في هذا المقال نستكمل رحلتنا مع مصادر علم المصريات وكيف عرفنا تاريخ مصر
مصر في عيون العالم
عاصرت العديد من الحضارات حضارة مصر القديمة وكتبوا ودونوا عنها سواء في حولياتهم أو حتي كتابات مؤرخيهم وأخبارهم, فالبابليون والفينيقيون والأشوريون وحتي اليونانيون عاصروا حضارة مصر وجمعتهم بها فترات زمنية مشتركة فأخبرونا عن ذلك, إلا ان المصادر الأجنبية عن الحضارة المصرية دوماً لا بد أن تكون محل تدقيق وتمحيص بشكل مستمر.
زار مصر العديد من الرحالة اليونانيين ودونوا خبراتهم ومشاهداتهم وزيارتهم كما رأوها وكان علي رأس هؤلاء “هيرودوت” الذي زار مصر في عصر الإحتلال الفارسي في زمن ما قبل أن تنتشر الثقافة اليونانية في مصر.
هيرودوت يتحدث عن مصر
هذه أبحاث هيرودوت الهاليكارناسى، كتبها ليبقى ذكر أفعال الرجال حياً ومآثر الإغريق والبرابرة وأعمالهم المجيدة خالداً، وهدف منها توثيق أسباب النزاع بينهم.
وهو أشهر المؤرخين اليونانيين “الإغريق” وأكثرهم صيتاً وقد كان أشهر القابه “أبو التاريخ” نظراً لرحلاته التي نقلها لنا في مدوناته وكتاباته في مجلدات من الحجم الضخم وكان لمصر منها نصيباً.
ظل تاريخ هيرودوت عن مصر لفترة لا بأس بها مصدراً للتاريخ المصري إلى أن تغير كل شيء مع تأسيس علم المصريات فتم وضع “هيرودوت” وغيره تحت المجهر لنجد أموراً مغايرة تماما لما كان متداولاً.
علي سبيل المثال فإن هيرودوت عندما زار مصر قام بوصف دقيق لهضبة الجيزة وأهراماتها بل أنها أخبرنا عن “معبد الوادي” للملك “خوفو” والذي يقع بأكمله أسفل قرية نزالة السمان حالياً, ولكننا نجد أن هيرودوت أغفل ذكر أبو الهول, وكأنه لم يوجد قط وهو ما دعا بالبعض للتشكيك في زيارة هيرودوت لمصر أو للجيزة علي الأقل.
كذلك فإننا نجد أن هيرودوت قد إتبع أحد أشهر المصادر التي يستقي منها العامة المعلومات وهى الروايات الشفهية, فنجد يذكر أن معلوماته قد إستقاها من الكهنة والعارفين الذين أخبروه بها, بينما تلك المعلومات عند تمحيصها لا نجد أن تتعدي معلومات متواضعة لشخص مؤمن بخرافات فلا يمكن باى حال من الأحوال إعتبار مصادر هيرودوت الشفهية أكثر من بعض العامة وخرافات العجائز.
نجد أن هيرودوت قد إنفرد بذكر روايات شفهية لم يذكرها غيره, فمثلا لدي هيرودون “خوفو” ملك ظالم إستعبد شعبه لبناء هرمه وعملت بناته بالدعارة لبناء أهرماتهن، أما “من كاورع” فقد إغتصب إبنته, أما المصريون من العامة فيخطفون القطط من الشوارع وإن ماتت قطة أليفة يحلق المصريون حواجبهم, وإن مات كلباً أليفاً يحلقوا شعر الجسم بالكامل.
وحقيقة الأمر أن كتابات “هيرودوت” من أولها لآخرها عليها علامة إستفهام كبيرة، فهى متسقة من خرافات العصر الذي عاش فيه, التفسير الغير علمي للأمور وكذلك إنتشار الروايات الشفهية وخرافات العجائر كمصادر للمعلومات وإن كان ذلك مقبولاً في زمنهم فلا بأس, أما في العصر الحالي فلا بد من التعامل مع كتابات هيرودوت بمنتهي الحذر ووضعها في إطارها الصحيح وهو التراث الفولكلوري الشعبي وليس مرجعاً علمياً, لذلك وفي العصر الحديث أصبح الإعتماد علي هيرودوت وغيره في إطار محدود جدا.
بعض الرحالة الآخرين الذين يمكن أن نذكرهم هم ديدور الصقلي, سترابو, بلوتارخ, وبلوتارخ تحديداً له إسهام غاية في الأهمية في الحضارة المصرية وهو تدوينه لأسطورة إيزيس وأوزوريس كاملة ولاول مرة، فقبل بلوتارخ لم يكن هناك نص كامل معروف للأسطورة حتي لدي المصريين أنفسهم ومع مرور الوقت ظلت نسخة بلوتارخ مرجعاً مهماً للأسطورة وأكد الكثير من نقاطها علم المصريات الذي إستطاع تجميع النسخة المصرية من الأسطورة من خلال النصوص الدينية والآثار المصرية هو الآخر.
