مارمينا العجايبي: القديس المصري الذي اعترفت اليونيسكو بكنيسته كموقع تراث عالمي
مارمينا العجايبي: القديس المصري الذي اعترفت اليونيسكو بكنيسته كموقع تراث عالمي

علي الرغم من الثراء الذي لا مثيل له للتاريخ والآثار المصرية إلا أن مصر تمتلك فقط  سبعة مواقع تندرج كمواقع تراث عالمي تابعة لليونيسكو, واحد منها موقع تراث طبيعي (وادي الحيتان) وستة مواقع تراث ثقافي يعرف خمسة منها الجميع تقريباً فمن لم يسمع عن الأقصر والقاهرة والتاريخية ومنف وجبانتها والنوبة وكذلك سانت كاترين, وآخرهم موقع يدعي أبو مينا!

فما هو ذلك الموقع الهام الذي يسمع به القليل بينما إدراجه كموقع تراث عالمي يعكس أهميته القصوى.

ماهي وأين تقع أين تقع آثار أبو مينا؟

تقع تلك المنطقة علي الحافة الشمالية لصحراء مصر الغربية وتبعد حوالي 12 كلم عن برج العرب, ويطلق عليها بدو المنطقة إسم “أبو مينا” والتي كانت في الماضي عبارة عن قرية صغيرة بها مدفن القديس مينا, وكانت تلك المدينة مقدسة في أواخر العصور الرومانية ومن ثم أصبحت أهم مركز مسيحي للحج في مصر بأكملها.

موقع أبو مينا
موقع أبو مينا

متي تم إكتشاف منطقة أبو مينا؟

وقد تم الكشف لأول مرة عن ذلك المكان عام 1905 علي يد عالم الآثار الألماني “كاوفمان” والذي قاد عملية حفائر منظمة نجح مع حلول عام 1907 في الكشف عن أجزاء كبيرة من الموقع, ومنذ ذلك العصر توالت البعثات علي الموقع فقام الألمان مرة أخري باستكمال الحفائر, ثم الإنجليز وحتي المتحف القبطي بالقاهرة في الخمسينيات, حتي إستقر الأمر مع حلول الستينات والمعهد الألماناني للآثار متولى مسئولية التنقيب بالمنطقة.

وقد حازت تلك المنطقة علي أهمية كبرى لدي المذهب الأرثوذكسي فتقوم الكنيستان المصرية والبونانية الأرثوذكسية بالطقوس في البازيليكا الكبري بالموقع, كما قام البطريرك الراحل “كيرلس السادس” بإقامة دير بالقرب من القرية القديمة.

أبو مينا: موقع تراث عالمي

وفي عام 1979 ومع الإدراج الأول والأخير لمواقع آثار مصرية لتصبح موقع تراث عالمي, أقرت لجنة اليونيسكو في إجتماعها بين 22 و 27 أكتوبي من نفس العام بإدراج أبو مينا ضمن قائمة مواقع التراث العالمي ليصبح واحداً من أهم الأماكن التاريخية بالعالم.

أهمية منطقة أبو مينا في تاريخ المسيحية

مينا هو قديس مسيحي مصري عاش في نهاية القرن الثالث وبداية الرابع الميلادي, وكان مصري الإستشهاد, علي أنه يبدو أن هناك خلط بين قصة أبو مينا وبين جندي حمل نفس الإسم أستشهد في عصر دقلديانوس في آسيا الصغري مع الإضهاد الأكبر  للمسيحية.

مارمينا العجايبي
مارمينا العجايبي

ولد أبو مينا ودفن في منطقة “مريوط” والتي تبعد حوالى 56 جنوب غرب مدينة الإسكندرية, ومع دفن ذلك القديس المهم بها أصبح ذلك المكان من اهم مراكز الزيارة لدي المسيحيين,وكما إشتهر أبو مينا أيضا بالقدرة علي الشفاء.

