عروس النيل  قصة حقيقية أم خرافة مؤرخين؟
عروس النيل: قصة حقيقية أم خرافة مؤرخين؟

تقول الأسطورة أن سنوياً كان المصريين يقومون باختيار فتاة بكر جميلة وفى احتفال كبير يقومون بإلقائها فى النهر فيما عرف باسم “عيد وفاء النيل”, وكان الغرض من هذا الطقس هو استرضاء النيل ليفيض غزيراً ولا يخلف وعده السنوي لمصر كلها.

 

فيلم عروس النيل

بلا شك كان فيلم عروس النيل من بطولة الراحل رشدي أباظة والفنانة لبنى عبد العزيز من أهم العوامل التي ساعدت على ترسيخ فكرة عروس النيل ليس فى مصر فقط وإنما في جميع الدول المتحدثة بالعربية، وعلى الرغم من أحداث الفيلم اللامعقول من الحفر أمام معبد الأقصر بحثاً عن بترول مروراً بأن الأسرات المصرية تتصارع مع بعضها البعض في زمن واحد انتهاء بان عروس النيل نفسها “عفريتة” أو جنية عادت للحياة بعد آلاف السنين وجاءها نداء عبر التلفاز لتعود ليضحى بها.

فيلم عروس النيل.
فيلم عروس النيل.

إلا أن ذلك كان له أبلغ الأثر على الجمهور الذي صدق واعتقد بأن القصة حقيقية بالفعل أو ان لها أصل، بل أن الأمر ذهب لما هو أبعد فظنوا أن إسم هاميس هو اسم مصري قديم وان كلمة “هاريسا” التي وردت بالفيلم تعنى بالفعل: أحبك، بينما الحقيقة أن الفيلم بأحداثه ووقائعه وحبكته وحتى اسماء شخصياته هي محض خيال بحت.

ومثلما يظن الكثيرين بأنه لا يوجد دخان بدون نار فسنحاول سوياً تتبع أصل قصة عروس النيل لعلنا نجد أصلاً لتلك القصة.

 

خيال وخرافات الماضي ومصداقية الحاضر

قد وردت أحد قصص التضحيات البشرية في رواية منسوبة لبلوتارخ تقترب من رواية عروس النيل ولكنها لا تتطابق معها في جوانب عدة كان لها صدى واسع نظرا لأنه يعتقد البعض بالخطأ ان روايات وتأريخ مؤرخي العالم القديم عن مصر على سبيل المثال هو عبارة عن معلومات تاريخية موثقة يشوبها بعض المغالطات البسيطة وذلك بسبب الخطأ البشرى, إلا ان ذلك مخالف للواقع بشكل كامل فما كتبه العالم القديم عن مصر على سبيل المثال هو خرافات يشوبها بعض الحقائق البسيطة وأحياناً لا حقائق على الإطلاق, فقد كان مؤرخي ورحالة العالم القديم يتبعون منهج القصة, أي أنهم يبحثون عن الحبكة والقصة وليس تقديم معلومة ولذلك إمتلأت روايات العالم القديم بالخرافات.

عن الأنهار والجبال.
عن الأنهار والجبال.

وبالنظر المدقق إلى رواية “بلوتارخ” فى كتاب الأنهار والجبال وجد العلماء أن هذا الكتاب وغيره منسوب بالخطأ لبلوتارخ, فكثير منها قد كتب فى أزمنة تعقب بلوتارخ نفسها وأخرى لا يمكن نسبها لبلوتارخ لأسباب يطول شرحها, لذلك تم تجميع تلك القصص ونسبها لم أطلقوا عليه “بلو تارخ الزائف – البديل” pseudo Plutarch.

كما أن تلك القصة لا يمكن التعويل عليها باى شكل نظراً لتكرار بعض التيمات القصصية فيها ومنها على سبيل المثال أن كل شخص يلقى بنفسه فى أى نهر بعد قصة تراجيدية يتم تسمية النهر بإسمه وغيرها من الأشياء اللامعقولة.

