ماهى لغة المصريين القدماء؟
ماهى لغة المصريين القدماء؟

زلزل أرجاء العالم ذلك الحدث الاستثنائي مع نقل المومياوات الملكية من متحف التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية عام 2021.  وكان أبرز فقرات هذه الاحتفالية هي الترنيمة التي كانت باللغة المصرية القديمة. والتي لا تزال عالقة بأذهان كل من شاهد تلك الاحتفالية، ماذا كانت لغة المصريين القدماء؟ وهل توصلنا لمعرفة كيفية نطقها؟

 

كلام الإله

كان المصريين القدماء من أقدم الشعوب التي عرفت اللغة ونظام الكتابة. وكان لهم لغة خاصة بهم أطلقوا عليها “مدو نتر” (كلام الإله). وكذلك “را إن كمت” (لسان مصر). ومنذ أقدم العصور ولتلك اللغة لهجات وطرق نطق مختلفة باختلاف المناطق الجغرافية. كما يحدث اليوم في مصر، فللإسكندرية لهجة تختلف عن القاهرة ويختلفان معاً عن الصعيد وهكذا.

وقد تطورت تلك اللغة بمرور الزمن فما كان شائعاً في العصور القديمة والدولة القديمة تحديدا (عصر بناة الأهرام). اختلف عما تلاه من مراحل تاريخية كالدولة الوسطى والحديثة وحتى العصور المتأخرة.

وكان لتلك اللغة قواعد كمثيلاتها من اللغات فلها قواعد النحو والإعراب الخاصة بها. والتي يتم تدريسها في أقسام المصريات في جميع أنحاء العالم. وحتى داخل مصر حتى يومنا هذا.

لغة الطبيعة

كان المصري القديم دائم التأمل فيما حوله من ظواهر طبيعية. فتفاعل مع الحيوان والنبات والجماد وحتى الظواهر الطبيعية من حوله. فتبلورت أفكاره من بيئته الطبيعية التي عاش فيها على أرض مصر.

ولم تكن اللغة باستثناء عن ذلك فنجد أن العلامات التصويرية للغة المصرية القديمة. نبعت مباشرة من البيئة المحيطة به. فكل العلامات التصويرية لكتابة اللغة المصرية القديمة هى حيوانات وطيور وجماد وحتى أدوات استخدمها المصري القديم في حياته اليومية.

الهيروغليفية ليست لغة

يعتقد الكثير من الناس أن هناك لغة اسمها الهيروغليفية ولكن هذا غير صحيح، حيث أن الهيروغليفية هي خط كتابي وليست لغة، يمكننا تبسيط الأمر بمقارنته بجميع لغات العالم الآن والتي لها العديد من طرق كتابتها، حتى اللغة العربية فلها خطوط كتابية متعددة مثل النسخ والرقعة .. الخ.

أما في مصر القديمة فكان للمصريين في البداية ثلاثة طرق لكتابة لغتهم

الهيروغليفية:

الخط الهيروغليفى
الخط الهيروغليفى

كلمة هيروغليفية هي كلمة ذات أصل يوناني (هيروس – جلوفوس) ويعنى الكتابة المقدسة وذلك بسبب أن هذا الخط قد تكرر على جدران الأماكن المقدسة كالمعابد والمقاصير وحتى المقابر، وهذه حقيقة فهذا الخط كان يتميز بان العلامات يتم رسمها بشكل كامل فالبومة على سبيل المثال.

وهى علامة صوتية تنطق “م” يتم رسمها بكامل تفاصيلها وشكلها على الجدران وفى النقوش والكتابات، وكذلك بقية العلامات، كانت الهيروغليفية هي الشكل التصويري الكامل للعلامات التي تكونت منها اللغة المصرية القديمة.

وهو خط ذو شكل جمالي يتطلب مجهوداً ووقتاً لم يذخره المصريون في سبيل تزيين أماكنهم المقدسة كالمعابد والمقابر.

الهيراطيقية

وهو مسمى يوناني آخر (هيراتيكوس) ويعنى الخط الكهنوتي، وقد اطلق الإغريق هذا المسمى على هذا الخط لاستخدامه بكثرة في البرديات من قبل الكهنة.

خاصة في العصور المتأخرة، وهذا المسمى ليس دقيقاً بشكل كامل لأن هذا الخط ما هو إلا تبسيط للخط الهيروغليفي,.

وهو تطور منطقي حيث أن حياة المصريين القدماء كانت معتمدة بشكل كلى وكامل على التدوين، كل كبيرة وصغيرة من سجلات كان يتم تدوينها مثل التحقيقات القضائية والسجلات.

