الملك إخناتون بلا منازع هو أكثر الملوك إثارة للجدل في مصر القديمة، فعلى غير العادة وفي تضاد واضح من المعتقدات المصرية القديمة نجده يتخذ منهجاً دينيا مختلفاً ليصفه البعض بالملك الموحد، ويذهب البعض الآخر لأبعد من ذلك فليصفه بأول موحد في التاريخ.
إيران: مسلسل يوسف الصديق
ومع صدور المسلسل الإيراني الذى تناول فترة إخناتون نجد صناعه يصورون إخناتون كتابع للنبي يوسف وكأن إخناتون استقى تعاليم عقيدته منه وبالتالي قاموا بترسيخ تلك الفكرة المسبقة بأن إخناتون كان على الأقل تابعاً لنبي من أنبياء الله.
مما أعطى للموضوع حيزاً كبيراً أن صناع ذلك العمل قد زعموا أنه مستند على مصادر تاريخية موثقة ذكروها في تتر النهاية لكل حلقة بحثت فيها واحداً تلو الآخر فوجدت التالي: كل المراجع المذكورة مبهمة بعض الشيء على غرار “تفاسير السنة، تفاسير الشيعة، تفاسير شعرية لقصة النبي يوسف، روايات عن حياة النبي يوسف”، مصادر تاريخية عن مصر القديمة، إلخ.
وهو ما لا يعنى أنه بالفعل عملاً تاريخياً على الرغم من أن صناعه حاولوا إيهام المشاهد بذلك، فالمسلسل يعتمد بالكامل على الخيال في تأويل فترة الملك أمنحتب الثالث ومن ثم ابنه إخناتون وارتباطهم برسالة النبي يوسف ونزوله بمصر، فلا يوجد علاقة بين الإثنين تاريخياً ولم تذكر ذلك المصادر المصرية القديمة أو حتى تشير لذلك ولو من بعيد.
في النهاية هو عمل فنى كأي عمل آخر يعتمد على خيال مؤلفيه وطريقة تناولهم للموضوع ولا يعنى ذلك صحة الاعتماد عليه كمرجع تاريخي بأي حال من الأحوال.
إخناتون: أول موحد في التاريخ
هذا اللقب الذى أثار خيال آلاف البشر وسيظل حتى وقتنا هذا لطالما تتردد تلك الجملة على أذهان الناس، تلقائيا يظن القارئ العربي أن كلمة “موحد” تعنى “مسلم” وبالتالي سيبدأ قراءة أو تناول الموضوع باعتبار ان هذه الكلمة مقترنة بالدين الإسلامي مما يعطيها طابعاً دينياً وحتى مقدساً لدى البعض.
سنبتعد عن الموضوع قليلاً ونناقشه من زاوية أخرى، في الهند على سبيل المثال وفى القرن الخامس عشر ظهر “الجورو ناناك” المعلم الأول ومؤسس السيخية، كان موحداً بالفعل لأنه وحد الهندوسية مع الإسلام وآمن بإله واحد فقط، فهل يمكن أن نطلق على ناناك أنه مسلم؟
بالمثل هذا ما فعله إخناتون، فقد قام باختيار إله مصري قديم ونادى بعبادته كالإله الأعلى في مصر القديمة، كما أن إخناتون صراحة لم يكفر بالإله رع أو الإلهة ماعت، كما لم يقتصر صراعه مع كهنة الإله آمون فحسب وتلك نقطة أخرى خادعة فالبعض يصور فترة إخناتون بأنها صراع بين ملك وكهنة، بين عقيدة وعقيدة، بينما حقيقة الأمر أن إخناتون أراد تغييراً جذريا للمنظومة بأكملها وأعلن الحرب الدينية على كهنة المعابد وأمر بإغلاقها وقرن أوامره بالهجرة إلى مدينة آخت آتون كما أسماها ( تل العمارنة حالياً) ليعلن أن تلك المدينة هي مهد إشراقة الإله آتون على العالم.