 

عمر إبن الخطاب وعروس النيل

«لما فُتحت مصر أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهُر العجم، فقالوا له: أيُّها الأمير إنَّ لِنيلنا هذا سُنَّةُ لا يجري إلَّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جاريةٍ بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، قال لهم: إنَّ هذا لا يكون في الإسلام، إنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة، وأبيب، ومسرى لا يجري قليلًا ولا كثيرًا حتى همَّوا بالجلاء عنها فلمَّا رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عُمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عُمر: “إنَّك قد أصبت لأنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وكتب بطاقة داخل كتابه وكتب إلى عمرو: “إني قد بعثتُ إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل فلما قدم كتاب عُمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة فإذا فيها: «مِن عَبْدِ اللهِ عُمَرَ أَمِيرُ المُؤمِنِيْن إِلَى نِيْلِ أَهْلِ مِصْرَ، أمَّا بَعد: فَإِن كُنْتَ إنَّمَا تَجْرِي مِن قِبَلِكَ وَمِن أَمْرِكَ فَلَا تَجْرِ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيْكَ، وَإِن كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي بِأَمْرِ اللهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَهُوَ الذي يُجْرِيْك فَنَسْأَلُ اللهَ تبارك وتعالى أَن يُجْرِيكَ.» فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيَّأ أهلُ مصر للجلاء والخُروج، لأنَّهُ لا تقوم مصلحتهم فيها إلَّا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم.

كان للعرب رأياً آخر فيما رووه عن أخبار مصر عندما فتحوها، فنجد تلك الرواية المذكورة بالأعلى والتي تم نسبها لعصر عمرو ابن العاص في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب والتي تشير بشكل واضح إلى قصة عروس النيل واعتبارها عادة سنوية لدى المصريين ليفيض النهر، وتعرض القصة رفض عمرو ابن العاص ثم عمر ابن الخطاب تباعاً ثم حدوث معجزة مصدرها إيمان الخليفة فيجرى النيل ويفيض فوق العادة.

والرواية التي بين أيدينا لا هى من نصوص القرآن او الحديث ولا تصنف كذلك بل هى مجرد رواية لخبر متناقل عن تلك الفترة كتبه مؤرخون وليست رواية مقدسة أو سماوية, وعند تفنيدها فسنجد بعض النقاط الغير منطقية وأولها أن تلك الرواية تتحدث عن أن ذلك الفعل طالب به مصريون وهؤلاء لهم إحتمالين لا ثالث لهم:

الأول: أنهم يتبعون الديانة المصرية القديمة والتى لم يرد لنا فى اى نص ولا بردية ولا بأى شكل ممارسة المصريون القدماء لذلك الطقس فى أى زمن فالرواية منفية من تلك الزواية.

الثانى: أنه كما أشارت الرواية إلى فيضان النيل فى صباح يوم أسمته بيوم الصليب فيمكننا أن نستنتج أن ذلك الطقس ربطه الراوى بشكل غير مباشر بالمسيحية وبالتالى فيصبح المصريين بالقصة مسيحيين وهذا أيضاً ينسف الرواية برمتها لأن الديانة المسيحية لم ولا تعرف هذا الطقس فى أى فترة تاريخية.

 

معجزة النيل بين موسى وآل فرعون

الغريب فى الأمر أن الرواى يكمل روايته ويربط بين ما حدث وبين قصة قديمة للنبى موسى عليه السلام فنجده يقول:

ان موسى صلى الله عليه وسلم دعا على آل فرعون فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء , حتى طلبوا من موسى أن يدعو الله فدعا الله رجاء أن يؤمنوا فأصبحوا وقد أجراه الله فى تلك الليلة ستة عشر ذراعاً فاستجاب الله بتطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم.

وهنا الأمر واضح تماماً وهو محاولة إيجاد تأصيل قديم لتلك القصة والتى تصف الأمر وكأنه معجزة سماوية حدثت مع موسى ومن ثم تكررت كما هى مع عمر بن الخطاب.

هذا بغض النظر عن لا منطقية القصة ولجوء آل فرعون (الغير مؤمنين) لطلب الدعاء من الله عن طريق نبيه موسى, وكذلك قرارهم بالخروج من مصر بدلاً ان يتركوا بنو اسرائيل يخرجوا منها!

 

إبن لهيعة بطل قصة عروس النيل

إن مثل تلك القصة تكتسب مصداقيتها ومؤيديها فقط من ذكر أسماء الصجابة بها وكذلك رواية إبن كثير لها فى كتابه البداية والنهاية, هذه الأسماء جعلت هذه القصة لدى البعض حقيقة لا تقبل الجدال بل ومعجزة سماوية يجب التفاخر بها وترديدها, هذه القصة كان أول رواتها هو إبن عبد الحكم فى كتابه فتوح مصر واخبارها (فتوح مصر والمغرب) ونقلها عنه للالكائي في “شرح اعتقاد أهل السنة” (6/463) وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (44 /336) وأبو الشيخ في “العظمة” (4/1424), إبن كثير البداية والنهاية.

