مؤامرة الحريم: قصة مؤامرة إغتيال رمسيس الثالث
مؤامرة الحريم: قصة مؤامرة إغتيال رمسيس الثالث

يمتلىء التاريخ بالعديد من القصص المثيرة وحتى الأغرب من الخيال, وليس تاريخ مصر باستثناء فهو أيضاً ثري بالأحداث والمواقف الغريبة وحتى المؤامرات ومحاولات الإغتيال والتى كان على رأسها قصة إغتيال الملك “رمسيس الثالث” آخر بطل ملك بطل مصري.

 

 رمسيس الثالث

الثناء لك يا ملك مصر، وشمس الأقواس التسعة، امنحنا نفس الحياة الذي هو منحتك حتى نخدم صليك.

هو الملك الذى توج بلقب “وسر ماعت رع حقا أون”  فى محاكاة للقب رمسيس الأكبر (رمسيس الثاني) ولم يكن هذا من فراغ فقد أثبت رمسيس الثالث جدارته فى النصف الأول الأول من فترة حكمه فقد خاض حروبا فى جبهات عديدة وأنقذ مصر من محاولة غزو “شعوب البحر” وكذلك الليبيين, ليطلق عليه علماء المصريات لقب “آخر بطل مصري”.

 

رمسيس الثالث :نصير المرأة المصرية

ولقد حفظت كل سكان البلاد أحياء يُرزقون، سواء أكانوا أجانب أم من عامة الشعب أم من أهل المدن ذكورًا أم إناثًا، وخلصت الرجل من مصيبته، ومنحته الحياة، وخلصته من الغاشم الذي اضطهده، وضمنت لكل الناس سلامة في مدنهم.

بعد نهاية النصف الأول من فترة حكم “رمسيس الثالث” كان جل ما حدث هو حروب ومعارك وضعت الشعب المصري والبلاد تحت ضغط كبير, وتخبرنا المصادر الأثرية أن “رمسيس” لم يقم بأعمال عسكرية بعدها وإنما إتجه داخلياً لتخفيف الضغط والأعباء عن المصريين فبدأ بمتابعة إستقرار الأمن الداخلي وإقرار العدالة , وقد تفاخر رمسيس الثالث بما فعله مع رعيته من البسطاء والفقراء.

رمسيس الثالث يصرع الأعداء أمام الإله آمون, معبد هابو.
رمسيس الثالث يصرع الأعداء أمام الإله آمون, معبد هابو.

فأنشأ لهم الحداق العامة  والمنتزهات وجملها بالأشجار ليستظل بها الناس, التى يستطيعون فيها الترفيه عن نفسهم, وهنا ظهرت مشكلة أخري فالنساء تتعرض لمضايقات فى الشوارع  والطرقات خاصة من الأجانب المرتزقة فإتخذ رمسيس قراره بأن تمر دوريات الشرطة فى كل مكان للحد من هذه الظاهرة, كما أنه أمر هؤلاء المرتزقة بإلتزام حصونهم وفرض علي كل من يتعدى أوامره عقوبات مغلظة حتى إنعدمت الشكاوي, وقد ظلت البلاد فى حالة إستقرار حتى نهايات عصر الملك رمسيس الثالث والتى غيرت كل شيء.

 

بداية النهاية

مع أواخر عصر رمسيس الثالث بدا وكأن أركان دولته فى حالة وهن سببتها التكلفة الباهظة للحروب والتي أرهقت خزينة الدولة المصرية وظهر تأثير هذا الإنهاك الإقتصادي فى تلك الفترة, إلا أن العام التاسع والعشورن من حكمه قد شهد حدثاً فى غاية الأهمية وهو بدياة تجهيزات عيد “سد” وهو عيد اليوبيل الذى كان يتم فيه تجديد حيوية وشباب الملك، وقد كلف “رمسيس” وزيره “تا” (تو) بالإشراف على تلك المراسم

قٌرية دير المدينة.
ٌقرية دير المدينة.

السنة التاسعة والعشرون، في عهد جلالة الملك «رعمسيس الثالث» أول احتفال بالعيد الثلاثيني. لقد أمر جلالته بتكليف عمدة المدينة الوزير «تا» ليقوم بتنفيذ التعليمات العادية في بيوت العيد الثلاثيني ليذهب إلى بيت «رعمسيس» محبوب «آمون» (رمسيس الثاني) الإله الطيب.

وقد شهد ذلك العام حدثاً من نوع آخر كان بمثابة دق ناقوس الخطر وبداية نقطة اللعودة فى بلاط “رمسيس”.