تروي المصادر المسيحية حدوث معجزات حول قبر القديس مينا وكذلك الكنائس المختلفة التي بنيت في ذلك الوقت.

ومع تطور الأمور إستدعت الظروف بناء مدينة كاملة تحوي بين جنباتها أماكن للإقامة وكذلك حمامات عامة وخدمات ومستلزمات الوافدين للمكان, والذين كانوا يغادرون ومعهم قنينات صغيرة من الفخار المحروق يحمل صورة الدقيس مينا بين جملين راكعين بينما الوجه الآخر يحمل إسمه.

وقد أربتط القديس مينا بالجمال وكانت تلك القنينات يتم ملئها بالماء المقدس أو الزيت وقد نجي الكثير منها وموجودين بمتاحف كثيرة وعلي رأسها متحف الإسكندرية.

ومع حلول القرن الخامس الميلادي وصلت تلك المنطقة إلى أوج مجدها في القرن الخامس الميلادي وكانت عامرة بالزوار وطالبي البركات, وقد بدأ تدهور أحوال المنطقة مع تولي البيزنطيين للحكم فتدهور حال الأمن في المنطقة ومن ثم وفي القرن التاسع الميلادي في العصر العباسي تم هدم الكنيسة وأعيد بناؤها مرة أخري.

إلا أن حلول العصور الوسطي أعاد للمكان أهميته وكانت المفارقة ان المكان أصبح محطة للحجاج المسلمين في طريق القوافل الوافدة من ليبيا وشمال إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية والعكس.

من هو القديس مينا؟

وأراد الإله ان يكشف مكان جسد القديس مينا, وكان هناك ذلك الراعي المعين في تلك الصحراء, وذات يوم ذهب شاه كان يعاني من الجرب إلى ذلك المكان وغطس في ماء النبع القريب وأخذ يغمر نفسه ويدور بداخلها وشفي علي الفور, ولما رأي الراعي هذا الأمر وفهم المعجزة نال منع العجب والدهشة, وبعد ذلك أصبح يأخذ بعضاً من الغبار من الضريح ويخلطه بالماء ويفرك به جلد الخراف, فإذا كانوا مرضي بالجرب تم شفاؤهم علي الفور, وكان يفعل ذلك طول الوفت, وشفي كل المرضي الذين كانوا يأتون بنفس الوسيلة.

سنسكار القديسين

وهو القديس “مينا” أو سان مينا, أو مارمينا العجايبي.

أيقونة مارمينا والمسيح, اللوفر.
أيقونة مارمينا والمسيح, اللوفر.

تروي المصادر المسيحية الكلاسيكية والتي ترجع للقرن الثامن الميلادي أنه ولد في فريجيا وهي إمارة قديم تقع في وسط غرب الأناضول لأبوين ميسوري الحال من أصل مصري, وقد إنضم للجيش الروماني وفر مع الفارين من إضهاد دقلديانوس للمسيحية ولكنه عاد وأعلن مسيحيته حتي إنتهي الأمر بقطع رأسه, وهي قصة مشابهة لمعظم سير قديسي تلك الفترة الذين كانوا جنوداً في الجيش الروماني ثاروا علي أوضاع الظلم والإضهطاد الديني الذي كانت تمارسه روما وقتها ضد معتنقي المسيحية وقد إستمر ذلك الإضهاد حتي تحول الإمبراطور قسطنطين الأكبر إلى المسيحية ليصبح أول إامبراطور روماني مسيحي وكذلك قديس معترف به من قبل الكنيسة لتتحول روما بعدها إلى المدافع الأول عن المسيحية بل والمضهد الأول لغير المسيحيين في كل مكان طالته أيديهم.

