القروي الفصيح أو “الفلاح الفصيح” أو شكاوى الفلاح الفصيح، كلها مصطلحات تشير لنفس القصة التي لطالما رددها الأجيال في مصر منذ عصورها القديمة وحتى اليوم، وهي أحد أشهر قصص الأدب المصري القديم والتي تؤكد وترسخ مفهوم العدالة وإقرارها على القوي قبل الضعيف ونصرة المظلوم، من هو الفلاح الفصيح؟ وماهي أحداث قصته؟

 

ما هي برديات الفلاح الفصيح؟

تعود تلك القصة إلى نصوص عصر الانتقال الأول في مصر القديمة، وهو العصر الذى تلى سقوط الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام تسبب فيه ثورة شعبية قضت على الأخضر واليابس وأدت لانهيار نظام الحكم المصري، وقد كان السبب المباشر في ذلك هو تزايد نفوذ حكام المقاطعات والأقاليم على حساب الدولة المركزية فظن كل واحد منهم أن اقليمه دولة مستقلة لا تتبع كيان أكبر منها (الدولة المصرية المركزية)، وظل ذلك الوضع قائماً لفترة حتى استطاع حكام طيبة السيطرة على الجنوب ليؤسسوا مملكة جنوبية قوية بينما نشأت سلطة أخرى في الشمال كانت عاصمتها أهناسيا (بنى سويف).

أحد برديات الفلاح الفصيح, المتحف البريطانى.
أحد برديات الفلاح الفصيح, المتحف البريطانى.

وقد ظل هذا الوضع فترة طويلة في شد وجذب بين المملكتين حتى استطاع الجنوبيين توحيد القطرين مرة أخرى وإقرار دولة مركزية موحدة ليبدأ معهم عصر جديد وهو ما سمى بالدولة الوسطى (المملكة الوسطى).

أما الفترة ما بين الدولة القديمة والدولة الوسطى فسميت بعصر الانتقال الأولى وهو العصر الذي دونت فيه قصة الفلاح الفصيح.

ومن أهم ما تركه ذلك العصر على الإطلاق هو تلك النصوص البديعة التي تعتبر كنوز الأدب المصري القديم، نذكر منها على سبيل المثال نصوص الحكيم إيب ور والتي حكت عن الفوضى التي عمت البلاد، كذلك تعاليم الملك الشمالي غتى الثالث لابنه مرى كا رع وهي أروع ما كتب في التاريخ عن واجبات ومهام وأخلاقيات الملوك، وغيرها من النصوص.

ولكن كان أشهر تلك النصوص والذي طغت شهرته الآفاق هو قصة الفلاح الفصيح، وقد تم تداول هذا النص عبر العصور المصرية القديمة كمثال يحتذى به لتطبيق العدالة.

وقد دونت تلك القصة على برديات يوجد ثلاث منها بالمتحف المصري ببرلين وأخرى موجودة بالمتحف البريطاني.

وعلى الرغم من تأريخ تلك القصة إلى عصر الانتقال الأول (الأسرة التاسعة والعاشرة المصرية) إلا أن هناك اتفاق على أن تلك القصة تم تدوينها في عصر الدولة الوسطى ومن ثم تداولها طوال التاريخ المصري القديم، لأغراض أخلاقية وتعليمية، فظلت تلك القصة متداولة لعصور طويلة طوال التاريخ المصري القديم.

 

الفلاح المظلوم

اصطلح المصريون القدماء تسمية تلك القصة (الفلاح حلو الكلام)، وتبدأ بسفر فلاح من وادي النطرون يدعى ” خو إن إنبو” إلى العاصمة أهناسيا ليبيع بضائع منطقته هناك، فقام بتحميلها على ظهور الحمير ليتصرف فيها ليمكنه من توفير القوت لأطفاله، وبينما خو إن إنبو” في طريقه مر بضيعة نبيل يدعى “رنسى إبن مرو” وكان يعمل لديه مسئول يدعى “نمتى نخت”, وهنا يصف النص أن حمير الفلاح قد خطفت قلب “نمتى نخت” فأراد أن يستولى عليها هي والبضائع.

الفلاحة والضياع فى مصر القديمة.
الفلاحة والضياع في مصر القديمة.

