بلغت شهرة الملك “توت عنخ آمون” آفاقاً لا يتصورها أحد. حتى أصبح أحد أشهر أسماء العالم القديم التي يعرفها الناس في العصر الحديث. لم يكن سبب شهرته إنجازات أو حروب أو حتى تشييده لمعابد أو مقبرة كبيرة. كانت شهرته بسبب كنوزه التي أبهرت العالم. وخلقت حالة من الهوس بمصر استمرت حتى يومنا هذا.
ولكننا لم نسمع أبداً عن كنوز لواحد من أعظم ملوك مصر كرمسيس الثاني أو الإمبراطور المصري تحتمس الثالث أو حتى حفيده أمنحتب الثالث صاحب الجاه والثراء!
على الرغم من أن هؤلاء الملوك دفنوا أيضا في وادي الملوك ولكن لم يتبق من كنوزهم شيء، بل إن وادي الملوك لم يعثر فيه على مقبرة ملكية لا تزال تحتفظ بكنوزها سوى توت عنخ آمون! فما هو السبب؟ ومتى سرقت تلك المقابر؟
الغرب: القبلة الدائمة للموتى
تحتم العقيدة الدينية المصرية القديمة دفن الموتى في الغرب إلا في حالة وجود استثناء يجعل الدفنة في الشرق وهو ما حدث في حالات نادرة جداً من تاريخ مصر، ولكن في نهاية المطاف كان غرب النيل هو الوجهة الرئيسية لدفن جميع الموتى سواء كانوا ملوكاً أو نبلاء أو حتى من العامة.
في العصور التي سبقت عصر الدولة الحديثة (وهو عصر الدفن في وادي الملوك) كانت عادات الدفن الملكية المصرية القديمة تتم في أهرامات على غرار أهرامات الجيزة واستمر ذلك التقليد حتى الملك أحمس قاهر الهكسوس نفسه. والذي كان هرمه هو آخر الأهرامات الملكية التي تشيد في مصر وموجود بأبيدوس في محافظة سوهاج.
تخلى المصريون عن عادة الدفن في الأهرامات. لأن مع حلول الدولة الحديثة وطرد الهكسوس من مصر كانت كل المقابر والأهرامات الملكية نُهبت عن بكرة أبيها. ولم يتبق منها شيء، وذلك بسبب أن الأهرامات نفسها ظاهرة للعيان وكأنها تدعو كل ناهب وسارق ومفسد في الأرض ليقتحمها. وينهب محتوياتها الثمينة. حتى كان عصر الملك تحتمس الأول الذي أراد مكاناً سرياً بعيدا عن الأعين. ليكون مثواه الأخير ليضمن حياة أبدية بدون إزعاج.
لماذا دُفن ملوك مصر في وادي الملوك؟
أسند تحتمس الأول مهمة تشييد مقبرته إلى مهندس يدعى “إنينى”، ووقع الاختيار على وادي الملوك الذي كان مكاناً مثالياً بعيداً عن الأنظار. ليتم نقر مقبرة الملك في الصخر في أحضان صخور هذا الوادي.
وقد سجل “إنينى” نصاً في غاية الأهمية يقول فيه:
أشرفت على تشييد مقبرة جلالته ولم ير أو يسمع أحد
وادي الملوك وجهة ملوك مصر المفضلة
مع توالى الدفنات بوادي الملوك بدا لملوك مصر وقتها أن هذا المكان هو الأمثل للدفن بالفعل وظنوا أنهم عثروا على مكان يضمن لهم مصيراً مختلفاً عن أسلافهم، ومع تزايد عدد الدفنات بدأت متطلبات العمل بالوادي تتخذ شكلاً مختلفاً، وهنا ظهر واحد من أهم المواقع الأثرية المصرية على الإطلاق.
قرية العمال (مكان الحق)
كان أهم المنشآت المتعلقة بوادي الملوك هو قرية العمال والفنانين القائمين على زخرفة المقابر الملكية، وتشييد مثل هذا النوع من المجتمعات لم يكن بجديد في تلك الفترة فحتى أهرامات الجيزة ودهشور واللاهون كان لها قرى قريبة مشابهة تأوي العمال ليكونوا قريبين من موقع الدفنات الملكية، وفى حالة الوادي. يمكننا أن نرجح أن تشييد تلك القرية قد بدأ مع عصر تحتمس الأول أيضا. وقد أطلق عليها المصريون القدماء “ست ماعت” وتعنى مكان الحق، وحمل عمالها لقب ” الخادم في مكان الحق”.
وقد أمدتنا تلك القرية بمعلومات مذهلة وغزيرة عن طبيعة حياة الإنسان المصري في تلك الفترة بما تركته من نصوص وبيوت وآثار وحتى مقابر لهؤلاء العمال بنفس الموقع، وقد كان نظام العمل يتم بطريقة منظمة بنظام المناوبات وكانت لهم حقوق كثيرة وأجورهم مرتفعة.
