معجزة شق البحر قبل موسي وبنو اسرائيل في مصر القديمة
حكايات من مصر القديمة: معجزة شق البحر

ترتبط دوماً جملة انشقاق البحر بمعجزة النبي موسى المذكورة في الكتاب المقدس وكذلك القرآن الكريم

خروج 21,22:“وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ.”

 

 فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالَّطوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ(64) وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(66) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)﴾ “الشعراء”

وتوضح تلك الآيات المعجزة التي أنقذت بنو اسرائيل من بين براثن الموت على يد جيش فرعون، إلا أن في العصر الحديث قد ارتبط لفظ “شق البحر” دوماً بتلك القصة ارتباطا وثيقاً جعل من المستحيل طرح هذا التعبير في أي سياق آخر سوى القصص الديني.

على أية حال فلا يهدف المقال تناول الرواية التوراتية والقرآنية بأي شكل من الأشكال ولكن بما أن القصة حدثت في مصر ومع عدم العثور على أي تدوين تاريخي يمكننا أن نؤرخ منه وقت وقوع القصة إلا أن التاريخ المصري القديم يحكى قصة عجيبة متعلقة بانشقاق البحر هي الأخرى ولكن في سياق آخر مختلف وموقف مغاير تماما لما نعرفه.

الأدب المصري القديم

كان المصريون القدماء مثلهم مثل أي شعب من شعوب العالم القديم، لديهم معتقداتهم الخاصة وطريقة حياتهم المتفردة وحتى قصصهم وروايتهم الشعبية التي توارثوها جيلاً بعد جيل.

فالأدب الشعبي المصري القديم واحد من أهم المواد الشيقة التي تركتها لنا تلك الحضارة المجيدة والتي ساعدتنا في التعرف عن قرب عن طريقة تفكير القدماء وحتى تطيرهم وخرافاتهم.

من أشهر أمثلة القصص الأدبي في مصر القديمة هي القصص التي تحدثت عن العدل فيما عرف باسم القروي أو الفلاح الفصيح، وليدان أيضاً أدب الحكمة المتمثل في نصائح من حكماء مصريين لتلاميذهم وحتى من ملوك لأبنائهم كما يوجد أيضا الروايات الشعبية الخرافية التي تحكى قصصاً غير معقولة حدثت في أزمنة بعيدة وأماكن لم يرها بشر.

خوفو والسحرة

يأتي على رأس تلك القصص هو البردية المعروفة باسم “بردية وستكار” والتي حملت هذا الاسم نسبة إلى المغامر البريطاني “هنري وستكار” الذي حصل على تلك البردية في ظروف غامضة ومن ثم انتهى بها الحال في المتحف المصري ببرلين، لم يدون لنا هنري وستكار أي تفاصيل بشأن عثوره على اقتناءه لتلك البردية ومما زاد الأمور غموضاً هو ظهورها في برلين لاحقاً في ظروف أكثر غموضا، وعلى أيه حال فهي تقبع بمكانها حالياً في متحف برلين معروضة لزائريه.

بردية وستكار.
بردية وستكار.

على الرغم من العنوان الذي حملته البردية “خوفو والسحرة” والذي بالفعل يكشف عن فحوى البردية وهي قصة متعلقة بالملك خوفو إلا أنه وبلا شك قد كتبت تلك البردية فى عصور لاحقة للملك “خوفو” نفسه وتعود على الأقل لعصر الدولة الوسطى.

تحكى البردية عن اجتماع الملك “خوفو” بأبنائه في البلاط الملكي وطلبه منهم أن يحكى كل واحد معجزة على يد أحد الكهنة، وقد خصصت البردية هؤلاء الكهنة برتبة كهنوتية وهي “كبير الكهنة المرتلين” وهم الكهنة المسؤولين عن تلاوة النصوص المقدسة في الطقوس المتعددة كذلك فهم حفظة الأسرار في مصر القديمة أيضاً.