وهنا تفتق ذهن “نمتى نخت” على حيلة لتنفيذ مخططه، فهناك طريق ضيق تحيط به المياه من جه ومن الجهة الأخرى حقل الشعير الخاص برنسى إبن مرو، فقام “نمتى نخت” بوضع قطعة قماش على الطريق حتى لا يجعل أما الفلاح سوى الوقوع في الماء، تلطيخ قطعة القماش او المضي بحميره خلال حقل “رنسى إبن مرو”

وبالفعل نجحت حيلة “نمتى نخت”، فبينما الفلاح يرجوه أن يتصرف بحكمة وأن يعطيه فرصة للمرور فإذا بالحمير تأكل من الحقل، وهنا تنتهي بالمناقشة باستيلاء “نمتى نخت” على الحمير والبضائع وطرد الفلاح من الأرض.

 

شكاوى الفلاح الفصيح

وهنا يشكو الفلاح يوماً بعد يوم ويحاجج “نمتى نخت” الذي لا يعيره آذاناً صاغية فيتوجه بشكواه إلى صاحب الضيعة النبيل “رنسى إبن مرو”، وهنا يستقبل “رنسى” شكواه ويعرضها على القضاة الذين يغفلون الأمر برمته ولكن “رنسى” يخفى ذلك القرار عن الفلاح ويقوم بعرض القضية على الملك وقتها والذي أعطاه النص لقب “نب كاوو رع” وهو على الأرجح الملك “غتى الثاني” من ملوك الشمال في عصر الانتقال الأول.

أليس العار أن الميزان مائل، ومقيم العدل منحرف

انظر هاوه العدل يرزح تحت ثقلك، مشرد من مكانه

فالمسؤولون يتسببون في الويلات، وما يجب حسابه ينحى جانباً

والمحققون يقتسمون المسروقات، أي أن من عليه وضع الأمر في نصابه يحرفه

فطن “رنسى إبن مرو” أن طريقة عرض الفلاح لشكواه بها فصاحة وبلاغة غير عادية، فهي حلو الكلام ومختصره المفيد ولذلك قرر عرضها على الملك ليرى بنفسه، كان هذا أحد النصوص التي عرضت على الملك وقرأها بنفسه فاستحسنها، وهنا أمر الملك بلا يتم الرد على شكاوى “خو إن إنبو” وفى نفس الوقت أمر بتزويد عائلة الفلاح بكل ما يحتاجونه من متطلبات بشكل كريم، وقد كان قرار الملك نابعاً من رغبته في أن يسمع المزيد من حلو كلام الفلاح.

ارفع المعاناة عنى، فانا مثقل بالهموم

كانت هذه أحد أشهر الجمل التي تلفظ بها الفلاح في شكواه، فبالنسبة إليه ما حدث هو كل حياته بينما بالنسبة للسلطة هو صراع ما بين فلاح ومشرف على ضيعة ومالكها، ولكن تطور الأمور وعرضها على الملك ومن ثم اتخاذه للقرار قد جعل للقصة منحنى آخر استمر فيه الفلاح يشكو لمدة تسعة أيام حتى بلغ اليأس منه مبلغاً لدرجة التهديد بالانتحار.

كيف يشكو إليك الفقر الذي دمرته، لا تكن ثقيلا ولا خفيفا

لا تكن سريعا ولا بطيئا، لا تخفِ وجهك عمّا تراه

لا تعمِ عينيك عمّا تراه، لا تكن متراخيا وأعلن كلمتك

ها أنا أشكو إليك ولكنك لا تسمع، سأذهب وأشكوك إلى أنوبيس

لم يكن لجملة ” سأذهب وأشكوك إلى انوبيس” – على الأرجح- سوى أحد المعاني وهو أن الفلاح سيشكوه للإله انوبيس إله وادي النطرون، أو انه يهدد بقتل نفسه والشكوى لأنوبيس في العالم الآخر.

ومما زاد الموضوع تعقيداً ان الفلاح في مجمل شكواه قد سب رنسى ابن مرو وكانت لهجته قاسية كما يتضح في النص مما حذى بالعاملين في ضيعته أن يقوموا بضرب الفلاح وعقابه وهو ما جعل الفلاح يقدم على التهديد في شكواه الأخيرة بالانتحار, وقد بلغت عدد شكاوى الفلاح الفصيح تسعة شكاوى نجت جميعها في نص البردية.

قرر الفلاح مغادرة الضيعة بعد شكواه الأخيرة وإهانته بسببها، وهنا استدعاه رنسى إبن مرو بنفسه وأقام العدل.

