمون), حكا تاوي (حاكم الأرضين), رع إن حكاوو (شمس الحكام)، وهي الأسماء التي إختارها رمسيس بنفسه وهي مكررة أيضاً في تماثيل واجهة المعبد الصغير ولكن بشكل آخر.
رسالة ملغزة
بين تلك التماثيل وفوق مدخل المعبد نري منظراً فريداً من نوعه , فيه قف الإله “رع حور آختي” بجسد آدمي ورأس صقر وفوق رأسه قرص الشمس بينما الملك رمسيس الثاني مكرر مرتان علي اليمين واليسار يقدم القرابين له, المثير للإهتمام أنه هناك رسالة خفية متعلقة بذلك التمثال, فإذا دقننا النظر في ايد للإله فسنجده يمسك بعلامة تشبه رأس إبن آوى وتنطق وسر, بينما في يده الأخري علامة لسيدة وفوق رأسها ريشة وتنطق ماعت, بينما قرص الشمس يرمز للإله رع, يمكننا أن نحول تلك العلامات إلي صيغة لغوية تقرأ:وسر ماعت رع وهو لقب تتويج رمسيس الثاني الذي قام بتلغيزه في ذلك الجزء من المعبد كما فعل في مواضع عديدة من ذلك المعبد وحتي في آثار أخري له.
فوق المدخل وفي إفريز عريض نجد 22 قرد بابون يقفون بجوار بعضهم البعض، ولهذا تفسير آخر حيث أن المصري القديم قد قام بتقسيم ساعات اليوم إلى اربعة وعشرون ساعة، إثنتا عشر منهم لليل وأخري مثلهم للنهار وأغلب الظن أن تلك القرود تمثل ساعات الليل والنهار مع إضافة ساعة للشروق وساعة للغروب فيكتمل لدينا عدد الأربعة وعشرون ساعة الخاصة باليوم.
فنان يوقع الآثار
عند دخولنا لأولي صالات المعبد فسنجد ثمانية تماثيل للملك رمسيس في هيئة الإله أوزير قاضي الموتي في مصر القديمة بينما الجدران مليئة بالمناظر التي قسمها المصري القديم في المعبد باكمله إلي مناظر شمالية يتصدرها الإله رع حور آختي سيد هليوبوليس, بينما جنوباً يتصدر المشاهد الإله آمون سيد طيبة والإمبراطورية المصرية أي أن تقسيم المناظر يعكس فلسفة الأرضين (مصر) بشمالها وجنوبها, بينما أبرز مناظر أبو سمبل كانت مناظر معركة قادش والتي وثقها رمسيس في الكثير من آثاره وعلى رأسهم أبو سمبل, ومن أشهر المناظر النادرة التي يتميز بها المعبد بشكل عام هو المنظر الذي وقعه الفنان الذي قام بتنفيذه ويدعي “بياي” في ظاهرة نادرة الحدوث في مصر القديمة.
تأليه رمسيس لنفسه؟
تنتهي زيارتنا للمعبد الكبير مع دخولنا لقدس الأقداس لنجد منظراً مغايراً لمعظم المعابد المصرية, ففي المعتاد يكون المعبد مكرس لإله واحد أو إله ضمن ثالوث إلا أن قدس أقداس المعبد يحتوي على أربعة تماثيل دفعة واحدة من اليمين الإله رع حور آختي سيد منطقة هليوبوليس ، الملك رمسيس الثاني, الإله آمون رع إله طيبة والإمبراطورية المصرية , الإله بتاح سيد مدينة منف وقد إختلف علماء الآثار في السر وراء هذا العدد بل ووضع رمسيس لنفسه بداخل قدس الأقدس، وهنا يبرز النفسير الشعبي التلقائي الذي يفترض بطغيان ملوك مصر القديمة وعلي رأسهم رمسيس ومن ثم إلصاق تهمة فرعون موسي به بناء علي ملحوظة كتلك إستناداً علي قشور وشراذم معلومات خاطئة.
حقيقة الأمر أنها لم تكن أول مرة يحدث فيها ذلك في تاريخ مصر كما أنها ليست المرة الاولي التي يفعلها رمسيس فقد كررها في معابد أخري وعلي رأسها معبد “الدر” الموجود بالنوبة أيضاً, فما القصة؟
في معبد أبو سمبل برزت عدة تفسيرات وعلي رأسها تفسير عالمة المصريات “كرستيان نوبلكور” التي ذكرت في كتابها أسرار معابد النوبة أن رمسيس يمثل هنا وبشكل غير مباشر الإله “ست” إله مسقط رأس عائلة رمسيس في الدلتا وأحد الآلهة الكبار في مصر القديمة, وتستند في رأيها أن رمسيس عندما حارب في قادش كانت كتائب الجيش الأربعة هي :آمون, رع, بتاح, ست، أي أن أبو سمبل قد حمل قدس أقداسه نفس المجموعة.