اعتبر البعض ندائه بطريقة آتون هو اتجاه توحيدي في مصر القديمة، وإن صحت تلك المقولة فهذا لا يعنى أن إخناتون كان مسلماً، كما لا يمكننا الربط بينه وبين أحد الأنبياء بشكل واضح وذلك لسبب بسيط هو أن المصادر المصرية صمتت تماما ولم تدون أي اسم نبي عاصر إخناتون بل إن إخناتون نفسه لم يدون تعلمه أي شيء من أحد بعينه، فنشأة إخناتون كانت في مصر طوال صباه وحياته، أي أنه ابن للمنظومة الثقافية والدينية المصرية.
قدماء المصريين أول الموحدون
شعار آخر خادع يحاول البعض الربط بين الأديان السماوية (الإبراهيمية) وبين العقيدة المصرية القديمة سواء قبل أو بعد إخناتون نفسه، فالخط الزمنى والديني والتاريخي لحضارة مصر لا يتلاقى مع الأديان الإبراهيمية باستثناء القصص الواردة في العهد القديم والقرآن الكريم، وهى القصص التي لم تحكى بشكل مباشر أن دعوة يوسف وموسى قد تبناها أو اعتنقها المصريون بشكل واسع لنجد لها آثار، بل إن العهد القديم يذكر أن يعقوب نفسه تم تحنيطه على الطريقة المصرية!!
ما القصة إذن؟
إذا افترضنا أن المصريين القدماء قد عرفوا الإله قبل رسالة موسى فهذا يفتح باب أوسع للاحتمالات يختصره البعض بأن المصريين هم أصحاب رسالة النبي إدريس وهو ما يتعارض مع القاعدة الثابتة دوماً وهى أن التاريخ المصري لم يذكر إدريس بالاسم صراحة أو حتى على سبيل التورية، كما أن العقيدة المصرية القديمة لم يكن فيها نظام وحى إلهى يحمله نبي بشرى للناس برسالة محددة، كما أن المصادر الدينية نفسها لا تؤكد نزول إدريس بمصر من الأساس! أي ان الاستدلال غير منطقي من الطرفين سواء الطرف التاريخي المصري او التاريخ الديني والنصوص المقدسة.
معركة الكفر والإيمان
لربما يعود هذا السبب إلى أحادية الفكر في المجتمعات الشرقية، فالفكرة الشائعة عند الأغلبية أن من لم يكن مؤمنا بالأديان السماوية فهو كافر، وتطبق تلك القاعدة على جميع الأزمنة والأماكن بلا تمييز بدون مراعاة للظرف التاريخي، ومع تزايد تلك النظرة الأحادية نمى لدى البعض الحس بأسلمة الحضارة المصرية القديمة للخروج من هذا المأزق المزعوم معتقدين أن أسس قيام الحضارات هو الإيمان والكفر وليس الإنجازات والعلم.
نعود إلى نقطة غاية في الأهمية وهى أن الزعم بأن المصريين القدماء هم أول الموحدين فهذا سيطرح احتمالا آخر بالتبعية وهو أن كل الرسالات التي تلتها قد أخذت منها، وهو ما قد يسبب لغطاً دينياً آخر، لذلك ومع كل هذه المعطيات نشأت القاعدة الذهبية في علم المصريات وهو فصل الدين عن التاريخ لطالما لم يكن هناك دليل مادى يمكننا من التأريخ، وهى قاعدة تبدو في ظاهرها معادية للدين ولكن حقيقة الأمر أنها غاية الإنصاف والنزاهة لأنها وببساطة تغلق باب الأكاذيب والتلفيقات التي يفبركها البعض باسم الدين زوراً وبهتانا، الأمر بسيط علم المصريات يطلب من الباحث أن يدلل على ما يقول فإن قال مثلا أن نبي الله موسى قد عاش في العصر كذا فيستوجب عليه إمدادنا بدليل مادى يؤكد كلامه وإلا فالتأريخ باطل.
في النهاية لا يسعني سوى تذكر مقولة د.عبد الحليم نور الدين رحمه الله: الحضارة المصرية القديمة ليست بحاجة إلى تهوين أو تهويل فهي شامخة بما أنجزت، تحتاج فقط لمن يعرضها بحقائقها.