 

وقد تناوب الأمراء في تلك البردية على حكاية بعض المعجزات التي قام بها هؤلاء الكهنة، بعضهم فى عصور تسبق عصور الملك خوفو وبعضها حدث في عصر ذلك الملك.

 

ر حلة تجديف على متن القارب

يختص جزء شق البحر في البردية على قصة الأمير “باو اف رع” إبن الملك خوفو والتي حكى فيها عن معجزة قام بها الكاهن “جاجا إم عنخ” والذي كان كبير الكهنة المرتلين في عصر الملك سنفرو والد الملك خوفو، وفى السطور التالية سنحاول حكاية القصة مع الالتزام بالنص الأصلي للبردية.

 

يبدأ الأمير باو اف رع الكلام بانه سوف يحكى عن معجزة حصلت ففي عصر والد الملك خوفو وهو الملك سنفرو قام بها كبير الكهنة المرتلين جاجا إم عنخ , تحكى القصة أنه ذات يوم كان الملك سنفرو يشعر بالملل ولا يوجد شيء يسر قلبه، قام باستكشاف جميع ردهات قصره وغرفه ولكن هذا لم يدخل السرور إلى قلبه، كان يكتنف الملك سنفرو مللاً عميقاً لا يكسره شيء.

قام سنفرو باستدعاء الكاهن جاجا إم عنخ وعرض عليه المسألة، وهنا يقترح الكاهن أن يذهب الملك إلى بحيرة قصره ويتم تجهيز قارب ملىء بالفتيات من جميلات القصر اللائي سيسر قلب الملك لرؤيتهنوهن يجدفن وسط المياه العذبة والبوص الجميل وضفتى البحيرة.

الملك سنفرو
الملك سنفرو

وهنا يأمر الملك بإحضار عشرون مجدافاً من العاج المطليين بالذهب المصنوعة مقابضهم من خشب الصندل المطلى بسبيكة الاليكتروم (الذهب والفضة), ويأمر باحضار عشرون فتاة من عذراوات القصر لهن أجمل الأجساد والنهود البارزة وليلبسن فساتين مطرزة على شكل شبكة الصيد لتظهر جمال أجسادهن، ولتكن شعورهن مضفرة بعناية.

وهنا فعل ما أمر به جلالته وانشرح قلبه لرؤيتهن يجدفن على متن القارب.

 

العذراء الحزينة

وبينما الملك سعيد والاجزاء مبهجة تحدث مشكلة ! فالفتاة التى فى مقدمة المجدفات يشتبك شعرها مع المجداف وتسقط منها تميمة صغيرة على شكل سمكة مصنوعة من التركواز فى المياه, وهنا تتوقف العذراء عن التجديف وبالتالى تتوقف الفتيات التى تليها فى الدور فيتوقف الأمر برمته.

وهنا يسألها الملك عن سبب توقفها فتجيبه بسقوط تميمتها فى المياه, فيعرض الملك سنفرو بكرم بالغ أن يعوضها واحدة غيرها فترفض الفتاة وتصر على إستعادة تميمتها المفقودة.

 

جاجا إم عنخ يشق البحر

وهنا يطلب الملك سنفرو فى استعداء كبير الكهنة المرتلين جاجا إم عنخ مرة أخرى والذى يحضر فى الحال فيخاطبه الملك قائلا: أخى لقد فعلت كل ما اقترحت وسر قلبى لرؤية ما حدث ولكن الفتاة التى تجدف فى المقدمة وقعت قلادتها (تميمتها) فى المياه ورفضت أن استبدلها بواحدة وأصرت على الحصول على تميمتها.

وهنا وبدون إضافة كلمة واحدة قام جاجا إم عنح بتلاوة تعويذة سحرية فتحدث المعجزة، تنشق صفحة المياه وينضم أحد الجوانب للآخر فيصبح الماء كله فى جانب واحد, وبعدما كان لإرتفاعه اثنى عشر ذراعاً, أصبح اربعة وعشرون ذراعا على جانب واحد بينما الجانب الآخر خالى من المياه تظهر فيه الأرض واضحة.

