هلاك البشرية وقصة أول مصاص دماء في تاريخ مصر القديم
هلاك البشرية وقصة أول مصاص دماء في تاريخ مصر القديم

ترك لنا التراث المصري الآلاف من النصوص التي حملت في طياتها ما يجعلنا نلمس حياتهم ومعتقداتهم ومخاوفهم ولحظات فرحهم وأحزانهم, ومما تركه القدماء كان النصوص التي عرفنا منها نظرة المصري القديم لدينه ووللإله وكذلك معتقداته حتي الخيالي منها, ومن أشهر النصوص التي تركها لنا المصري القديم هو النص الذي يعرف الآن بإسم “أسطورة هلاك البشرية”

علاقة المصري القديم بالإله

كانت علاقة المصري القديم بعالم الآلهة طردية تتناسب مع معتقداته بشانهم فكلما كان الإنسان مستقيماً اغدقت عليه الآلهة بالمنن والإحسان والعطف, وكان إجتناب غضب الآلهة هو مقصد الغالبية العظمي من المصريين ملوكاً كانوا أو من العامةللحفاظ علي الرضا الإلهي ومن تلك الطقوس التي كانت تقام في مصر القديمة التي كان يقوم بها الكهنة داخل المعابد المصرية.

لم تكن المعابد المصرية دوراً للعبادة يرتاداها الناس للصلاة والدعاء وإنما كانت اماكن مغلقة لا يدخلها العامة إلا في المناسبات والإحتفالات وإقتصر وجودهم علي الساحات الأمامية للمعابد ليشهدوا الموكب الإحتفالي فقط.

أما داخل المعبد فكانت القصة مختلفة تماماً, فالمعابد في مصر القديمة هي مستقر الإله المكرس له المعبد وسكناه علي الأرض, فالمعبد هو حرفياً “بيت الإله” في مصر القديمة, والطقوس التي كانت يقوم بها الكهنة بشكل يومي عدة مرات كان الغرض منها الحفاظ علي تواجد الإله بذلك المعبد وبالتالي ضمان الإستقرار الكوني, فرأي المصريون في فلسفتهم الدينية أن طقوس خدمة الإله بالمعابد تحفظ الكون من الإنهيار والفوضي وتحقق الماعت وتتاغم معها, وقد كانت الماعت – صورت علي هيئة إلة بصورة آدمية علي رأسها ريشة نعام- هي السمة الأهم التي تنظم كل ما يتعلق بحياة المصريين وتحقق التناغم بينهم وبين الكون كما كانت هي ميزان الأخلاق والعدالة, وتحقيق الماعت كان يضمن دوماً رضا الآلهة وعدم غضبها علي البشر.

طقوس الخدمة اليومية, معبد أبيدوس
طقوس الخدمة اليومية, معبد أبيدوس

من أشهر النصوص التي وصفت لنا قوي الدماء لدي الآلهة المصرية هو ما يسمي الآن “أسطورة هلاك البشرية” وأتت تلك الأسطورة في مجموعة من التعاويذ التي سميت بكتاب البقرة المقدسة والذي عثر علي أقسام منه علي جدران مقابر الملوك توت عنخ آمون وكذلك الملك سيتي الأول وغيرهم في وادي الملوك.

أسطورة هلاك البشرية

ترجع احداث القصة إلى ماضي مصر السحيق عندما كان الإله “رع” يحكم مصر, وكان أبطال القصة هم إبنته الإلهة “حتحور” والتي عرفت بعين رع لانها كانت تظهر في قرص الشمس ويرسلها أبوها في مهام, كذلك نجد المحيط الأزلي اللانهائي “نن” أو “نون” , الإلهة نوت ربة السماء , تحوت إله الحكمة ورب القلم, وختاماً فآخر أبطال القصة كان واحداً من البشر وهو الكاهن الأكبر في مدينة “الأشمونين” هرموبوليس.

الإله رع
الإله رع

تبدأ أحداث القصة بأن الإله رع حكم مصر لفترة طويلة من الزمن لا حصر لها, وعلي الرغم من أنه حكم أرض مصر بعدل وإحسان فإن العمر تقدم به ونالت منه الشيخوخة مبلغاً وذلك لأنه – وحتي في عالم الآلهة- فالمخلدون من الآلهة يتعرضون للشيخوخة عندما يتخذون هيئة تشبه هيئة البشر.

ومع تقدم عمر الإله “رع” بدأت أصوات الساخرون منه تعلو وعلي رأسهم النوبيون, بدأت الممؤامرات تحاك ضده في شتي بقاع مصر للإطاحة به من علي العرش وتنصيب ملكاً من بنو البشر بدلاً منه, ناسين أو متغافلين ان “رع” مهما نال منه العمر والهرم فلا يزال خارق القدرات  فرأي ببصره وسمع بأذناه مؤامرات هؤلاء وقرر أن يتدخل لتلقين هؤلاء المتأمرين الناكرين للجميل, وهنا إجتمع “رع” بالآلهة الكبار وطلب منهم المشورة بخصوص ما سيفعل.