وهى أقل المصادر دقة لأن هؤلاء الرحالة قد زاروا مصر فى عصور ضعف وإضمحلال وإعتمدوا على الروايات المتداولة كما أن معرفتهم باللغة كانت ضعيفة جدا، نضيف علي ذلك إستناد الكثير منهم علي التراق الشفهي والمرويات وهي مصادر لا تسمن ولا تغني من جوع فجائت تلك الكتابات مشوهة ومبتورة , بل أن فيها بعض التجنى وغير الموضوعية وأحيانا العدائية.
يوسيفوس فلافيوس
يوسف إبن متياهو أو يوسف اليهودي وهو يهودي سكندري عاش في العصر الروماني وواجه العديد من المتاعب أمام فلافسة مصريين وإغريق بخصوص نظرتهم لبنو جلدته، ففي تلك الفترة لم يكن لليهود تاريخاً معروفاً للعالم وكان يراهم مجرد أقوام حدثاء الأسنان لا تاريخ لهم ولا مجد, ومما زاد الطين بلة إنتشار معلومة شهيرة في ذلك الوقت تلخص تاريخ تواجد اليهود بمصر في التالي: وهى أنهم كانوا أقواماً مرضي مصابين بالجذام قام ملك مصر بطردهم من بلاده حتي ظهر يوسيفوس وغير كل شىء.
قام يوسفيوس بكتابة موسوعات ضخمة تسرد تاريخ اليهودي – كما يروه هم- وآثارهم, وقوت شوكة يوسيفوس في ذلك الوقت ودخل في مناظرات ومبارزرات كلامية مع فلاسفة عصره مثل “أبيون” الفيلسوف المصري الذي كان دائم التقليل من يوسيفوس وبنو جلدته, قام يوسفيوس بكتابة كتاب أطلق عليه “الرد علي أبيون” وفيه فند يوسيفوس ما وصفه إدعاءات مصرية واغريقية تجاه اليهود وصب جام غضبه وهجومه علي أبيون, كما قام يوسيفوس ولأول مرة بإدراج إسم “مانيتون” وقال عنه أنه كاهن مصري عاش في العصر البطلمي وقام بتدوين تاريخ مصر كاملاً, ومن خلال عباءة مانيتون خرج يوسفيوس ولأول مرة في التاريخ بفرضية أن اليهود كانوا هم الهكسوس الذين إحتلوا مصر ومن ثم خرجوا منها مطرودين, بل أنه ايضاً كان أول من طرح فيما فنده أقوال بأن الهكسوس هم العرب ونفي ذلك وقال بانهم قومه هو – أى اليهود.
وللأسف الشديد لم ينجو من كتابات تلك الفترة سوي كتابات يوسيفوس, فلا يوجد لدينا مخطوطات ما كتبه أبيون, ولسبب غير مفهوم لا يوجد شىء ما كتب عن اليهود في تلك الفترة – باستثناء بعض المصادر القليلة جدا- سوي ما كتبه يوسيفوس.
ومنذ ذلك الزمن أصبح لليهود أنف يدسونه في التاريخ المصري القديم بعدما ما كانوا ليس لهم وجود تاريخي وسط الناس عامة كانوا أو مؤرخين, وقد إتسمت كتابات يوسيفوس بالعداء الشديد لكل ما هو غير يهودي خاصة المصريين والإغريق وكانت كل كتاباته ملخصها هو إعلاء شأن بنو جلدته بشكل مبالغ فيه، وقد وصلنا من تلك العصور شكاوي أهل الإسكندرية من يهودها وتحكي لنا المصادر إرسال بعثة ترأسها أبيون وآخرون للإمبراطور الروماني كاليوجلا لوضع حد التوغل اليهودي في الإسكندرية.
وكالعادة لم يصل إلينا أى من نتائج ما حدث, ويمكننا ان نستنتج المحصلة النهائية للأمر وهي سيادة وجهة النظر اليهودية وإعتبارها أحد مصادر التاريخ, فما أخبرنا به يوسيفوس تحت عباء مانيتون يصنف الآن كمصدر من مصادر التاريخ المصري القديم مع الأخذ في الإعتبار أن العلماء يتوخون الحذر الشديد في النقل وإخضاع كل المعطيات للتحيليل ومقارنتها بالآثار وبالواقع, ففي نهاية الأمر الموضوع لا يعدو كونه روايات وتراث شفهي كعادة مؤرخي العصور القديمة.
ومن المثير للدهشة أن يوسيفوس هذا نفسه قد حصل علي الموطانة اليهودية بعدما خان أهله في “يدفات” المدينة اليهودية اليونانية بعدما اشتبكوا مع الرومان وتمت محاصرتهم في كهف فأقنعهم يوسيفوس بالإنتحار عن طريق إجراء قرعة بينهم لإختيار من سيموت أولا وجرت القرعة وتساقط بنو قومه موتي واحداً تلو الآخر حتي تبقي يوسيفوس وحيداً في النهاية ناجياً بحياته مستسلماً للرومان.
