لربما كان السؤال يبدو سهلا ولربما سارع البعض بالإجابة: مصر كان اسمها مصر منذ الأزل تقريبًا! فهي مذكورة في القرآن الكريم باسم مصر، ويطلق عليها كل متحدثي العربية نفس الاسم. وهذا صحيح نسبيًا بالفعل، ولكن للتاريخ رأي آخر نستعرضه معًا فى هذا الموضوع.
ماذا كانت تسمى مصر في العصور القديمة ؟
كان المصرى القديم يرى أن “مصر” هى أفضل بقاع الأرض، وهى منحة الإله للمصريين، كان يراها هي فقط الخصبة، وما سواها أرض صحراوية جرداء، أراضيه منبسطة مليئة بالخير، وأراضي غيرهم وعرة بلا حياة.
ترك لنا المصريون القدماء آلاف النصوص والنقوش والوثائق التي دونوا فيها كل شيء تقريبًا عن حياتهم وطريقة معيشتهم، الأحداث التاريخية التي شهدتها مصر، وبعض منها كانت مذكورة بالتفصيل الممل، والمدهش أن أهم ما تركه هو الأسماء التي أطلقها على “مصر”.
تنوعت تلك الأسماء لتعكس إدراك المصري القديم لبيئته، وتفاعله معها فنجد مثلا طبيعة وادى النيل الخصبة جعلته يطلق على بلادنا:
- “تا مرى” وهى كلمة لربما تعني: الأرض المفلوحة لتعبر عن طبيعة شريط وادى النيل.
- خصب.“دشرت” وهو اسم آخر يعني (الأرض الصحراوية – الحمراء) في إشارة إلى المساحة الأكبر من مصر، وهى صحاريها.
- قسم المصري القديم لبلاده إلى دلتا والتي أطلق عليها “تا محو”: أرض الشمال، والصعيد الذي أطلق عليه “تا شمعو”، ويعنى أرض الجنوب.
- “تا وى” وتعنى الأرضين في إشارة إلى الصعيد والدلتا أيضًا.
- أما مرور نهر النيل من جنوب مصر لشمالها فقد قسمها إلى ضفتين فأطلق عليها المصري القديم اسم “إدبوى” وتعنى الضفتين في إشارة إلى ضفتي النيل: الشرقية التي كان يسكنها الأحياء، و الغربية التي كانوا يدفنون فيها موتاهم.
“كمت” هو أقدم أسماء مصر
على الرغم من تعدد الأسماء التي أطلقها المصري القديم على بلاده إلا أن أشهر تلك الأسماء وأقربها إلى قلب المصريين جميعا كان “كمت”. وهى كلمة تعنى “الأرض السمراء الزراعية، الأرض الخصبة”، في إشارة إلى ثقافة الشعب المصري كشعب يشكل أغلبيته من المزارعين. وظل ذلك الاسم الأشهر، والأكثر انتشارا طوال العصور المصرية القديمة، بل أنه استمر حتى يومنا هذا في النصوص القبطية، وهى المرحلة الأخيرة من اللغة المصرية القديمة ولكنه تحول إلى “كامى” مع التطور اللغوي للغة مصر في تلك المرحلة.
ومن الطريف أيضًا أن المصري الحديث حاليًا يفكر ويعبر تمامًا مثل جده المصري القديم، فسكان الأقاليم عند ذهابهم إلى العاصمة يقولون:” نازل مصر – رايح مصر”، وهو نفس التعبير الذي عبرت عنه النصوص المصرية القديمة، في قصة “الفلاح الفصيح” الشهيرة يصف فيها الفلاح “خون إنبو” رحلته من بلدته إلى العاصمة بأنه “رايح كمت”!
كمت تتحول إلى أيجوبتس
كان دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر فصلا جديدًا حاسمًا من فصول التاريخ المصري القديم، وبعده دخلت مصر الفترة اليونانية الرومانية والتي كتبت نهاية فترة حكم الأسرات الوطنية المصرية إلى الأبد. ومع وفاة الإسكندر بدأ ما يسمى بأسرة البطالمة التي أسسها بطليموس الأول “سوتير” أحد رفاق الإسكندر وأحد جنرالاته بعدما أصبحت مصر من نصيبه بعد وفاة الإسكندر. بدأت الثقافة اليونانية الرومانية في الانتشار في مصر، وكان من مظاهرها إطلاق اسم “أيجوبتس” على “كمت”.
كلمات مصرية قديمة نستخدمها فى حياتنا اليومية العادية وفي اللغة العربية
وهو الاسم الذى كان يعرف الإغريق به “كمت” طبقا لمعتقداتهم الشعبية الميثولوجية وقد ذكر اسم “إيجوبتس” بوضوح في ملحمتي الإلياذة والأوديسة التي ألفها “هوميروس “، و”أيجوبتس”هو اسم لأحد ملوك مصر الأسطوريين من خيال “هوميروس” نفسه. كما أصبحت كلمة “أيجوبتس” هي الأصل الذى أشتق منه الأسماء التي تطلق على مصر في لغات أوروبا وجاء منه اسم “Egypt”.