إنتبه فإن جلالته – رع- قد كبر في السن وأصبحت عظامه من الفضة وأعضاء جسده من الذهب وتحل شعره إلى اللازورد, سمع جلالته الشكاوي التي رددها الرجال والنساء.

إنتقام الآلهة

فور إنعقاد المجلس الإلهي تسائل الآلهة عن سبب إجتماعهم هذا, فاجابهم رع يخبرهم بخيانة الشبر له ووجه كلامه إلى “نن” (وهو المياه الأزلية السحيقة اللانهائية التي وجدت قبل الخليقة وجاء منها رع نفسه إلى الوجود) طالباً مشورته فهو أكبرهم سناً وأكثرهم حكمة بحكم السنين اللانهائية التي عاشها.

يقول رع:

وهبت البشر الحياة من دموع عيني, هؤلاء الفانون الذين ردا إلى الجميل بالتخطيط للإطاحة بي والإنفراد بالحكم , قل لي يا “نن” العظيم ماهي العقوبة التي ساوقعها عليهم؟

يرد نن:

أى بني, الحق لديك في إحساسك بالخيانة والغضب , إنك في الحقيقة إله عظيم بل أنك أعظم مني وقد منحتك الحياة, لا ينبغي للبشر أن يفلتوا من العقاب, فليكن عقابك هو قوة عينك المقدسة, فلترسل عين رع لكي تؤدب هؤلاء الناكرين للجميل.

وهنا تقول بقية الآلهة:

تكلم “نن” بصوت الحكمة, أرسل لهم عين رع لتصد هؤلاء الآثمين في حق العدالة الإلهية, فليموتوا جميعاً.

 

حتحور: مصاص الدماء !

إستجاب رع لرأي الآلهة ورأي أن يفعل ما أجمعوا عليه, فوجه نظره إلى الأرض فوجد البشر يهربون من بيوتهم ومدنهم مولين الأدبار إلي الصحراء, عرف البشر بإجتماع الآلهة وقرارها وفضلوا الهروب للبعد عن عين رع المدمرة.

وفي تلك اللحظة ظهرت “عين رع المدمرة” في هيئة الإلهة حتحور التي إستعدات لتريهم الجانب المظلم منها, لطالما كانت هي إلهة الأمومة والجمال والبهجة والآن فليظهر وجهها الآخر.

الإلهة حتحور, الدير البحري
الإلهة حتحور, الدير البحري

قفزت “حتحور” إلى السماء طائرة إلى الصحراء, ورأت التآمرون علي أبيها مختبئين خلف الصخور وبداخل شقوقها, فتحلت إلى لبؤة ضخمة ( أحد هيئات الإلهة سخمت) وأنقضت عليهم تمزق أجسادهم إرباً إرباً, تشتت شمل البشر لدي ذلك الهجوم ولكن حتحور لم ترحمهم فذبحتهم وشربت من دمائهم وروت به رمال الصحراء, قتلت حتحور منهم الآلاف وإتجهت للمدن والقري محطمة كل شىء في طريقها, لم ينجو منها أحد فكل من رأته إلتهمته شربت من دمائه.

وفي ذلك الوقت كان الإله “رع” يراقب ما يحدث ووصل لمسامعه دعوات وصرخات البشر من رعيته فرق قلبه لهم وارتأى انه من الوحشية أن يدع باقي البشر يموتوا جراء تمرد إقترفته مجموعة منهم, فماذا يفعل يا تري؟

فليوقف أحد ما حتحور!

عندما حل الظلام ذهبت حتحور للر احة فخاطبها الإله رع يطلب منها أن تهدىء من روعها وأن ما أراده قد تحقق ولا داعي لمزيد من القتل, ولكن حتحور قد ذاقت من الدم ما ذاقت فلم ترد أن تسمع لأي خطاب يناشد الرحمة, فردت علي رع بانها لن تغير أيها وستكمل ما بدأته في الصباح التالي.

خرجت حتحور عن السيطرة ولم تفلح محاولات رع لإيقافها فرأي أن يلجأ للخديعةليوقفها, فأرسل رسله إلى إلفنتين في أسوان لجمع تربة شديدة الحمرة من هناك وأمرهم بجمع أكبر كمية من الطمي الأحمر قبل طلوع شمس اليوم التالي.

بمساعدة الكاهن الأكبر تم صنع صبغة حمراء بذلك الطمي الأحمر تم تجهيز سبعة ألاف قنينة من الخمر, وأمر الكاهن بخلط الخمر مع الصبغة ليتكون خليط يشبه الدم البشري تم صبه ليصنع منه بركة حمراء اللون.

عندما طلع الصباح وجدت “حتحور – سخمت” لإستكمال القتل وسفك الدماء فوجدت تلك البركة وإعتقد أنها دماً وبدأت في إلتهامه حتي ثملت وغاب عنها الوعي فلم تتذكر ما كانت تفعل بل أنها نست لم أرسلها أبوها رع وماذا كانت تفعل, ومن ثم عادت الإلهة للنوم ولم تستقيط سوي بعد أيام عديدة.

