لا تتفاخر بانك تستطيع أن تشرب إبريقاً من الجعة فإنك بعد ذلك ستتكلم وسيخرج من فمك كلام بلا معني, وإذا سقطت وتحطمت أعضاؤك (عظامك) فلن تجد أحد يمد لك يد العون, أما إخوانك في الشرب فسوف يقولون: إبعدوا عنا ذلك الأحمق, وإذا ما بحث عنك أحد ليسألك فسيجدك ملقي علي الأرض مثل الطفل الصغير.
من نصائح الحكيم المصري آني
كان المصريون القدماء أول الشعوب التي صنعت (الجعة) البيرة وقطرتها, وفي فبراير من 2021 تم إكتشاف ما يعتقد أنه أول معمل للجعة في التاريخ في شمال منطقة أبيدوس بمحافظة سوهاج , وقد تم ذلك الكشف علي يد البعثة المصرية الأمريكية المشتركة, وقد أثبتت الدراسات أن ذلك المصنع كان ينتج حوالي 22.400 ألف لتر من الجعة في الدورة الواحدة.
في مصر القديمة كانت الجعة هي المشروب الأساسي بل أن الوجبة المصرية التقليدية في العصور المصرية القديمة كانت مكونة من الخبز والجعة, وقد تجاوز دور الجعة في مصر القديمة من مجرد مشروب عادي إلى تقدمة وقرابين منذ أقدم العصور, ولم تكن البيرة هي المشروب الوحيد الذي عرفه المصريون القدماء فقد تعددت أنواعها هي والنبيذوتمت صناعتهم من مواد مختلفة, إلا ان المثير للإهتمام أن ذكر الشراب في أدب الحكمة في مصر القديمة كان للتحذير من عواقب الإفراط فيه والوصول لمرحلة غياب العقل, كما ذكرنا في بداية المقال نقلاً عن نصائح الحكيم “آني”
تاريخ صناعة الجعة في مصر
ورد ذكر الجعة في النصوص المصرية القديمة باستمرار وكان المصري القديم يطلق عليها مسميات حسب نوعها كان أشهرها “حنقت”أو “حقت”, وقد وردت أيضاً كنوع من التقدمات والقرابين السائلة, وبالنسبة لعصر ما قبل إكتشاف 2021 فإن أقدم ذكر لمصنع للجعة كان في الأسرة الثالثة لمعمل تديره النساء يليله ذكر في الأسرة الخامسة, أى أن صناعة الجعة قد تزامنت مع نشاة الحضارة المصرية القديمة علي ضفاف النيل, علاوة علي ذلك فقد تم العصور علي الكثير من اواني الجعة التي تبخر ما فيها بمرور الزمن منذ أقدم العصور المصرية وكان كشف 2021 هو الذي ألقي الضوء علي المراحل المبكرة لنشاة تلك الصناعة.
لم يكتف المصريون بصناعة الجعة فحسب, فقد وجدنا أشارات إلى إستيراد المصريين لها, ولكن في عصور متأخرة نسبياً وعلي نطاق ضيق جداً, بل أنه لا يوجد في التاريخ المصري سوي إشارات قليلة مبهمة علي الإستيراد كان اهمها ما ذكر في عصر الدولة الحديثة من إستيراد الجعة من بلاد “قدي” وهي احد الإمارات الآسيوية القديمة.
ولم يقتصر الأمر علي ذلك فنجد الرحالة والمؤرخين القدامي قد أمدونا بمعلومات عن هذا الأمر, فكتب “هيرودوت” ان المصريون يستعملون شراباً مصنوعاً من الشعير, بينما ديدوروس (ديودور الصقلي) يقول [انهم صنعوا شراباً من الشعير لا يقل في جودته عن النبيذ من ناحية الرائحة وحلاوة المذاق, بينما سترابو يضيف علي ذلك فيقول أن جعة الشعير هي صنعة مصرية خاصة وشائعة ولكن طريقة تحضيرها تختلف من منطقة لأخري كما أضاف أنها كانت أحد المشروبات الأساسية بمدينة الإسكندرية, ويذكر أثينيس أن المصريين الذين لم يكن لديهم القدرة علي شراء النبيذ كانوا يستعملون شراباً مسكراً يتكون من الشعير (يقصد الجعة).