وحتى التعاملات اليومية فى المخازن وصوامع الغلال كان يتم تدوينها أيضا، ولم يكن الخط الهيروغليفي عملياً في تلك النقطة. لأنه يتطلب وقتاً ومجهوداً كبيرا لكتاباته ومن ثم تلوين العلامات.

الخط الهيراطيقى.
الخط الهيراطيقى.

وإذا اتخذنا البومة والتي تنطق “م” مرة أخرى فسنجد أن المصري القديم دونها في الخط الهيراطيقية. بشكل مختصر ومبسط ولكنه في نفس الوقت زاد من صعوبة التعرف على العلامة نفسها بالنسبة إلينا في العصور الحديثة.

أما فى مصر القديمة فكما ذكرت ان هذا جزء من الحياة اليومية نفسها، فلنتخيل أن اللغة العربية قد اندثرت ولم يتبق منها سوى خط واحد وليكن النسخ.

سيجد الدارسين بالتأكيد صعوبة في التعرف على الحروف بالخطوط الأخرى مع تنوع أشكال الكتابة للغة الواحدة والغرض منها.

الخط الديموطيقى

الخط الديموطيقى.
الخط الديموطيقى.

“ديموس أو ديموتيكوس” تسمية يونانية أخرى وتعني: شعبي ، حيث اعتقد الإغريق أن هذا الخط كان شعبياً بين العامة، بينما فى واقع الأمر هو تبسيط وتطور للهيروغليفية والديموطيقية، وكان يستخدم فى الحياة اليومية مثلما نفعل عندما نستخدم خط الرقعة حالياً على سبيل المثال.

الإغريق في مصر

على مر العصور كانت اللغة هي أحد أكبر العوامل الثقافية المؤثرة في الشعوب ولطالما لجأت القوى الاستعمارية قديماً وحديثاً لفرض تلك السياسة. والتي ستمكنهم مع مرور الزمن من التأثير وبسهولة في ثقافات الشعوب التي تم غزوها.

السيطرة تكون أسهل بهذه الطريقة بمبدأ: إذا كنت تتحدث لغة المستعمر فلربما يكون ولاء أحفادك له وليس لبلادهم، بل أنها ستكون آداة ممتازة في عملية إدخال ثقافة الغازي ونشرها بسهولة تامة.

الإسكندر الأكبر.
الإسكندر الأكبر.

تحقق هذا بالفعل لأول مرة فى التاريخ منذ دخول الإسكندر الأكبر وبعده، فالإسكندر كان إغريقى الثقافة رغم هوسه وحبه الواضح لمصر.

، فسنجد انه جعل الإسكندرية أهم مدن إمبراطوريته المترامية الأطراف وكذلك فإنه لم يخف اعتناقه واحترامه للديانة المصرية القديمة.

واعتبار نفسه ابنا للإله “آمون” سيد آلهة مصر القديمة، بل أن النصوص تخبرنا بتحنيطه ودفنه على الطريقة المصرية القديمة أيضاً.

إلا أن لهذا بعد سياسي آخر حيث أن فعل كل هذه الأشياء نجح في تهيئة الشعب المصري لقبوله حاكماً عليهم برضاهم الكامل.

الخط القبطي

في تلك المرحلة التاريخية الهامة للإسكندر ومن تلاه والتي يطلق عليها العصور البطلمية (نسبة إلى أن كل ملوكها تسموا ببطلميوس.

وانتهت تلك الحقبة بانتحار كليوباترا آخر ملكة بطلمية تحكم مصر)، ظهر فى مصر طريقة كتابية جديدة سميت (كوبتيك)، وهو ما نطلق عليه القبطي في العصر الحديث.

وهنا لا بد أن ننوه لبعض الأمور، مع دخول الإغريق كان جزءاً من ثقافتهم أن بلادنا يطلق عليها “أيجوبتس” وأن المواطن المصري يطلق عليه “المواطن الأيجوبتى” نسبة إلى “أيجوبتس”.

وهى الكلمة التي تحولت بعد ذلك إلى قبطي وأقباط، فكلمة قبطي لا تعنى مسيحي وإنما تعنى مصري، والخط القبطي يعنى الخط المصري.

الخط القبطى.
الخط القبطى.

كان الخط القبطي هو رابع طرق كتابة اللغة المصرية القديمة “مدو نتر” وظهر في العصور البطلمية بسبب محاولة الإغريق نشر ثقافتهم في مصر وحاولوا نشر اللغة اليونانية.

وهنا كتب المصريين لغتهم “مدو نتر” بحروف يونانية وأضافوا لها سبع علامات من الخط الديموطيقى ومن هنا نشا الخط القبطي.

