منذ القدم ومصر مصدر إلهام للعالم القديم, فمنذ أقدم العصور والحضارة المصرية تركت إنطباعاً في الوجدان الجمعي للبشر مما جعلها أرض المستحيل واللامعقول, ومش ظهور نجم الحضارة اليونانية الرومانية كانت من الطبيعي أن تكون مصر وجهة مفكري بلاد اليونان ومؤرخيها مثل هيرودوت, حتي جلس علي عرش مقدونيا الملك “فيليب الثاني” ( فيليب الأعور) والذي أسس إتحاداً من البلاد اليونانية وخطط لغزو الإمبراطورية الفارسية ولكنه تم إغتياله قبل أن يحقق حلمه, وخلفاً له جلس علي عرشه إبنه “الإسكندر الثالث” الذي لن يهوم الفرس فحسب ولكنه سيغزو العالم أجمع ويصبح أشهر القادة العسكريين في التاريخ, هذا الملك الذي ستعرفه كتب التاريخ لاحقاً بإسم الإسكندر العظيم Alexander the Great.

لوحة تخيلية لفيليب الأعور
لوحة تخيلية لفيليب الأعور

مصر واليونان قبل الإسكندر

كانت العلاقات المصرية- اليونانية ذات تاريخ طويل قبل مجىء الإسكندر الأكبر والتي تمتد إلى منتصف الألف الثالثة وحتي منتصف القرن السادس ق.م مروراً بنقاط مهمة مثل كريت, موكيناي وكذلك زؤ اليونان مثل ساموس, رودس, قبرص وحتي مع المراكز العسكرية مثل إسبرطة وأثينا, وتمحورت معظم تلك العلاقات علي التبادل التجاري والمصالح المشتركة طوال تلك العصور.

وقد كان الصدام العسكري ما بين مصر واليونان تاريخياً ذو جذور مبكرة حينما هاجم مجموعة من القراصنة الذين عرفتهم النصوص المصرية بإسم شعوب البحر ومنهم “الشردانا” والتي حاربها رمسيس الثاني وإبنه مرنبتاح  ومن ثم أنهي طموحهم الملك “رمسيس الثالث” عندما قام بهزيمتهم تفريق شملهم مرة وإلى الأبد, ومن ضمن تلك الجماعات وبلا شك عناصر يونانية.

ومع بزوغ نجم حضارة اليونان بدأوا في التوافد علي مصر بأعداد كبيرة طلباً للتجارة ومنهم مرتزقة إستعان بهم ملوك مصر وعلي رأسهم “بسمتك الأول” مؤسس الأسرة السادسة والعشرون الذي إستجلب المرتزقة اليونانيين بأمر مباشر منه, وقد إستقر هؤلاء المرتزقة في مواقع إستراتيجية مهمة لحماية الحدود الشمالية الشرقية (تل دفنة حالياً), أما تجارهم فانتشروا في جميع أنحاء مصر بل أن ظهور تلك الطبقات في المجتمع كان سبب مباشر في ظهور الخط القبطي والذي كان عبارة عن اللغة المصرية القديمة مكتوبة بحروف يونانية كوسيلة تواصل مع هؤلاء الأقوام.

وقد زار المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت مصر في عصر الإحتلال الفارسي الثاني وقد وصف تلك الأوضاع بدقة, بل أن وجود مجموعات كبيرة من بنو جلدته كان سبباً مباشراً في تلك الزيارة لمصر من هيرودوت وغيره, وقد لعب اليونانيين دوراً كبيراً في تأليب المصريين وتدعيم ثوراتهم ضد الإحتلال الفارسي في عامي 485ق.م, وكذلك 465 ق.م كجزء من الصراع الفارسي – اليوناني.

علي أن الوضع كان يبدو ما يشبه مصالح مشتركة بين الأمتين إلا أن اليونانيين كانت لهم اهداف أشمل من تلك الأفعال فكانوا يتطلعون إلى وقف توسع الفرس في آسيا الصغري وذلك لان الفرس قد وصل بهم الأمر إلى إحتلال مدن يونانية بل أنهم ذهبوا لتأديب اليونانيين داخل حدودهم ولكنهم هزموا في نهاية المطاف.

