تعددت الكشوف الأثرية في مدينة الأقصر العريقة ولا زالت تبوح بأسرارها حتى الآن لتفاجئنا بما لم نكن نتوقعه، وقد ارتبطت الكشوف الأثرية بأسماء معينة علقت إلى الأبد في أذهان الناس فلا يوجد شخص على وجه الأرض لا يعلم من هو “هوارد كارتر” مكتشف مقبرة الملك “توت عنخ آمون” على سبيل المثال، إلا أن الكشوف الأثرية في مدينة الأقصر قد ارتبطت باسم آخر تكرر كثيرا وهو “عبد الرسول”، تردد اسم آل “عبد الرسول” طوال تاريخ الكشوف الأثرية في تاريخ الأقصر بين السلب والإيجاب، الاتهامات والإشادة، فمن هم آل عبد الرسول؟
القرنة
أحد الأخوان عبد الرسول ووالدته الحاجة فندية.غرب الأقصر تقع قرية صغيرة بدأت منها حكايتنا وهي “القرنة” أو “شيخ عبد القرنة”، حيث كان يعيش الإخوة الثلاثة عبد الرسول مع والدتهم الحاجة “فندية”. كان أكبر الأخوان هما أحمد ومحمد عبد الرسول اللذان بدأت حكايتهما مع الآثار المصرية عندما تصدر اسمهما الأخبار عام 1881 مع الكشف المذهل لخبيئة الدير البحري، ولمن لا يعلم فقد شهد التاريخ المصري القديم عمليات نهب موسعة لمقابر وادى الملوك أواخر الأسرة العشرون مع نهاية عصر الملوك الرعامسة، وقد انقسمت مصر بعد هذه الأسرة إلى سلطة مركزية شكلية في الشمال مع وجود قوة كهنوتية تفرض سيطرتها على الجنوب المصري، ومع عمليات السرقة الموسعة كان على الكهنة فعل شيء لإنقاذ ما تبقى من تراث ملوكهم ومن هنا نشأت فكرة خبيئة الدير البحري.
أنقذوا ملوككم
فيما يعرف بالمقبرة DB 320 أو (الدير البحري رقم 320) قام الكهنة على مراحل عدة بتجميع جثامين ملوكهم القدامى في تلك الخبيئة وأعطوا كفناً لمن لا كفن له. وتابوتاً لمن لا تابوت له حتى يذهبوا إلى العالم الآخر في سلام. بأفضل وضع ممكن في تلك الظروف. وقد اشتملت تلك الخبيئة على أسماء كان علماء الآثار يظنوها ضرباً من الخيال مثل الملك “أحمس” قاهر الهكسوس، الإمبراطور “تحتمس الثالث” وكذلك أشهر ملوك مصر القديمة “رمسيس الثاني”، بل أن الخبيئة اشتملت أيضا على أفراد من الأسر المالكة والسلك الكهنوتي. ليستقر هؤلاء الملوك في مثواهم حتى أيقظهم علماء الآثار من مرقدهم مرة أخرى.
العنزة التي كشف السر
مع الكشف عن خبيئة الدير البحري عام 1881 على يد عالمي الآثار “إيميل بروجش” و “أحمد باشا كمال” بتكليف من عالم الآثار “جاستون ماسبيرو” رئيس مصلحة الآثار وقتها. تصدرت الصحف وأهمها الأهرام رواية اكتشاف خبيئة الدير البحري وانتشرت رواية عجيبة تتحدث عن عنزة شردت من الأخوان عبد الرسول ومن ثم سقطت في البئر المؤدى للخبيئة ومن ثم نزل الأخوان ورائها ليجدوا المفاجأة المذهلة بانتظارهم ويقرروا كتمان السر والاستفادة منه بأقصى السبل الممكنة عن طريق بيع هذه الآثار في السوق السوداء على فترات، بينما ينتظروا ثرياً يستطيع تحمل شراء الكنز دفعة واحدة وتهريبه خارج البلاد.