أما أدوات الفنانين المستخدمة في العمال بمقابر الوادي أو حتى أدوات العمل بشكل عام فكانت عهدة رسمية مملوكة للدولة المصرية يتسلموها مع بداية المناوبة ويسلموها مرة أخرى بعد الانتهاء.
وكان تنظيم العمل يتم عن طريق مشرفين ومسؤولين ومهندسين مع وجود قوات من الشرطة لحفظ الأمن وضمان توزيع الأجور والحفاظ على العهد الحكومية.
المدچاى: حراس وادي الملوك
مع تزايد الدفنات بوادي الملوك بدا أن الوادي في حاجة إلى دوريات حراسة مع تكثيف العمل بالوادي. وبداية كسر السرية المحيطة به، وقد أُسندت تلك المهمة إلى قوات أمن (شرطة) في مصر القديمة تسمى مدچاى.
وقد كانت تلك القوات في بادئ الأمر تتكون من مجموعة من أحد الأعراق النوبية من المرتزقة منذ عصور قديمة في تاريخ مصر. إلا أن بحلول الدولة الحديثة أصبح ذلك المصطلح ليس متعلقاً بعرق ما وإنما بتلك القوات نفسها التي كانت أغلبها من المصريين في ذلك الوقت.
كانت تلك القوات من الصفوة وتتقاضى أجورا باهظة مما عكس أهميتهم في حفظ الاستقرار والأمن بتلك المنطقة المقدسة ولم يكن الوادي هو اختصاصهم الوحيد ولكنه كان واحداً من أهم مهامهم.
اضطرابات في وادي الملوك
في بدايات الأسرة العشرين ومع مرور أكثر من 360 عاماً على بداية الأسرة الثامنة عشر وتأسيس وادي الملوك. بدأ أول المشاكل المتعلقة بالوادي نفسه. وبدأت شرارة متاعب تحدث في قرية دير المدينة. ففي عصر الملك رمسيس الثالث قام عمالها بأول إضراب عمالي مسجل في التاريخ. مع تأخر أجورهم فرفعوا لافتات تقول بأنهم جوعى وتوقفوا عن العمل كلية في الوادي.
وعلى الرغم من ذلك فقد تم احتواء الوضع. ولكن الأمور لم تعهد لسابق عهدها بعد وفاة رمسيس الثالث نفسه. فقد حكم من بعده ابنه رمسيس الرابع واستمرت الأسرة العشرون تحكم مصر لأكثر من مائة عام. وقد شهدت مع نهايتها نهاية وادي الملوك نفسه.
برديات سرقات المقابر
حكم في الأسرة العشرون تسعة ملوك حملوا اسم “رمسيس” تيمنا بالملك رمسيس الثاني. وتبركاً به مما جعل تلك الأسرة تحمل لقب: أسرة الرعامسة، وقد كانت بدايتها ليست بالسيئة فيما يتعلق بوادي الملوك حتى كان الإضراب في عصر رمسيس الثالث ومع تولى “رمسيس التاسع” عرش مصر بدأت الإضرابات تأخذ منحنى مرعب مع تزايد سرقات المقابر وقد امدتنا ما يسمى ب “برديات سرقات المقابر” بمعلومات عن تلك الجرائم التي حدثت في الوادي من سرق ونهب لمقابر الملوك السابقين ليس بالوادي فقط وإنما في أماكن متعددة.
بل إن بعض السرقات قد أشرف عليها عمال ومسؤولون من دير المدينة أو حتى مسئولين في مدينة طيبة (الأقصر حالياً). وقد تنوعت تلك البرديات وكثر عددها وكان منها بردية أبوت وأمهرست وهي إما محاضر تحقيق رسمية للتحقيق في سرقات مقابر بعينها. والتحقيق مع عصابات احترفت سرقة المقابر أو حتى مراسلات رسمية.
باسر وبو-رع
من أشهر القصص التي تعلقت بسرقات المقابر. كان صراع بين عمدة شرق طيبة “باسر” وعمدة غربها “بو-رع”، وقد رفع “باسر” شكواه للوزير بشأن تورط “بو-رع” في نهب المقابر وتسهيله لتلك الجرائم.
وأجرى باسر التحقيق في تلك الجرائم بنفسه. وقد شملت عمليات السرقة مقابر من الأسرة 14 و17 وحتى مقبرة الملك “امنحتب الأول” من الأسرة الثامنة عشر لم تسلم منهم، وقد قام “بو-رع” عمدة الشرق بالقبض على هؤلاء المتهمين بالفعل. ورفع “باسر” تقريره إلى الوزير يتهم فيه “بو-رع” نفسه بالتورط في تلك السرقات على ما يبدو أن أذرع الفساد كانت قد استشرت في تلك الفترة فلم يتم حسم نتائج التحقيق لصالح ما ادعاه باسر من تورط بو-رع في تلك العمليات.