أين ظهرت مناظر صناعة الجعة في مصر القديمة؟
صورت الجعة في العديد من المقابر المصرية, سواء طريقة صناعتها أو حتي تصويرها كقربان أو تقدمة, كانت الجعة تظهر دائما في مناظر التقدمات والقرابين منذ أقدم العصور أما صناعتها فظهرت في العديد من المقابر لربما منذ الأسرة الخامسة والسادسة في مقابر سقارة ودير الجبراوي, وإستمر ذلك التصوير في الدولة والسطي وحتي مقابر الدولة الحديثة بغرب طيبة.
وفي كل المناظر التي ظهرت فيها صناعة الجعة نجدها مقترنة بصناعة الخبز, فكانت صناعة الجعة تلي صناعة الخبز دائماً, وقد ظهرت نماذج فريدة ذات طابع خاص تصور معامل وورش صناعة الجعة, وقد ظهرت في أمثلة بسيطة تعود للدولة القديمة تصور تماثيل لنساء تقوم بعمل الجعة بشكل منفرد, إلى أن تطور الأمر لتصوير معامل صناعة الجعة بشكل أكبرأهمها من الدولة الوسطي ومقبرة الموظف المصري “مكت رع” والذي كان ساقياً ملكياً وعاش في عصر الملوك:منتوحتب الثاني والثالث من الأسرة الحادية عشر ولربما عاصر أمنمحات الأول أول ملوك الأسرة الثانية عشر, وقد عثر علي العديد من النماذج الخشبية للحياة اليومية والصناعات المختلفة بمقبرته والتي حملت رقم 280 بغرب طيبة (شبخ عبد القرنة), وتعرض محتوياتها الآن بمتحفي القاهرة والمتروبوليتان بنيويورك.
أسرار التحنيط في مصر القديمة: خطواته وكيف كان يتم؟
طريقة صناعة الجعة المصرية (البوظة)
أعطتنا الأبحاث العلمية الحديثة المعتمدة علي الجداريات والنماذج التي تركها المصري القديم بالإضافة إلى بقايا الأدوات والمعامل التي تم العثور عليها تصوراً شبه كامل عن كيفية صناعة الجعة المصرية, إلا أن هناك وصفاً منسوباً إلى “زوسيسوس” الأخميني – وهي مدينة أخميم الآن بمحافظة سوهاج والتي كان تسمي في العصور اليونانية الرومانية “بانوبولوس”- والذي عاش نهاية القرن الثالث الميلادي في مدينة الإسكندرية يقول فيه: خذ مقداراً من الشعير الرفيع المنتقي بعناية وإنقعة في الماء يوماً ثم عرضه للهواء بشكل كامل ثم قم بترطيبه بالماء مرة أخري لمدة خمسة ساعات كاملة وقم بتصفيته في وعاء مقعر له ثقوب (كالمنخل).
ولسوء الحظ ينقطع الوصف هنا لان الأسطر التي تلت غير ذات معني واضح, ولكننا نجد عالم الآثار “جرونر” يستكمل تلك العملية بان الشعير كان يجفف في الشمس لكي تنفصل القشرة الخارجية عن حبتها حيث أن القشر ذو مذاق مر ويعطي الجعة مذاقاً غير جيد, ونتابع مع “زوسيسوس” مرة أخري فيقول: يجب طحن ما تبقي لتصنع منه عجينة بعد إضافة الخميرة كما يتم في صناعة الخبز وبعدها يحفظ المكون في مكان دافيء.