الأخوان والخبيئة
في واقع الأمر فإن تاريخ عثور الأخوان على الخبيئة ليس قبل 1871 بأي حال من الأحوال وقد ظلا يبيعان من مقتنياتها طوال عشرة أعوام كاملة فى زمن كانت تجارة الآثار فيه أمراً شائعاً سواء بشكل رسمى أو غير رسمي، سواء بالقانون أو بخرقه، وتشير الدلائل إلى أن رواية العنزة على الأرجح ليست سوى محض خيال وأن الأخوان كانا بالفعل من نباشى القبور المحترفين تظلهما مظلة دبلوماسى نصف تركى يدعى “مصطفى أغا عياد”، والعجيب فى الأمر أن ظهور الآثار بشكل مكثف فى أسواق أوروبا ما بين 1871 و 1881 قد أثار الشكوك حول كشف أثرى مرتبط بالأقصر وتم تضييق الخناق حتى تم الإشتباه فى الأخوين، وقد تم القبض على أحمد عبد الرسول وإستجوابه فى مديرية أمن قنا على يد رئيسها “داوود باشا” الذى لم يدخر جهداً فى استجواب أو حتى تعذيب “أحمد عبد الرسول” بل أنه تسبب له فى عاهة مستديمة جعلته يعرج طوال حياته ولكنه لم يبح بالسر أبداً، وشائت الأقدار أن يشهد أعيان القرنة فى صف “أحمد” شاهدين له بالنزاهة والاستقامة، وهو ما يدل على أن تلك الخبيئة كانت مصدر دخل القرية كلها وليس الأخوان فحسب، وقد جسد المخرج الراحل “شادى عبد السلام” تلك القصة فى تحفته الشهيرة “المومياء” عام 1969.
كشف سر الخبيئة
تمدنا وثائق تلك الفترة وعلى رأسها مذكرات “جاستون ماسبيرو” أنه نشب خلاف بين الأخوين فى توزيع القسمة من المسروقات وأن “احمد” طالب بنصيب أكبر لتلقيه هذا الوابل المرعب من التعذيب وقد وصلت الأمور لطريق مسدود هدد بإفشاء السر، فقام “محمد عبد الرسول” بخطوة غير متوقعة وذهب بنفسه إلى مديرية أمن قنا ليخبر “داوود باشا” بالسر الذى يبرق على الفور للقاهرة ليبلغهم بالأخبار وكان “ماسبيرو” وقتها خارج البلاد فذهب نيابة عنه وفداً من القاهرة على رأسه “أحمد باشا كمال” (مترجم المتحف وقتها)، تحت إشراف “إيميل بروكش” نائب ماسبيرو، وقد عثرا على الخبيئة وقتها فى ظروف حرجة متوترة خافا فيها على حياتهما مع وضع أيديهما على ذلك الكشف الذى لربما لن يغادرا الأقصر وهو فى حوزتهم وهما على قيد الحياة.
وداعا ملوك مصر
تم نقل مقتنيات خبيئة الدير البحرى بإشراف “جاستون ماسبيرو” عبر الرفاص النهرى إلى القاهرة وقد ذكر ماسبيرو فى مذكراته أن الرجال والنساء خرجوا على ضفاف النيل ليشاهدوا الرفاص وقد علا عويل النساء بينما أطلق الرجال الأعيرة النارية على شرف ملوكهم القدماء وقد راى ماسبيرو أن ذلك لم يختلف كثيرا عما لاقاه هؤلاء الملوك من تكريم وقت دفنتهم الأولى على أرض مصر من آلاف السنين، فالزمن يعيد نفسه بتطابق مذهل ليربط الماضى بالحاضر فى لفتة ولو بسيطة، وظلت معظم مومياوات الخبيئة فى عهدة المتحف المصرى بالتحرير، ونقل بعضها لاحقاً إلى متحف الأقصر، ومن ثم نقل قطاع كبير منها إلى المتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط.
خبيئة أخرى
فى عام 1898 كشف عالم الآثار الفرنسى “فيكتور لورييه” عن خبيئة أخرى بوادى الملوك، وكانت عبارة عن تسع مومياوات فى غرفة جانبية بالمقبرة رقم 35 بوادى الملوك وهى مقبرة الإمبراطور المصرى “امنحتب الثانى” ويشير عالم الآثار زاهى حواس أن آل عبد الرسول هم من أرشدوا لورييه إلى الخبيئة ليبدأ تاريخاً ناصع البياض لتلك الأسرة مع الكشوف الأثرية على الرغم من البداية الغير مبشرة.
حسين عبد الرسول ومقبرة توت عنخ آمون
صمت التاريخ عن آل عبد الرسول لفترة حتى 4 نوفمبر عام 1922 وإكتشاف مقبرة الملك “توت عنخ آمون” بوادى الملوك على يد عالم الآثار الإنجليزى “هوارد كارتر”، وقد ذاع صيت هذا الخبر ليشمل شتى بقاع الأرض ويخلق حالة من الهوس بمصر وبالملك “توت عنخ آمون” الذى اعطوه لقب “الملك الذهبى” مع الكميات الهائلة من الكنوز التى تم العثور عليها بمقبرته وكل هذا فقط لانها نجت من سطو اللصوص فى العصور القديمة، وعلى الرغم من تواضع المقبرة وصغر حجم الدفنة إلا أن الكنوز المستخلصة منها قد فاقت كل التوقعات.