 

 أقم العدل

انتهت قصة الفلاح الفصيح بان أعاد له “رنسى إبن مرو” جميع ممتلكاته (حميره وبضائعه) كما أنه منحه أملاك “نمتى نخت” كتعويض عما جرى له ليصبح الفلاح الفصيح في محل “نمتى نخت” ويصبح “نمتى نخت” في فقر وبؤس الفلاح قبل القرار، ليكتب هذا القرار سطور النهاية السعيدة لتلك القصة.

 

هل حدثت قصة الفلاح الفصيح؟

أغلب الظن أن تلك القصة لم تحدث، ولكنها دونت في عصر الدولة الوسطى (العصر الذهبي للأدب المصري القديم) كأحد الأمثلة على تطبيق العدل وأن الظلم ساعة والعدل باق للأبد.

يوحى النص أيضاً بأن كتبته من الكتبة المحترفون الملمون بقواعد لغة مصر القديمة وكذلك استخدامها مما يعني أن كاتبيها كانوا من المتعلمين، على أنه لا يوجد ما لا يمنع أن تكون القصة قد حدثت بالفعل، ولربما لن نعلم الحقيقة أبداً.

على أية حال فقد ظلت قصة الفلاح الفصيح من القصص المتداولة طوال تاريخ المصري القديم والتي تم تعليمها للأجيال واحداً تلو الآخر لترسيخ مفهوم العدالة وإقرارها.

يذهب البعض لأن يؤول تلك القصة بأنها تقر مفهوماً آخر وهو نزاهة الحكام والمسؤولين في مصر القديمة, ويظنون أن لذلك بعد سياسي أو دعائي أو حتى أن الأمر برمته مختلق لترقية الحاكم على رعيته, وهنا لا يمكننا أن نفترض أن مجتمع مصر القديمة وحتى حكامها كانوا مجموعة من الملائكة لا يأتيهم الباطل ولا يخطئون, فهم بشر عاديون مثلى ومثلك لهم أحلامهم وطموحاتهم وحتى شرورهم ، إلا أن مفهوم العدالة في مصر القديمة كان مفهوماً صارماً وشاملاً يقع عبئه الأكبر على أكتاف الملك نفسه فهو المسئول عن إقرار العدل ليس بين رعيته فقط ولكن على الأرض كلها, إن ذنباً مثل قطع قنوات المياه لا يمكن المصري القديم من بلوغ العالم الآخر والجنة, هكذا جاءت في ما يعرف ب”كتاب الموتى”, ففي نصوص إنكار الذنوب ينكر الإنسان فعل ما هو أهون لكى يبلغ جنات النعيم, فما بالك بالسرقة والخداع والظلم المباشر.

وعلى أية حال ظلت تلك القصة متداولة في مصر القديمة لا يعرفها سوى الدارسون في العصر الحديث حتى جاء مصري قديم عاش بيننا يدعى “شادي عبد السلام” وأعاد القصة وأبطالها للحياة لنراهم رؤى العين.

 

شادي عبد السلام: شكاوى الفلاح الفصيح

شادي عبد السلام او (روح من مصر القديمة) كما أحب أن أسميه، هو المخرج العالمي الذي كانت أعماله عن مصر القديمة تبلغ حد الكمال ولم يستطع ولن يستطع أحد أن يضاهى ما أنجزه وأخرجه في هذا المجال حتى يومنا هذا ولربما لن يحدث.

قصة الفلاح الفصيح كما رآاها شادى عبد السلام.
قصة الفلاح الفصيح كما رآاها شادى عبد السلام.

في فيلم مدته حوالي 20 دقيقة بعنوان “شكاوى الفلاح الفصيح” عرض المرحوم شادي عبد السلام قصة الفلاح الفصيح بإبداع لا متناهي سواء في السيناريو والحوار، الأزياء، الاكسسوارات، فعل شادي العمل الكامل وكأنه عاد بالزمن إلى مصر القديمة نفسها.

ومن أهم ما فعله بإخراجه ذلك العمل هو أنه جعلنا نرى الفلاح الفصيح رؤى العين في لمحة رائعة من مصر القديمة، ليفعل مثلما فعل المصريون القدماء من ترديد تلك القصة للأجيال واحداً بعد الآخر، لتبقى القصة متداولة حتى يومنا هذا.