كانت مصر هي أكبر مخزن للغلال في العالم القديم وهي السلعة التي كان الإغريق في أشد الحاجة إليها, كذلك أوراق البردي لحاجتهم إلى التدوين.

الإسكندر يسيطر مصر

إن كان فيليب الثاني هو الأب الروحي للحضارة اليونانية فالإسكندر إبنه هو الذي حقق حلم والده كاملاً بل أنه وصل لأبعد مما يتوقع احد, ظهر الإسكندر كمخلص لليونانيين في صراعهم مع الفرس فراهنوا عليه وكان هو يبغي مجداً فناله.

دخل الإسكندر مصر غازياً علي رأس جيش من المقدونيين قوامه اربعون ألف مقاتل وكان الإسكندر وقتها قائداً عاما للدول الهلينية ليدحر جيوس الإمبراطورية الفارسية.

الإسكندر يواجه دارا متحف نابولي
الإسكندر يواجه دارا متحف نابولي

قبل وصوله إلى مصر هزم جيشاً جمعه الفرس علي نهر “غرنقيس” في آسيا الصغري ثم واحداً آخر في إسوس علي شواطيء سوريا بقيادة “دارا الثالث” الإمبراطور الفاسي بنفسه والذي لحق به “سباكس” والي مصر من قبل الفرس وقتها ومع هزيمة الفرس في سورياً بدا محتما أن يدخل الإسكندر إلى مصر.

مع وحشية الإحتلال الفارسي ومممارساته الظالمة ضد المصريين بدا وكأنهم لا يكترثوا لشيء سوي التخلص من الفرس لذلك رحبوا بالإسكندر عند دخوله مصر عام 332ق.م وإستقبلوه إستقبال الفتحين فدخل مصر دون أن يخوض معركة واحدة وكان عليه أن يحارب الحاميات الفارسية ليبسط سلطانه علي مصر.

الإسكندر يحكم مصر

كانت الحامية الفرسية غاية في القوة والتي هزمت جيش جمعه قائد اغريقي يدعي “أمنتاس” والذي كان قد حارب في صفوف الجيش الفارسي في أسوس, ولكنه أغار علي مصر متوجها لمغامرة بثمانية آلاف مقاتل  لاحتلالها وفي البداية إشترك معه المصريون ورحبوا به ولكنهم بعد ذلك إنضموا للجانب الفراسي وتصدوا له فلم يكن مختلفاً في ممارساته عن الفرس، إلا انه ويا للعجب لم يعاكس المصريون جيش الإسكندر الأكبر وفتحت أبواب مصر له إبتدائا ببلوزيوم , وفد قام الحاكم الفارسي وقتها “مزاكس” بتسليم مفاتيحها إليه, كان مزاكس نائباً للحاكم الفارسي “سباكس” الذي ذكرنا سابقاً مقتله في إسوس,  وما أن ترك الإسكندر حامية في مدينة الإسكندرية حالياً حتي تقدم بقواته حتي عين شمس ثم منف وهناك كانت نقطة التحول والسيطرة التامة للإسكندر علي مصر.

 

كيف حكم الإسكندر مصر؟

كانت كبري المشكلات التي واجهت الإسكندر بعد دخوله مصر هو تطلع المصريون إلى وضع مختلف عما كانوا عليه تحت حكم الفرس, وهنا وعلي عكس التوقعات أظهر الإسكندر وببراعة بالغة سياسة غاية في المهارة بدأت معها قصة من سيطرة الإغريق والرومان علي مصر لفترة قاربت الألف عام.