وفى الظل إنزوى إسم من عائلة “عبد الرسول” وراء هذا الكشف المذهل وهو الطفل “حسين عبد الرسول” الذى لم يتعد عمره 12 عاماً وقتها، وتشير الروايات إلى أن حسين كان يعمل ساقياً للبعثة يحمل المياه على ظهور الحمير فى ذلك الزمن، إكتشف “حسين” الدرجة الأولى من السلالم المؤدية لمدخل المقبرة وهرع لإخبار “كارتر” بكشفه، ليضاف ذلك إلى سجل مشرف لعائلة عبد الرسول فيما يتعلق بالآثار المصرية.
ولحسين (الشيخ حسين لاحقاً صورة شهيرة وهو صبى يرتدى قلادة الملك “توت عنخ آمون” بأمر من “كارتر” نفسه الذى أمر مصور البعثة بتصويره وأهدى حسين الصورةـ، وفى واقع الأمر وعلى الرغم من أن “حسين” لم يشارك فى اعمال البعثة وقتها إلا وقد ظل الشيخ حسين يتفاخر بهذه الصورة حتى وفاته والعجيب أنه كان يمسك تلك الصورة واقفاً أمام معبد الرامسيوم فى البر الغربى متفاخراً أما السياح بانه من إكتشف مقبرة “توت عنخ آمون” وقد ظل يفعل ذلك حتى وفاته عن سن يناهز الثمانون عاماً وقد سار على نهجه إبنه فيما بعد واقفاً فى نفس المكان ليردد نفس القصة.
على عبد الرسول وسيتى الأول
على عبد الرسول او الشيخ على، هو فرد آخر من سلالة آل “عبد الرسول” إرتبط إسمه بالملك “سيتى الأول” والد الملك “رمسيس الثانى”، ولذلك قصة مرتبطة بالمقبرة رقم 17 فى وادى الملوك وهى مقبرة الملك “سيتى الأول” نفسه، كان اول من إكتشف مقبرة سيتى الأول هو المغامر الإيطالى النصاب “جيوفانى بلزونى” وقد رافقه “محمد عبد الرسول” والد “على عبد الرسول” وكان وقتها يعمل مقاولاً للعمال فى الحفائر، أثناء العمل لاحظ “محمد عبد الرسول” درجات منسية تؤدى لغرفة لربما تحتوى على كنوز فقرر ردم ذلك الجزء لإبعاد أنظار بلزونى عنه وقد نجح “محمد” فى ذلك وسلم السر إلى إبنه “على عبد الرسول” ليلقى على عاتقه كشف سر تلك الدرجات.
فى عام 1952 وبعد ثورة 23 يوليو تقدم الشيخ “على” بطلب إلى مصلحة الآثار للحفر وإكتشاف السر وقد قوبل طلبه بالموافقة وقتها وبدأت أعمال الحفر عام 1961 ولكن فجأة توقفت الأعمال مع إنشغال مصر باكملها وقتها بمشروع السد العالى وتم إيقاف الحفائر حتى إشعار آخر، وتوفى الشيخ على عام 1988 بعد جهد طويل لمواصلة العمل عرض فيه أن يمول الحفائر من جيبه الخاص ليكتب إسمه فى تاريخ الكشوفات الأثرية كمصرى أولا وبإسم عائلته ثانياً، ومثل أبيه سلم المهمة إلى إبنه “سيد” ليستكمل مسيرة أباه وجده.
سر مقبرة سيتي الأول
فى نهاية الأمر تمت الحفائر على هيئة مصلحة الآثار المصرية لتكشف عن نفقاً طويلا ملحق بمقبرة الملك “سيتى الأول” لم يستطيعوا العثور له على نهاية لتنتهي الحفائر إلى نتيجة مبهمة بعض الشىء لم يتحقق بها حلم الشيخ “على عبد الرسول”. ولا يزال أحفاد عبد الرسول يحكون أمجاد أجدادهم وآبائهم خاصة من معقل العائلة وهو فندق المرسم الذى شيده الشيخ “على” عام 1945، لتسطر تلك العائلة تاريخاً طويلاً مع الآثار المصرية مليئاً بالأحداث التى لا يزال الأحفاد يرددونها حتى يومنا هذا.