 

نحن جوعي

عهد ملوك الدولة الحديثة لصفوة من الفنانين والحرفيين لتشييد وتزيين مقابرهم, ومنذ  عصر الملك “تحتمس الأول” تأسست قرية فى رحاب الوادي أطلق عليها “ست ماعت حر إمنتي واست” مكان الحق غرب طيبة, وهى القرية المعروفة الآن باسم دير المدينة، وقد أغدق الملوك على حرفيي تلك القرية ووفروا لهم رغد العيش وكذلك الباهظ من الأجور, إلا انه كان من الواضح أن الوضع الإقتصادي السىء لتلك الفترة قد إنعكس على أحوال دير المدينة.

فى ذلك العام حدث أول إضراب عمالي مسجل فى التاريخ وهو الإضراب الذي قام به عمال وفنانو دير المدينة بعد تأخر اجورهم وجرايتهم وقلتها, ورفعوا اللافتات وأضربوا عن العمل تماماً.

ليس لدينا ملابس ولا زيت ولا سمك ولا خضر، أرسلوا للملك سيدنا العظيم بخصوص هذه الأشياء، وكذلك أرسلوا للوزير رئيسنا حتى يمدنا بما نعيش به.

إخترق العمال جدران الجبانة الخمسة وإتجهوا ناحية المعابد الجنائزية الضخمة إحتجاجاً على سوء الأوضاع فنعلم أنهم إتجهوا للمعابد الجنائزية للملوك “تحتمس الثالث, “مرنبتاح”, “رمسيس الثاني”, وعلى ما يبدو أن هذا الإضراب قد إنتهي بشكل جيد على الأقل فى عصر “رمسيس الثالث”، إلا أن هناك بعض العلماء يربط ما بين هذا الإضراب وبين واقعة أخري, مؤامرة على وجه التحديد أرادت إستبدال رأس السلطة فى مصر وإنهاء حياته.

 

مؤامرة الحريم

كعادة ملوك مصر القديمة كان لرمسيس الثالث زوجة رئيسة (زوجة ملكية عظمي) والتى تنجب ولي العهد ومن ثم عدد من الزوجات الثانوية وحتى المحظيات, وفى حالة رمسيس الثالث كانت زوجته العظمي هى “آست تا حمجرت” أو “إيزيس” والتى أنجبت له ولي عهده وهو “رمسيس الرابع”, بينما كان من أبرز زوجاته الثانوية ملكة تدعى “تي” والتي أنجبت له العديد من الأبناء وعلى رأسها إبنة رمسيس الثالث الوحيددة ” دوات إن إبت”, وخمسة أولاد معروفين لنا حتي الآن أهمهم هو الأمير “بن تا ور”.

يبدو أن قصر “هابو” والذي خصص للحريم كانت تدور بين جدرانه المؤامرات, فضلعت الملكة المدعوة “تي” فى أشهر أحداث عصر “رمسيس الثالث” وهو الشروع فى إغتياله.

كانت خطة تلك المرأة أن يتم إغتيال الملك “رمسيس الثالث” ومن ثم تتويج إبنها “بن تاور” مكان والده، ومما زاد من حيرة المؤرخين أن تلك الملكة لم تكن هى وإبنها هم المتآمرين الوحيدون فقد إنضم لهم أناساً من صفوة المجتمع المصري وعلى مسئول رفيع أطلق عليه النص “با بك آمون” وكذلك ساقي ملكي يدعي “مسد سو رع” بالإضافة إلى شخصيات أخري سنتستعرض بعضها فى السطور التالية.

وصلت إلينا تلك المؤامرة عن طريق بردية عرفت بإسم “بردية تورين القضائية” والتي ذكرت التحقيقات والمحاكمة ونتيجتها, ومن المثري للإهتمام فى نص البردية هو ذكر المتآمرين بأسماء وهمية تعكس إحتقار كاتب النص لهم  فنجد من يدعي “مسد سو رع” ويعني الإله  رع يمقته وهكذا , ما عدا “بن تا ور” الذي ذكر بإسمه الحقيقي.

بردية تورين القضائية.
بردية تورين القضائية.

إستطاع المتآمرين إستمالة آخرين وبلغ عدد المتآمرين المذكورين فى نص البردية حوالى 38 شخص, وإستطاع المتآمرين بالفعل تنفيذ فعلتهم وكان من الواضح أنهم فشلوا فى فعلتهم ولم يمت “رمسيس الثالث” ولكنه تأثر بشدة بالإعتداء وهو ما سنعرفه لاحقاً.

علي أية حالة تم تسليم المتآمرين للعدالة ووضع رمسيس الثالث بين يديهم سلطات التحقيق والإدانة بل وحتى تقرير العقوبة اللازمة وقد أخبرتنا نصوص البردية بخمسة محاكمات كان نتيجتها الحكم بالإعدام حرقاً على 28 من المتهمين, بينما سمح لعشرة منهم بأن يأخذوا حياتهم بأيديهم وكان من ضمنهم “بن تاور” أما مصير الملكة تى فلم تذكر البردية أى شيء عنه.