أما عن جسد مار مينا فقد أراد الرومان حرق الجسد ولكن عدد من أصدقائه نجحوا في أستنقاذ الجسد وقد كانت الفرقة التي ينتمي إلها القديس مبعوثة إلى مصر لصد غارات البربر وإصطحب رفاقه الجسد معهم علي جملين , وفي بقعة ما تفرق الجنود وتركوا الجسد المربوط بين الجملين ولكن الجملين رفضوا التحرك فتم دفن جسده في نفس البقعة التي توقفوا فيها.

أبو مينا: قبلة الحجاج.

وبعد الدفن شاعت معجزات هذا القديس في مصر وحتي خارج حدودها, وخاصه قدراته علي شفاء المرضي فقام الأهالي ببناء مزار صغير فوق القبر, وإستمرت سيرة أبو مينا في الشيوع بين الناس وإستمر وفود الحجاج لتلك المنطقة بأعداد كثيفة, حتي أن بعض المصادر تروي أن البطريرك أثاناسيوس الرسولي كان ينوي بناء كنيسة بتلك المنطقة ولكن ذلك لم يتحقق.

وفي عصر الإمبراطور فالنتين الأول بقال أن جسد القديس مينا قد تم نقله إلى سرداب بالأسكندرية ومع ذلك التطور لم تستطع المنطقة إستيعاب العدد الهائل للحجاج الوافدين, وفي عصر الأسقف ثوافيلوس شيد الإمبراطوري أركاديوس كنيسة جديدة للحجاج تحمل إسم القديس, ومن ثم أصبح العصر الذهبي للقديس في أواخر القرن الخامس وبداية السادس الميلادي وفي تلك الفترة إتخذت المنطقة شكلها النهائي.

وتعد البازيليكا الكبري التي تم بنائها في ذلك الوقت هي أضخم كنائس مصر, وأصبح الإهتمام بالمكان من مهام الأباطرة فأقيمت الأماكن لإقامة الحجاج, وكذلك الحاميات لحمياتهم , بل أنه تم بناء حمامين مجهزين بالماء الساخن للرعاية الصحية ونظاقة الحجاج والزوار, وقد كان هذا العمل فائق الصعوبة نظرا لطبيعة المنطقة الصحراوية فتم حفر بئرين عميقين جداً وفي منازل القرية تم إنشاء الخزانات تحت الأرض والتي يتم ملؤها بماء الأمطار الشتوية.

وفي الفترة ما بين القرن الثاني عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي شهدت منطقة أبو مينا الإنهيار النهائي, ومن ثم الإندثار لتبتلعها رمال الصحراء بعد تاريخ حافل من مئات الآلاف من الزوار الذين أتوا لنيل البركات من ذلك القديس الشهيد, وقد كان السبب المباشر في ذلك غارات الفرس في القرن الثالث عشر حتي تم نثل رفات القديس “مينا” إلى كنيسة مارمينا في مصر القديمة مع حلول القرن الرابع عشر.

تخطيط منطقة أبو مينا: البازيليكا الكبري

وهو أضخم الكنائس في مصر ويبلغ طولها حوالي 60 متر وعرضها ما يقارب من 27 متر وتتخذ شكل بازيليكا كانت مكسوة بالمرمر في مجدها القديم, وترجع فترة البازيليكا الكبري إلى أواخر القرن الخامس الميلادي في فترة حكم الإمبراطور “زينون” أما المباني الملحقة فقد تم إضافتها علي فترات متباعدة, وعلي الرغم من فخامة تجهيزات الكنيسة وضخامتها, إلاأن أعمدتها المرمرية عبارة عن قطع أعيد استخدامها من آثار أخري كانت قائمة بالإسكندرية.

كنيسة المدفن

وفي الغرب من البازيليكا الكبري توجد كنيسة المدفن وهي الجزي الأوسط من مبني الكنيسة الكبرية المكونة من ثلاثة أجزاء والتي تقع بمنطقة الحجاج, وتعلو تلك الكنيسة مقبرة القديس مينا مباشرة وهي أهم مباني المنطقة وكذلك أكثرها تعقيداً, في عام 1924 إستطاع عالم الآثار الإنجليزي “بيركنز” إكتشاف مراحل البناء المختلفة للمكان ليصل إلى آخر مرحلة من تاريخ البناء الخالي وهو عصر البطريرك ميخائيل الأول 744-768م, وقد تم ذلك الكشف عن طريق إستخدام المجسات الصغيرة.