 

 صعود رع إلى السماء

بعد إنقاذ البشر الذين تعلموا ألا يسخروا من آلهتهم أو يتآمروا عليهم, وبعد أن تعلمت “حتحور” درساً بان تتحكم في نفسها ولا تعص أباها, أيقن رع أنه بالفعل قد أصبح متقدماً في السن ومتعباً لا تسمح حالته لان يحكم مصر, رق قلبه لقتلي البشر والأبرياء فقرر أن يصعد للسماء ويبحر بقاربه عليهم في كل نهار.

 

البقرة السماوية

كتاب البقرة السماوية
كتاب البقرة السماوية

عندما علم الإله “نن” برغبة رع في ترك الحكم علي الأرض ليحكم السماء, أمر الإلهة “نوت” – إلهة السماء – بان تتحول إلي بقرة صعد بها رع إلي السماء ممتطياً إياها, وترك لابنائه من البشر هدية وداع أخيرة بان أمر الإله “تحوت” إلهة الحكمة ورب القلم أن يرعاهم ويعلمهم الكتابة والحكم والحضارة ليبدأوا فصلاً جديداً من تعمير الأرض.

 

ما هي عين رع؟

كانت لتلك القصة مردوداً عظيماً في معتقدات المصريون القدماء, لأن تلك القصة تخبرنا بعدة أمور تمكننا من فهم نظرة المصريون لعالم الآلهة, ففي البداية كان الإله رع يحكم الأرض من ثم أخبرتنا الأسطورة بإنتقال الحكم منه لخلفاؤه علي الأرض, كذلك فإن الأسطورة تخبرنا أيضاً باهمية الإله تحوت الذي وضع علي عاتقه مهمة تعلم البشر فهو إله الحكمة ورب القلم في مصر القديمة وهو من علم البشر جميعاً اللغة كما إعتقد المصري القديم.

أما أهم جوانب القصة فهو دور الإلهة حتحور بإعتبارها إبنة للإله رع, فحتحور كان يري المصري القديم منها كل ماهو طيب وخير فهي إلهة للامومة والخير وكذلك فهي مرتبطة بالمرح السعادة والإحتفال، إلا أنها في تلك القصة قد ظهر جانبها المظلم المتمثل في الإلهة “سخمت” اللبؤة المتعطشة للدماء المتشوقة للذبح, فسخمت كان يخشاها المصريون القدماء كثيرا وكانت أغلب الظن هي – أغلب الظن – الإلهة الوحيدة التي كان لها تماثيل بعدد أيام السنة تقام لها الطقوس يومياً.

عين رع "وجات"
عين رع “وجات”

إعتقد المصريون القدماء ان الشمس والقمر هم عيون الآلهة, فعلي سبيل المثال إعتقد القدماء في بعض الأحيان أن عين الإله حورس اليمني هي الشمس وعينه اليسري هي القمر, كما أنهم أطلقوا علي عين الشمس – قرص الشمس- عين الإله رع, وفي أحيان أخري رأوا أن عين رع هى الشمس وعين حورس هو القمر.

عين حورس وعين رع
عين حورس وعين رع

أطلق المصريون علي تلك العيون “وجات” وظهرت في شكل عين بشرية, وتم تصويرها في بعض الأحيان في هيئة قرص الشمس الذي تحيط به الكوبرا الحامية والتي ظهرت في العديد من الجداريات والأعمال الفنية المصرية القديمة التي كانت جميعها لها مغزي ديني يمكننا فهمه علي ضوء معتقدات المصري القديم.

من هي الإلهة سخمت 

في بعض نصوص قصة هلاك البشرية فبطلة القصة هي الإلهة “سخمت” نفسها التي إتخذت شكلها الإلهة “حتحور” وبالتالي فسخمت هي نفسها إبنة الإله “رع” وكانت هي تجسيد “عين رع المدمرة” كما انها كانت أختاً للإلهة القطة “باستت”

سخمت, الكرنك
سخمت, الكرنك

سخمت أحد أكثر الآلهة المصرية القديمة شهرة, ظهرت “سخمت” في هيئة اللبؤة وكانت إلهة للحرب وحامية الملوك في الحياة وبعد الممات, كانت أنفاس الإلهة سخمت من نار وكذلك فأنفاسها هي رياح الصحراء التي يلفح لهيبها المخلوقات, كما أنها كانت مسئولة عن الأوبئة والمرض وعلي الرغم من ذلك فكانت سخمت أحد أقوي الآلهة المصرية المسئولة عن الشفاء وهو الجانب الإيجابي منها الذي كان يرغب فيه المصريون.

في نسخ أخري من أسطورة هلاك البشرية غضب سخمت – صورة حتحور- مما حدث ومن خداع رع لها, فتركت مصر  وقامت بتقليل قوي الشمس التي خفتت كثيراً وهددت العالم أجمع, وهنا يتدخل الإله تحوت ليقنعها بإعادة الشمس إلى هيئتها الأولي وإسترداد النظام الكوني.

كانت سخمت أحد أفراد  الثالوث الإلهي لمدينة منف فهي زوجة الإله “بتاح” رب الحرفيين وسيد مدينة منف وإبنهما هو الإله نفرتوم والذي كان زهرة لوتس عند بدأ خلق الكون.