بعد تمام عملية الإختمار تعصر تلك الكتلة من خلال قطعة قماش مصنوع من الصوف الخشن أو من خلال منخل دقيق لتصفية السائل الحلو, إلا انه هناك بعض الناس تضع أرغفة العيش الجافة في وعاء مليء بالماء الذي يتم تسخينه ومن ثم يتم تصفية السائل منه ووضعه علي النار مرة أخري حتي يصل للغليان.
والمثير للإعجاب في وصف زوسيوس أن تلك الطريقة كانت شائعة حتي زمن قريب – لربما لا تزال موجودة حتى الآن في ربوع مصر في العصر الحديث, وكذلك نري النصوص تتحدث عن الجعة تصفها بحلاوة المذاق وإستخدام المصريون لنكهة تضاف للجعة مثلما تستخدم حشيشة الدينار الآن فقد إستخدم القدماء مواد مثل الترمس والكرفس وجذور نبات الذاب والعصفر, كذلك قشر النارنج والراتنج وعلي الرغم من ذلك فالشواهد والأدلة غير مرضية بالشكل الكافي فنجد مثلا الكاتب الزراعي الروماني المدعو “كوليوميلا” يقول بان المصريون جعلوا مذاق جعتهم أكثر لذة بإضافة التوابل الحريفة أو الترمس لها, إلا أن عالم الآثارا “ديتر أرنولد” يفسر تلك العبارة بان المصريون كانوا ياكلون تلك المواد المحسنة للمذاق أو حتي المرة كالترمس مع الجعة لزيادة الإستمتاع بها ( وهو ما يطلق عليه المصريون الآن في العامية :المَزّة, بالإضافة إلى ذلك كانت تلك العادة شائعة لدي الرومان فقد كانوا هم ايضاً يتناولون المشهيات والمقبلات بجانب الجعة.
هلاك البشرية وقصة أول مصاص دماء في تاريخ مصر القديم
وصفة صناعة الجعة علي الطريقة المصرية القديمة
المقادير: رغيف من خبز الشعير, لتر ماء, قدر من ماء منقوع الترمس
طريقة التحضير:
- ينقع الخبز في الماء لمدة يوم ثم يتم تصفيته ووضعه في الشمس يوماً آخر حتي يجف.
- يعاد نقع الخبز مرة أخري في الماء حوالي خمسة ساعات, يليله وضعه في مكان دافىء ليتخمر
- يضاف منقوع الترمس لإكساب البيرة الطعم المر وتقدم.
أقدم مصنع للبيرة في التاريخ
في فبراير من العام 2021 خرجت وزارة الآثار المصرية ببيان أعلنت فيه عن إكتشاف أقدم مصنع للبيرة في العالم, وقد كان ذلك الكشف عن طريق البعثة المصرية الأمريكية التي تعمل بمنطقة آثار أبيدوس بسوهاج, ويعود تاريخ ذلك المصنع لعصر الملك مينا (نعرمر) موحد القطرين أول ملوك الأسرات المصرية والذي وحد القطرين حوالى عام 3100 ق.م, وعلي الرغم من أن نفس الموقع كان قد تم إكتشافه في بداية القرن العشرين إلا أنه لم يكن هناك توثيقات كافية للموقع أو حتي ماهيته وأهميته, وأعادت البعثة تحديد ذلك الموقع مرة أخري ومن ثم إنتشاله ودراسته وتوثيق محتوياته لتعلن عن ماهية المكان كمصنع لإنتاج البيرة بقابلية عالية وخط إنتاجي ضخم كما أفاد رئيس البعثة “ماثيو أدامز”.
ويتكون ذلك الموقع من ثمانية قطاعات مثلت وحدات للإنتاج, وكل وحدة منهم إحتوت علي ما يقرب من 40 حوض من الفخار موضوعين في صفين يبلغ طولهم حوالي 20 متر كانت مهمتهم تسخين خليط الحبوب والماء.