الإسكندر الأكبر أمام آمون, معبد الأقصر
الإسكندر الأكبر أمام آمون, معبد الأقصر

كانت سياسة الإسكندر هي ليس التقرب إلي المصريين فقط بل إنه أظهر للمصريون أنه مصري الهوي فاحترم الديانة المصرية القديمة وكان تتويجه في مدينة منف العريقة، وهي المدينة التي عرفت طوال العصور المصرية القديمة بإسم “حياة الأرضين” و “ميزان الأرضين” ( شمال مصر وجنوبها), وهي المكان الذي شهد تربية الأمراء قبل أن يصبحوا ملوكاً وكذلك كانت مقر لتتويج كثير من ملوك مصر, إحتفل الإسكندر بتتويجه في مدينة “منف” وأقيمت له الإحتفالات والطقوس التي أقيمت لملوك مصر القدامي من قبله, ومن الملاحظ أن الإسكندر قد دخل إلي مصر ومعه علماء ومهندوسن وأطباء وأدباء وتجار وقد إنضم إليه فرق موسيقية ومسرحية قدمت عروضاً للجنود في إحتفالات النصر والمحافل الرياضية التي إشترهت بها حضارة اليونان.

إلا أن هذا لم يكفي فلا يزال الإسكندر أجنبياً لن يدين له المصرين إلا بان يصبح مصرياً, هنا إستكمل الإسكندر خطته وقام بتقديم القرابين للعجل “أبيس” وغيره من الآلهة المصرية كجزء من إظهار الإحترام لهم, ومن ثم كانت الخطوة الأخيرة التي ستحسم الأمور.

عودة الملك نختنبو الثاني وتمجيد الملك خباباش

إدعي الإسكندر في موضعين أنه سليل أحد الملوك المصريين ومن ثم إدعي بنوته للإله آمون نفسه, فمع ظهور نصوص قصة الإسكندر Alexander Romance وهي سيرة وقصة حياة الإسكندر الخيالية وفيها زعم كاتبيها أن الملك “نختنبو الثاني” آخر الملوك الوطنيين المصريين كان ساحراً بارعاً وإستطاع أن يحول نفسه إلى ثعبان ويدخل مضجع “اوليمبيا” أم الإسكندر الأكبر وقام بمعاشرتها وكانت نتيجة تلك العلاقة هو الإسكندر نفسه, أى أن القصة تشير وبشكل مباشر أن الإسكندر سليل ملوك مصر القدماء وإبن للملك “نختنبو الثاني”, وقد تم إختيار الملك “نختنبو” لإدراج إسمه في تلك الأسطورة لأنه كان آخر الملوك الوطنيين المصريين ( الأسرة الثلاثون) والذي هزم علي يد الفرس في آخر معركة للحفاظ علي إستقلال مصر ونجح في الهرب وظلت سيرته تتردد بين المصريين آملين في عودته مرة أخري ليحررهم وتعد مصر لسابق عهدها.

واجهت الإسكندر مشكلة أخري وهي وجود روح وطنية متمردة ضد الفرس لربما كانت قادرة علي طردهم من مصر فلم يقبلوا بالإسكندر بدون قلاقل مع التخلص من الفرس؟ قد كان أحد أكبر مراكز القوي المصرية هو ملكاً نسيه التاريخ يدعي “خباباش” ذكر الإسكندر أنه اتي ليكمل ما بدأه “خباباش”.

 

تأسيس مدينة الإسكندرية

قضي الإسكندر شهور الشتاء في مدينة “منف” ينظم الإدارة والسياسة وجعل في مصر ثلاث سلطات: حربية مدنية , ومالية بالإضافة إلى قادة الحاميات والفرق العسكرية, ومع حلول عام 331 ق.م هب الإسكندر علي متن سفينة أبحرت من مدينة “منف” متوجهة إلى راقودة – شرق أبو قير حالياً-والتي كان بها حصن فارسي, وفي 21 يناير من نفس العام وضع الإسكندر أساس مدينة الإسكندرية.