ومن المثير للإهتمام أن هؤلاء كانوا من ذوي التأثير فى الحكومة المصرية فنجد أنه فى مرحلة من مراحل المحاكمات نجحوا فى إستمالة اربعة من القضاء الذين أضيفوا لقائمة المتهمين لاحقاً  وحكم على إثنان منهم بقطع الأذان وجدع الأنوف بينما الثالث تم تعنيفه لفظيا والرابع لم نعرف عقوبته.

 

كيف مات رمسيس الثالث؟

لم تذكر نصوص المحاكمة ماذا حل بالملك ولكننا نعلم أنه كان على قيد الحياة وقت المحاكمة وأن المتآمرين فشلوا, وقد ظلت هذه المسألة محيرة للعلماء على مر العصور, فهناك من إعتقد أن المؤامرة تمت على حياة الملك بتسميمه وقد ناقش عالم المصريات “بوب براير” تلك الفرضية فى فيلم وثائقي كان غرضه التعرف على مومياء “بن تاور” وأرفق وقتها بعض الإحتمالات المنطقية التى تدل على إستخدام السم.

إلا أنه مع إنطلاق مشروع فحص المومياوات الملكية باستخدم تقنية CT SCAN بدأت ثنايا ذلك اللغز تتكشف, فإشراف د.سحر سليم ود.زاهي حواس تم فحص مومياء “رمسيس الثالث” وأثبتت الفحوصات إستخدام مكثف للكتان حول رقبة الملك من المحنطين ليخفوا به جرحاً قطعياً عميقا وصل لعظام الرقبة نفسها وهو ما حسم الشكوك بخصوص محاولة الإغتيال وأنها تمت بإستخدام نصل السكين.

فحص الأشعة الذي يبين جرح رقبة رمسيس الثالث.
فحص الأشعة الذي يبين جرح رقبة رمسيس الثالث.

كما كشفت الأشعة أن الإصبع الكبير للقدم اليسري (الإبهام) مقطوع, بدون وجودآثار لشفاء ذلك الجرح أى أنه وقع مباشرة قبل الوفاة, كما أن المحنطين قد وضعوا 6 تمائم حول تلك المنطقة لضمان شفائها فى العالم الآخر.

وفى عام 2016 تم نشر نتائج فحوصات المومياوات الملكية فى كتاب Scanning The pharaohs ليحسم الجدل ولو مؤقتاً.

 

بن تا ور: الأمير المتآمر

تم إكتشاف خبيئة الدير البحري فى عام 1881 وهى مجموعة من المومياوات الملكية وأفراد الأسر المالكة أنقذها كهنة الأسرة الواحد والعشرون بعد سرقة مقابر وادي الملوك, ومن ضمن المومياوات الملكية التي عثر عليها فى الخبيئة كانت مومياء الملك “رمسيس الثالث”, وقد كان هناك العديد من المومياوات التي لم يتم التعرف عليها وأشهرها تلك المومياء الصارخة التي حملت إسم  Uknown man E أو الرجل المجهول E.

المومياء لشخص تظهر ملامحه وكأنه يصرخ صرخة عذاب سرمدية بينما ذراعاه ممتدتان أماه, كما ان المومياء يبدو أنها لم تحظ بتحنيط جيد.

مومياء الأمير "بن تا ور"
مومياء الأمير “بن تا ور”

تعددت آراء علماء المصريات حول هوية صاحب المومياء وكان من أبرز تلك الآراء أن هذه المومياء تخص الأمير “بن تا ور” إبن رمسيس الثالث ولكن كان هذا الإحتمال يواجه صخرة كبيرة تتمثل فى حقيقة أن هذا الأمير قام بجرم فادح وخيانة عظمى فكيف إنتهى به الحال مع مومياوات ملوك مصر.

ولكن المفاجئة حدثت مع ترجيح فحوصات الحمض النووي لان بن تا ور على الأرجح هو إبن رمسيس الثالث, وهنا تبقى الإجابة على كيفية وصول المومياء لخبيئة الدير البحري وهو ما يقودنا لنقطة أهم وهي مدي تأثير المتآمرين فى الحكومة المصرية وقتها وصلاحياتهم التي مكنتهم من إنقاذ ذلك الأمير ومحاولة منحه حياة أبدية لائقة بقدر المستطاع، وهو ما يقودنا لربما للربط بين إضراب عمال دير المدينة الذي ذكرته فى أول المقال وبين تحريض هؤلاء المتآمرين أو لعبهم دور ما فى تدعيم هذا الإضراب .. ولا يزال البحث مستمراً