تفادى المصريين اندثار لغتهم بتلك الطريقة وفعلوا مثلما يفعل البعض اليوم فيكتب العربية بحروف إنجليزية فيما يسمى “فرانكو آراب” فبدلا من صباح الخير يكتبونها هكذا : Saba7 El5er.

روما وحروب الوثنية

كانت الإمبراطورية الرومانية فى البداية تدين بعقيدتها اليونانية الرومانية فيما عرف باسم مجموع آلهة الأوليمب، وعندما ظهرت المسيحية قامت روما بكل شيء ممكن لمحاربة الدين الجديد مع انتشاره في أرجاء الإمبراطورية وحتى روما نفسها.

وفى عصور الاضطهاد المسيحي بدأت هجرات كثيرة من أرجاء الإمبراطورية للاحتماء بأماكن نائية كان من ضمنها  مصر وجنوبها بشكل خاص.

حروب روما ضد الوثنية.

وقد تعايش المصريون مع الديانة الجديدة. بل واعتنقها قطاع منهم وظلت شعائر ديانة المصريين القدماء. تمارس جنباً إلى جنب مع شعائر المسيحية في نفس الأماكن والتي كان أشهرها معبد فيلة في أسوان.

شهدت عصور الاحتلال اليوناني تزايد نسبة الأمية بين الشعب المصري بشكل طاغي.

ووقتها كان الخط القبطي هو المستخدم والشائع في جميع أنحاء مصر، وكما ذكرت سابقاً فإن الخط القبطي كان مكتوباً بحروف يونانية أي أنه لا صلة له بالعلامات التصويرية القديمة للخطوط القديمة: (هيروغليفي، هيراطيقى، ديموطيقي).

وكانت الضربة القاصمة عندما تحولت روما نفسها للمسيحية وأعلنت الحرب على ما أطلقت عليه الوثنية، وهى كل المعتقدات غير المسيحية.

وقد شملت تلك الحرب إغلاق المعابد وتدميرها وتجريم أي طقوس بها تحت طائلة الموت، وقد سمحت تلك التشريعات للدهماء من العامة باقتحام تلك الأماكن وتدميرها في أماكن عديدة من بينها مصر.

وقد كتبت تلك الممارسات شهادة وفاة الديانة المصرية القديمة والتي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالخطوط المقدسة الأصيلة.

العرب المسلمون

مع دخول العرب المسلمون إلى مصر كان الخط القبطي هو السائد كما ذكرنا، وكانت المسيحية ذات انتشار كبير في مصر.

بينما اندثرت الخطوط الكتابية القديمة وفقد حتى المصريين القدرة على قراءتها لتضيع معها طريقة كتابة تلك الخطوط فى غياهب النسيان.

وقد كانت تلك التركيبة للشعب المصري هو ما جعل الأمر يختلط على الجميع حتى الآن فاقترن لفظ “قبطى” بكلمة “مسيحى”.

ولا يزال البعض يظن أنها تعنى مسيحي، مع أن الحقيقة هي أنها تعنى مصري مهما كانت ديانته.

بمرور مئات السنوات كانت اللحظة الفارقة الأخيرة في التاريخ المصري هي تعريب الدواوين وجعل اللغة العربية هي لغة التعاملات الحكومية.

مثلما حاول الإغريق فعل ذلك من قبل، وقد نجح العرب فيما فشل فيه الإغريق وأصبحت اللغة العربية بالفعل هي الأكثر انتشارا في ربوع مصر.

بينما انزوت اللغة المصرية القديمة والخط القبطي على نطاق أضيق وكانت أشهر المؤسسات التي استخدمته هي الكنائس المصرية.

، خلاصة الأمر وعلى الرغم  من تعريب مصر فإن اللغة المصرية ظلت حية تردد في أنحاء البلاد.

ولم يكن تحول مصر إلى العربية له بعد لغوي فقط وإنما كان له بعد ثقافي تمثل في تحول اسم البلاد من أيجوبتس إلى “مصر”.

ومن ثم ارتباط التاريخ المصري بكل الخرافات التي كانت تتردد في بلاد العرب عن الحضارة المصرية القديمة مع اندثار اللغة المصرية القديمة وعدم قدرة أحد على قراءتها.

حجر رشيد.
حجر رشيد.

حتى تم انتشال الخطوط القديمة مرة أخرى مع قدوم الحملة الفرنسية والعثور على حجر رشيد وفك رموزه على يد عالم الآثار “شمبليون” والذى نجح في إعادة قراءة الخطوط المصرية القديمة واستطاع حرفياً انتشال الحضارة المصرية مرة أخرى من الرمال وغياهب النسيان.

ولهذا قصة أخرى.