مصر في عيون آسيا
أما العرب فكانت لهم قصة مغايرة تماماً, فهم قوم لهم جذور آسيوية إرتبطت بمصر في الماضى البعيد بشكل ما, فعلي سبيل المثال نجد ان إسم مصر نفسه هو إشتقاق من مسميات آسيوية أطلقها الآسيوين علي البلاد التي عرفت في زمانها بأسماء أخري وأشهرها “كمت”, وقد ظهر ذلك جلياً فيما عرف بإسم مراسلات العمارنة وهي مجموعة مراسلات بين مصر وحلفاؤها ورعاياها في آسيا, وقد كتبت بالخط المسماري البابلي والذي كان لغة التواصل العالمية وقتها، بالإضافة إلى مجموعة مراسلات أخري – مصرية آسيوية أيضا- في عصور لاحقة كأرشيف رمسيس الثاني مع الحيثيين.
أخبرتنا وثائق تل العمارنة عن منظور هؤلاء الأقوام من مناطق مختلفة في قارة آسيا بعدة أمور, أولها إختلاف نطقهم للأسماء المصرية عما دونه المصريون فعلي سبيل المثال نجد أن الملك “نب ماعت رع” أو أمنحتب الثالث قد ورد إسمه في مراسلات مملكة ميتاني – أحد أقوى حلفاء مصر في عصره – “نيموريا”, ورمسيس الثاني في نص معاهدة السلام بينه وبني الحيثيين نجد أنهم قد كتبوا إسمه “رياماشاشا ميامون” بالمصرية: رمسيس مري آمون.
وفى ذلك الوقت الذي كان المصريون يسمون بلادهم أسماؤ عدة كان أشهرها “كمت” نجد أن إسمها قد ورد في المراسلات من الجانب الآسيوي كالتالي ” متز. متزريم, مصور, مصارتوم, متزرايم .. وغيرهم” ونجد هنا قاسماً مشتركاً بينهم وهو أن من الوضاح أن إشتقاق الإسم متشابه جدا ويكاد يكون متطابق, وهو ما تحول في العربية لاحقاً إلى مصر كتراكم لذلك الموروث الإسمي الذي إستخدمته آسيا باكملها لمئات السنين.
وهنا يجب أن نتوقف عند نقطة مهمة وهي المسمى اليهودي ل “كمت” , والذي كان :متزرايم, وهو كما ذكرنا من الواضح أنه تحوير لأحد الأسماء التي وردت في رسائل العمارنة ولكن اليهود هنا قد فعلوا شيئاً مختلفاً وهو أنهم ألصقوا إسم بلادنا بمعتقدهم الديني فقالوا أنه إسم إبن حام إبن نوح , وهنا تحول الإسم من موروث لغوي إلي تراث ديني مقدس.
وفي العربية لم يختلف الحال, فإسم مصر مشتق من مصرايم والذي بدوره تخبرنا الكتابات العربية أنه إبن حام إبن نوح أيضاً, ففي تلك النقطة لا يوجد إختلاف في الموروث نظراً للتاقرب الجغرافي ما بين العرب واليهود وكذلك الإندماج الدينب بما أن الإسلام هو هو نفس رسالة النبي نوح عليه السلام.
وهنا يظهر تعارض واضح ما بين المصطلح التاريخي والمصطلح الديني، فمن يتبني المصطلح الديني فقط سيظن أن مصر كان تسمي مصر منذ الأزل او علي أقل تقدير كان إسمها مصرايم, أما التاريخ المصري فلا يرد به هذا الإسم بهذا التفسير علي الإطلاق، والمفاجئة أن كل تلك الإشتقاقات “متزرايم, مصر, متريم وغيرها” لربما أتت من الكلمة المصرية القديمة “متشر” وتعني المكنونة أو المحصنة ومنه اتت الإشارة لمصر بأرض الكنانة في نهاية المطاف.
ولربما كان ذلك الإسم مرتبط في أذهان البدو الآسيويين بسلسلة الحصون الحدودية التي كان تحمي مصر ولم يستطيعوا الإغارة عليها أو إختراقها وبقي المصطلح عالقاً في أذهانهم.
وخلاصة القول أن إسم “مصر” هو موروث لغوي نابع من اللغة العربية نفسها فإن كان شعب مصر يتحدث الآن اللغة المصرية القديمة حتي الآن ” القبطية” فسيطلق علي بلاده إسم “كامي” وهو التحوير النهائي لإسم “كمت” بعد مرور آلاف السنين وهو ما نجده واضحاً في النصوص القبطية التي تشير لمصر بذلك الإسم، أما إسم مصر فكما ذكرنا ظهر بالتعبية مع إنتشار اللغة العربية لمصر.
لم يكن هذا فحسب هو الموروث الآسيوي عن تاريخ مصر فلا يزال هناك الكثير , بل تاريخ كامل موازي يحكي قصة مغايرة لما نعرفه عن تاريخ مصر… ولهذا حديث آخر.