تخطيط مدينة الإسكندرية
تخطيط مدينة الإسكندرية

أراد الإسكندر أن يجعل تلك المدينة ميناء هام وكذلك نقطة تبادل تجارية بين الماني الإغريقية شمالاً وشرقاً وجميع أنحاء البحر المتوسط وقد كلف الإسكندر مهندسه “دينوقراط” بتصميم المدينة وقد جعلها علي الشكل المستطيل بامتداد الشاطىء الموازي لجزيرو فاروس, ويقطع ذلك المستطيل شوارع طولية وعرضية, أما من قام بتنفيذ التصميم فكان مهندس مدينة نقراطيس الإغريقي “كليومينيس”, إلا أن الإسكندر لم يشهد الإنتهاء من بناء المدينة ولا حتي بنائها.

 

معبد الوحي

كانت الخطوة الأخيرة للإسكندؤ لتحقيق السيطرة الكاملة هي مغامرة قام بها لواحة سيوة, حيث توجه لزيارة معبد الوحي للإله آمون هناك.

وقد كان الإله آمون أشهر الآلهة المصرية التي يعرفها الإغريق, وقد قاموا بمطابقته بإللهم زيوس, وقد كان لآمون معابد كثيرة في مصر إلا أن أشهرها علي الإطلاق لدي الإغريق كان معبده في سيوة والذي كان يقابل لديهم معبد “دلفي” الشهير والذي تخرج منه النبؤات.

معبد الوحي سيوة.
معبد الوحي سيوة.

وقد كان الإغريق لديهم قناعة بقدرة آمون علي التنبوء بالأحداث وقد إستشاره سابقاً كروزاس, ولوريفيديس, وهرقل.

ترك الإسكندر الإسكندرية متوجها إلى الغرب حتي وصل إلى مرسي مطروح حاليا ومن ثم إتجه جنوباً نحو سيوة, ويقال في روايات أسطورية أن الإسكندر ورفاقه قد ضلوا طريقهم في الصحراء وهناك أرسل له آمون حيتان من الكوبرا لتقدوا موكب الإسكندر, وفي روايات أخري أن آمون أرسل لهم الطيور أو الغربان لتقود الطريق, بل أن حتي عندما نفذ منهم الماء أرسل السماء لتمطر عليهم, ولربما كانت لتلك الروايات صدي في الواقع لان وجود الحيات وكذلك الطيور علي مقربة من المسافرين يعني بدوره وجود واحة قريب,

أخيراً يصل الإسكندر إلى المعبد ويطلب أن ينفرد بالإله آمون في قدس أقداس المعبد ووجه له سؤالين, كان الأول متعلقاً بمقتل أبيه “فيليب الأعور” والثاني كان عن آمال الإسكندر في الفتوحات والنصر في آسيا وهلي سيستطيع أن يسيطر عليها؟

وعندما خرج الإسكندر من المعبد لم يخبر أحداً بما سمعه هناك ولكنه ذكر أنه سمع ما يسره, وكتب إلى والدته أوليمبيا أنه سيخربها عند عودته بكل ما أخبره الإله آمون, إلا أن هذا لم يحدث لأن الإسكندر لم يعد لها مرة ثانية ولم ير اليونان مرة أخري.

مع نهاية زيارة معبد الوحي إنتحل الإسكندر صفة إبن الإله آمون – آمون زيس- أى أن الإسكندر وقتها نصب نفسه سليلاً من نسل أعتي الآلهة المصرية وبالتالي فمع كل ما فعله فقد إكسب كل شعية ممكنة ليحكم مصر ويقبل المصريون بذلك.

والغريب أن بعد لقائه بآمون في سيوة وسماعه النبؤات التي سرته فإن الإسكندر قد طلب من المحيطين به أن يركع من يمثل أمامه وأن يطيعه رفقائه طاعة عمياء تليق بإبن الإله, وبعد إعلان الإسكندر بنوته للإله آمون فقد ظهرت في هيئته الشهير وعلي رأسيه قرني الكبش المصري الذي يرمز إلى الإله آمون, وقد وضعت هذه الصورة علي النقود لاحقاً في عهد “ليزيماخس” رفيق الإسكندر عندما حكم ثراسيا بعد وفة الإسكندر.