سرقات المقابر تكشف سر المقبرة رقم 5
شملت عمليات نهب المقابر مقابر أخرى مثل الملكة “آست” زوجة الملك “رمسيس الثالث” وكذلك مقبرة رمسيس الثاني وأبوه سيتي الأول بل إن الغنائم والمسروقات قد ذكرت بدقة بالعدد والكم والوصف الدقيق.
ومن الطريف أن تلك البرديات قد ساعدت على كشف سر مقبرة غامضة في وادي الملوك. وهي المقبرة رقم 5 والتي كانت تشير الأدلة الأثرية أنها متعلقة بالملك رمسيس الثاني. والذي تشير المعلومات أنه قد دفن بالمقبرة رقم 7، ولكن برديات سرقات المقابر أخبرتنا عن اعترافات اللصوص بسرقتهم لمقبرة رمسيس الثاني. وسرقتهم لمقبرة الأبناء الملكيين لرمسيس الثاني. ومن هنا عرف علماء الآثار أن تلك المقبرة تخص أبناء رمسيس نفسه.
عام الضبع
لم تمدنا الوثائق بمعلومات غزيرة مثلما أمدتنا برديات سرقات المقابر في عصر رمسيس التاسع، ولكن ظهر مصطلح مهم أطلق عليه المصريون القدماء “عام الضبع” وهو العام الذي وصلت فيه الأمور لأسوأ وضع ممكن اقتصاديا وأمنياً. وعلى الأرجح فإنه العام الذي رفعت دوريات المدجاى أيديها عن وادي الملوك وهجروه تماماً. ليتم نهب جميع المقابر الملكية عن بكرة أبيها في تلك الفترة الغامضة.
أنقذوا ملوككم
انتهت الأسرة العشرون باستقلال الكاهن الأكبر للإله آمون “حريحور” بحكم مدينة طيبة. وبدأ ما يسمى بعصر الانتقال الثالث الذي بدأ حكم فيه ملوك من خلفية كهنوتية من طيبة أسسوا الأسرة 21. وعلى الرغم من أن تلك الفترة من فترات اضمحلال وأفول الحضارة المصرية إلا أن يحسب لهؤلاء الكهنة عملاً عظيماً قاموا به للحفاظ على تراث وتاريخ مصر، فمع نهب جميع مقابر وادى الملوك بدأ الكهنة فى عصر الملك الكاهن “باى نجم الثانى” بجمع مومياوات ملوك مصر الذين دفنوا بالوادي وما تبقى من مقتنياتهم وكذلك الأمراء والنبلاء وحتى الكهنة.
وقاموا بتخبئتهم على مرحلتين في خبيئتين واحدة بوادي الملوك في المقبرة رقم 35 للملك أمنحتب الثانى، والأخرى بالدير البحري في المقبرة رقم DB 320، قام الكهنة بإعادة تكفين هؤلاء الملوك ومنحوا تابوتاً لمن سرق تابوته وأغلقوا تلك الخبايا ليرقد هؤلاء الملوك مرة أخرى في سلام حتى الأعوام 1886 و 1898 مع اكتشاف خبيئة الدير البحري وخبيئة المقبرة رقم 35 ليتم إقلاق هؤلاء الملوك من مرقدهم مرة أخرى ولكن هذه المرة مع ضمان حفظ أجسادهم ومقتنياتهم لربما إلى الأبد هذه المرة.
كيف نجت مقبرة توت عنخ آمون من السرقة؟
يتبق فقط سؤال واحد، كيف نجت مقبرة توت عنخ آمون من السرقة على الرغم من سرقة جميع مقابر وادى الملوك؟
حقيقة الأمر أن وادي الملوك لم يقتصر على دفنات ملكية فقط وإنما شمل أيضا دفنات لأناس من ذوي الشأن الرفيع في مصر وقد تم العثور على مقبرتين كاملتين بخلاف مقبرة الملك توت في الوادي وهم مقبرتي: يويا وثويا والداى الملكة تى. وكذلك مقبرة المحارب النوبى “ماى حر برى” الحارس الشخصي للملك تحتمس الرابع.
لذلك كانت مقبرة توت عنخ آمون هي المقبرة الملكية الوحيدة التي نجت في الوادي وحدث ذلك بصدفة عجيبة جداً. حيث أنه على ما يبدو فإن المصريون القدماء مع مرور الزمن وكثرة المقابر في الوادي قد نسوا أو لربما أغفلوا مواضع بعض المقابر في الوادي فنجد أن مقبرة توت عنخ آمون تم تشييد مأوى للعمال أعلاها في وقت لاحق. وعلى ما يبدو فإن حتى اللصوص الذين كان لهم إطلاع واسع بجغرافية الوادي وأماكن مقابره قد أغلفوا هم الآخرين موضع تلك المقبرة لتنجو في النهاية ويتم الكشف عنها على يد هوارد كارتر.