وبشكل عام فإن المصريون القدماء كانت ديانتهم تختلف تماماً عما نعتاد عليه اليوم فهي فلسفة قائمة علي الإمتزاج فلم يكن لديهم مصطلحات مثل التي نعرفها اليوم:عفريت, شيطان, ملاك، قوي خفية ..الخ
وإنما أشاروا لها جميعاً وحتي إله بكلمة “نتر” بل أن الملك المصري كان يشار له في النصوص بانه “نتر نفر” الإله الطيب فالمسألة هنا ليست تأليه رمسيس لنفسه بالمعني الحالي وإنما إنضمامه لتلك المعية وحلوله كجزء أصيل منها كواحد من الأسلاف العظام، والتي يمكن أن يعتبرها البعض تأليها أو غيره.
أما آخر رسائل المعبد الكبير فكانت عبر نوبلكور أيضا التي ذكرت أن تماثيل الوجهة عددها أربعة, يليلها ثمانية تماثيل بالصالة الأولي وأخيرا أربع تماثيل بقدس الأقداس فيكون مجموعها 16 تمثال وهو الرقم المثالي لمنسوب النيل والفيضان في آخر رسائل المعبد التي أرسلها رمسيس عبر آلاف السنين.
المعبد الصغير: نفرتاري
صنع الآثار العظيمة الهائلة للزوجة الملكية العظمي نفرتاري محبوبة موت، يشرق الإله رع لخاطرها
هذا النص المدون بواجهة المعبد الصغير يلخص وبكل بوضوح مدي حب رمسيس لزوجته وحب حياته نفرتاري، والتي كرس لها ذلك المعبد ولم يكتف بذلك بل أنه قال فيها أن الشمس تشرق من أجلها وهو يهديها أعظم هدية من عاشق لمحبوبته.
واجهة المعبد الصغير تختلف عن المعبد الصغير فنجد على كل جانب تمثالان لرمسيس وبينهما تمثال لنفرتاري مماثل في الحجم بل أنه (اطول) قليلاً من تماثيل رمسيس وكالعادة وبين أقدام التماثيل ومثل المعبد الكبير نجد تماثيل لأبناء رمسيس في رسالة أخري بان المعبدان يمكننا أن نعتبرهم صورة عائلية كبيرة لرمسيس وعائلته.
وبداخل المعبد لم يختلف الحال كثيراً، فنجد أن نفرتاري مصاحبة لرمسيس في معظم المناظر كحال المعبد الكبير ولها مناظر خاصة بها بالمعبد الصغير وهي تشرق بكامل بهائها وأناقتها, وأهم تلك المناظر هو منظر تتويج نفرتاري ما بين الإلهتين “إيزيس عظيمة السحر أم الإله”, و”حتحور سيدة إبشك”, هذا المنظر الفريد الذي يكاد يكون قاصراأ على الملوك قد أمر بتنفيذه رمسيس لزوجته نفرتاري.
وفاة نفرتاري
نعلم من وثائق عصر رمسيس أنه مع حلول العام 31 من حكمه فإن معابد أبو سمبل قد أكتملت وحان وقت إفتتاحها، إلا أن آثار تلك الفترة تظهر مناظر ونصوص غاية في الغرابة, ففي لوحة قام بتنفيذها “حقا نخت” نائب الملك رمسيس لشئون النوبة نجد بها “حقا نخت” مصوراً وهو يقدم القرابين أمام نفرتاري, بينما في الجزء العلوي من اللوحة نجد رمسيس أمام الآلهة مصاحباً له إبنته “ميريت آمون” كبري بناته من نفرتاري!
علي ما يبدو أن نفرتاري قد توفيت قبل إفتتاح المعبد ولم تعش لتري ما فعله رمسيس من أجلها, فبعد ذلك العام إختفي ذكر نفرتاري من السجلات في إشارة قوية لرحيلها عن عالمنا, وهنا حل محلها إبنتها الكبري ميريت آمون التي قام رمسيس بترقيتها لملكة وأعطاها ألقاب أمها وشاركت هي في النهاية في مراسم إفتتاح المعبد.
لم يكن معبد أبو سمبل الصغير هو نهاية المطاف بين رمسيس ونفرتاري, فسابقاً كان قد أمر بتشييد مقبرة لها فيما يعرف اليوم بوادي الملكات وهي واحدة من اجمل المقابر التي شيدها الإنسان المصري القديم علي مر العصور، تلك المقبرة التي تحمل الآن رقم 66 بالوادي واجمل مقابره عي الإطلاق.
ولا يزال أبو سمبل يحمل الكثير والكثير من الأسرار ولكن .. للحديث بقية.