وهنا يجد جاجا إم عنخ التميمة راقدة فى قاع البحيرة فيستعيدها ويعطيها للعذراء، ومن ثم يتلو تعويذة أخرى فيعود الماء لسابق عهده ويلتئم الجانبين.

وهنا يعم الفرح والسرور على المشهد ويمضى الملك سنفرو بقية يومه فى إحتفال ويأمر بمكافئة كاهنه المخلص جاجا إم عنخ بكل الأشياء الجيدة.

وهنا يتوقف الأمير باو اف رع عن الكلام ويقول لوالده “خوفو” إنتبه فهذه هى المعجزة التى حدثت فى عصر أبيك الملك “سنفرو” وقام بها كبير الكهنة المرتيلين جاجا إم عنخ.

الملك خوفو
الملك خوفو

وهنا يامر ملك مصر العليا والسفلى “خوفو” بتقديم القرابين : ألف من الخبز, ومائة من الجعة, وثور وبخور لروح الملك “سنفرو” وتقديم القرابين بالمثل لكبير الكهنة المرتلين جاجا إم عنخ, المبرآن, وفعل مثلما أمر جلالته.

 

تفسير المعجزة, وتحليل القصة

مما لا شك فيه أن تلك القصة تنتمى لنوعية الأدب الشعبى والقصص الخيالة التى وردت إلينا من مصر القديمة, ولربما يعترض البعض على تسمية المقال “معجزة شق البحر” لأن ما حدث لم يكن شقاً للبحر بالمعنى الحرفى, وأحيل هذا الأمر مرة أخرى إلى التعبير التوراتى الذى عبر عن شق البحر بجملة “يم سوف” وتعنى بحر البوص – يم البوص، أى ان حتى التوراة نفسها قد أشارت إلى ان المعجزة تتحدث عن شق صفحة مياه بغض النظر عن إن كانت تلك المياه عذبة أم مالحة، فتعبير البحر بشكل عام يمكن أن يشير فقط إلى أى صفحة مياه كما نستخدم نحن اليوم مصطلح “ترعة بحر يوسف”.

 

عودة إلى القصة نفسها فإن تلك القصة كما ذكرنا تلى عصر الملك خوفو وكذلك الملك سنفرو بأجيال عديدة, وقد أظه هذا الجزء من البردية الملك سنفرو فى صورة متواضعة بعض الضىء فهو من السهل ارضاؤء وكذلك من السهل ان يصاب بالملل وهو ما يتنافى مع ما اخبرنا به التاريخ نفسه عن الملك سنفرو الذى قدسه المصريون لآلاف الأعوام بعد وفاته ووصفوه بالعادل والرحيم., إلا انه هناك جانب ايجابى فى القصة وهو أن الملك سنفرو كان متواضعاً مع حاشيته فينادى الكاهن جاجا إم عنخ بأخى, وكذلك فإنه يحاول أن يسترضى أحد رعيته وهى العذراء التى فقدت تميمتها.

والأسماء المذكورة فى البردية صحيحة تماما فالملوك سنفرو وخوفو وحتى الأمير باو اف رع راوى القصة شخصيات حقيقة عاشت بالفعل، إلا ان إسم جاجا إم عنخ لم يستدل عليه حتى الآن فى عصر الملك سنفرو أو حتى غيره, كام ان تلك البردية أنفردت بتلك القصة بدون وجود أى ذكر آخر لنفس القصة فى أى تدوينات لاحقة أو سابقة.

أما عن إرتباط تلك الواقعة بمنصب الكاهن المرتل, فقد كان لذلك سبب مباشر وهو إرتباط ذلك المنصب فى الحضارة المصرية بمعرفة الأسراء هذا من جانب, ومن جانب آخر كان لتلك البردية غرض من طرح وتكرار حدوث المعدزات على يد أصحاب هذا اللقبا الكهنوتى مراراً وتكرار سنعرفه فى مقالات آخرى ونحن نستكشف قصص تلكا لبردية الفريدة من نوعها, والتى ستنتهى قصصها بنهاية غير متوقعة على الإطلاق.