بازيليكا المدفن
بازيليكا المدفن

مدفن القديس مينا

ويقع ذلك المدفن أسفل الكنيسة وهو المكان الذي كان ياتي له الناس لزيارة القديس مينا منذ البداية, وتروي لنا المصادي الكنسية أن مقبرة القديس مينا كانت فوق الأرض في البداية ومن ثم تم نقلها لتحت الأرض, وهي عبارة عن ضريح يتخذ شكل الفناء المفتوح وبه أربع أعمدة , وقد كشفت الحفائر عن مبني فوق الأرض من الطوب اللبن يعود لأواخر القرن الرابع الميلادي ولم يمكن التأكد من إحتمالية أن يكون هذا المكان هو القبر الذي أقيم فوق الأرض أم لا.

المعمودية

وتقع غرب كنيسة المدفن وقد تطورت معماريا مع البازيليكا الكبري , أما جنوب كنيسة المدفن فيوجد مبني نصف دائري لم يستطع العلماء التوصل للغرض من بنائه حتي الآن أو وظيفته.

دور ضيافة الحجاج

وتقع شمال ميدان الحج ولم تسفر عمليات التنقيب إلا عن جزء صغير منها وللأسف فإن الهيكل الأساسي لها قد طمست معالمه بسبب توالي عمليات البناء فوقها في العصور الوسطي.

مركز الحجاج
مركز الحجاج

الحمام المزدوج

في بداية حفائر كاوفمان في تلك المنطقة كان يعتفد أن تلك الحمامات والتي كشف عن جزء صغير منها عي عبارة حمامت صغيرة ملحقة بدار العبادة إلا أنه مع حلول عامي 1964,1965 أثبتت الحفائر أن تلك الحمامت كانت مخصصة للحجاج الذي أتوا للإقامة فترات طويلة في المنطقة.

الحمامات
الحمامات

أبو مينا وخطر الإندثار

مع حلول عام 2001 إنتقل موقع أبو مينا الأثري من موقع تراث عالمي إلى موقع تراث عالمي مهدد بالخطر علي قائمة اليونيسكو, وقد كان التهديد المباشر للموقع بسبب المياه الجوفية التي تستمر في الإرتفاع في المنطقة, ومنذ ذلك التاريخ بدأت محاولات الحكومة المصرية بإشراف اليونيسكو محاولات إنقاذ الموقع , وقد أنفقت الحكومة المصرية حتي عام 2009 حوالي 45 مليون جنيه لتنفيذ خطة إنقاذ عاجلة للموقع عن طريق مضخات المياه والبيارات التي تساعد في رفع ضغط المياه الجوفية علي هيكل الموقع,ومع حلول عام 2009 تم رفع الموقع من قائمة المواقع المهددة.

وفي الفترة ما بعد 2009 بدأت المياه الجوفية في تهديد الموقع مرة أخري وقد إتجهت الحكومة المصرية لسلسلة من التعديلات علي نظم الصرف الصحي للمناطق المحيطة بالموقع علي مساحة تزيد علي ألف فدان يحيط 217 منها بمحيط المنطقة الرئيسية لآثار أبو مينا,كما إتجهوا لتغيير أنظمة ري أراضي المزارعين في محيط الموقع ليتحول إلى التنقيط لتقليل المياه التي تتسرب تحت الأرض ولا تزال الجهود قائمة حتي يومنا هذا لإنقاذ ذلك الموقع الفريد الذي يعد كنزاً قومياً ليس لمصر فقط ولكن للعالم أجمع.