ولا يعنى تعدد من ذكروها فى كتبهم بانها حقيقية أو يتم الإلتفات لها لأن أصل تلك الرواية شخص واحد فقط وهو “إبن لهيعة” والذى صنفته المصادر الإسلامية بالآتى: وابن لهيعة ، واسمه عبد الله بن لهيعة بن عقبة ، ضعيف كان قد اختلط ، وهو مع ذلك مدلس ، راجع “التهذيب” (5/327-331) ، “ميزان الاعتدال” (2/475-484).

أى أن رواى القصة ليس ضعيفاً فقط وإنما مدلس, بينما كان إبن عبد الحكم أول رواة القصة هو من إنفرد بربط تلك القصة بقصة موسى عليه السلام ونقل الباقى فقط رواية التضحية بالفتاة , ومن الممكن أن يكون ابن عبد الحكم قد أورد تلك القصة فى كتابه لأغراض وهو رواية قصة مثيرة ومن ثم ربطها بمعجزة سماوية بغرض الدعوة إلى الدين.

إلا ان المفاجئة أن رواية إبن لهيعة التى نقلها ابن عبد الحكم لربما كانت منقولة من أصل أقدم.

 

النيل فى التراث المسيحى

أورد التراث الكنسى القبطى روايتان  لنفس الواقعة لربما يتشابها مع ما رواه ابن عبد الحكم , كانت الرواية الأولى – وهى مختصرة- من رواية المؤرخ الكنسى سقراط القسطنطينى فى كتابه ( التاريخ الكنسى) – الكتاب الأول الفصل الثامن عشر

رواية سقراط القسطنطينى
رواية سقراط القسطنطينى

والقصة هنا لربما لا تتشابه مع رواية إبن عبد الحكم ولكن المضمون واحد بان النيل لا يخضع لمعتقدات قديمة وإنما للعناية الإلهية, إلا ان ورود نفس القصة بشكل أكثر تفصيلا فى رواية مؤرخ آخر ترجح أنه لربما كان هذا هو الأصل الذى نقل منه ابن لهيعه ومن وراءه ابن عبد الحكم.

رواية سوزومين.
رواية سوزومين.

وردت تلك الرواية  للمؤرخ الكنسى “سوزومين” :كتاب التاريخ الكنسى, الكتاب السابع, الفصل العشرون, وتفاصيل القصة شديدة الوضوح وتكاد تتطابق مع الرواية العربية, فقد رفض الإمبراطور ثيوديسوس الخضوع لمعتقدات الوثنيين ومن منظوره الإيمانى رأى أن النيل سيفيض بالعناية الإلهية فقط وحدها, وهو ما حدث بعد ذلك عندما أرسل لمصر بعدما ارسلوا له ليحتكموا اليه فيما يفعلوا خوفا من أن تعم الفوضى والسخط البلاد لعدم فيضان النيل، وهنا فاض النيل إلى حد غير مسبوق حتى خاف المصريون أن يغرق الفيضان الإسكندرية, ويتغير موقفهم تماماً بانهم أنفسهم قد هتفوا فى المسارح ضد النيل واصفينه بانه رجل عجوز أحمق ويختم سوزومين روايته بان كثير من المصريين تخلوا عن خرافات اجدادهم واعتنقوا المسيحية, ومستثنى من تلك القصة تفصيلة الفتاة البكر التى ستلقى فى النهر  (عروس النيل) والتى إنفرد بها إبن عبد الحكم، وقد ختم “سوزومين” روايته بانه نقلها علمها منهم، أى انه لم يورد أى مصدر لحكايته سوى أنه رواية سمعها ودونها كما سمعها.

 

خرافة عروس النيل

مع تطابق الرواية المسيحية مع العربية فى أحداثها ومعطياتها وحتى نتائجها وعدم وجود أصول لها, وإنحصارها محلياً على رواتها على الرغم من أنها حدث عظيم لا يغفل مثله بل أدنى منه المؤرخون والرواة، وتعارض ذلك مع ما نعلمه عن تاريخ مصر القديم يجعلنا ننفى الروايتين جملة وتفصيلاً وبشكل نهائى.

وخلاصة القول أن عروس النيل مجرد خرافة بحته لا أصل لها ساعد فقط على انتشارها هو طرحها فى عمل مرئى علق فى أذهان الناس وهو فيلم “عروس النيل”.