ماذا تعني كلمة أيجوبتس التي جاء منها اسم EGYPT
أصل اسم “أيجوبتس” لاقى جدلاً واسعا بين العلماء فيرى البعض أنها كلمة خالصة الأصل اليوناني، والبعض الآخر يذهب إلى أن الكلمة مشتقة من “حوت – كا – بتاح” وتعنى “مستقر قرين الإله بتاح ” وهو اسم المعبد الشهير في مدينة “منف” القديمة (ميت رهينة حاليا)، باعتباره واحد من أكبر معابد مصر. رأى آخر يقول أن “أيجوبتس” مشتقة من الكلمة المصرية القديمة ” آجبى، آجب” وتعنى الماء الأزلي الذى ظهرت منه الأرض فى إحدى نظريات الخلق في مصر القديمة كما أن نفس الكلمة مرتبطة لغويا بتعبيرات تشير إلى فيضان النيل.
ومن كلمة “أيجوبتس” ظهر لفظ “أيجوبتى” في إشارة إلى المواطن المصري والتي تحولت إلى “قبطي” في العربية ، ما يعنى أن كلمة “قبطي” تعنى مصري سواء كان مسلما أو مسيحيا.
أيجوبتس تتحول إلى مصر
كان التحول الأكبر والأخير مع دخول العرب المسلمون إلى مصر مع الفتح الإسلامي، فكما أطلق الإغريق على “كمت” اسم “أيجوبتس” طبقا لثقافتهم، أطلق العرب اسم “مصر” على “كمت” طبقًا للغة العربية والثقافة الآسيوية بشكل عام.
كان أقدم ظهور لكلمة مصر يسبق دخول العرب إليها ففي رسالة من أمير كنعاني إلى مصر ذكرها باسم “مصري”، وذلك من ضمن أرشيف رسائل تل العمارنة.
وهو مجموعة رسائل دبلوماسية بين مصر ورعاياها في آسيا، وقد عرفنا من تلك الرسائل أيضًا أن اسم مصر كان شائعا في آسيا بألفاظ مقاربة لـ لفظة مصر. ورد ذلك فى لغات ونصوص أكادية وبابلية وفينيقية وأشورية وحتى عبرية وجاء ذلك بلهجات مختلفة تنوعت بين: مصوري، مصري، متزر، مصرايم، متزرايم، مصرو .. وغيرها. ذكرت التوراة مصرايم باعتباره الاسم العبراني لمصر، وكذلك القرآن الكريم ذكرها “مصر” في أكثر من موضع.
وكلمة “مصر” تعنى لغويا في العربية، القطر أو الإقليم، إلا أن تحديد أصل الاسم واشتقاقه يعد أحد الألغاز التي لا يوجد حل نهائي لها حتى الآن. أرجح الآراء أن اسم “مصر” مشتق من الكلمة المصرية القديمة ” مچر ، متشر” وتعني المكان المحمي، المحصن ، المكنون، لذلك فهي دوما أرض الكنانة.
ما بين الماضي الكمتى والحاضر المصري
مع تغيير إسم “إيجوبتس” إلى مصر، تحول المواطن الإيجوبتى إلى “قبطي”، ليصبح مصطلح أقباط هو ما يعبر عن شعب مصر بأكمله.
ومع انتشار اللغة العربية أصبح “الأقباط” “مصريون” نسبة إلى مصر، بينما انحصر استخدام كلمة “أقباط” للإشارة إلى مسيحيي مصر لتفرقتهم عن المسلمين الذين اعتبروا أنفسهم عرباً، ليصبح المسلم “عربي” والمسيحي “قبطي”، على الرغم من أن “قبطي هي المقابل اللغوي لكلمة “مصري”. وعلى الرغم أيضا من أن الأقباط المسلمون هم أغلبية مسلمي مصر.
تلك التحولات اللغوية والمسميات ليست غريبة على الكثير من بلدان العالم، فبداخل اليابان يعرفها أهلها باسم “نيبون” بينما الاسم الشائع لها عالميا هو “چابان” وكذلك الصين “جونج وا” وغيرها من البلدان التي تختلف أسماؤها بلغتها الأم عن أسمائها بلغات و ثقافات أخرى.
وفى العصر الحديث وبناء على ما سبق ومع اختلاف الثقافات، واللغات الشرقي، والأوروبية فإن اسم مصر وما شابهه هو الأكثر انتشارا واستخداما في آسيا، بينما مشتقات كلمة “أيجوبتس” هي الشائعة في اللغات الأوروبية حتى يومنا هذا.
تحول اللغة العربية إلى لغة مصر حاليا جعل اسم مصر هو الأكثر تداولا وشيوعا داخل القطر المصري بينما تبقت كلمة “كامى” في النصوص القبطية كصدى قديم لكلمة “كمت” المدونة في الآثار والنصوص المصرية القديمة، كرسالة أخيرة من أسلافنا القدماء.