أم سيتي: لغز آخر كاهنة لمعبد أبيدوس
أم سيتي: لغز آخر كاهنة لمعبد أبيدوس
في هذا المقال سنستكمل رحلتنا مع القصة العجيب لدوروثي إيدي أو “أم سيتي”

مع سليم حسن

بمرور الوقت ومع تواجد ام سيتي في مصر بذلت قصاري جهدها لكي تستطيع أن تكون بالقرب من الآثار المصرية وبالفعل وجدت سكناً في قرية نزلة السمان وبدأت في البحث عن وظيفة متعلقة بالآثار لتجعلها قريبة مما تحب, وبالفعل كانت أم ستي أول سيدة تلتحق بالعمل في هيئة الآثار المصرية وكان عملها رسام وإن لم تكن هذه وظيفتها فقط, فقد كانت تشارك في كل ما تستطيع أن تشارك به وتفعل كل ما يساعد علي سير العمل بموقع أهرامات الجيزة وقد عاصرت أم سيتي عالم الآثار الأسطوري “سليم حسن” كاتب موسوعة مصر القديمة, وقد عملت رسامة لبعثة حفائره وقام سليم حسن بتعيينها سكرتيرة له.

أم سيتي علي يسار سليم حسن.
أم سيتي علي يسار سليم حسن.
كانت أم سيتي خير عون لكل المصريين الذين عملت معهم, فكانت تساعدهم بلغتها الإنجليزية في المقالات والنشرات العلمية, وعلي الرغم من إدعاء البعض نسب بعض إكتشافات سليم حسن لها إلا ان من قام بالرد كان هي حينما ذكرته كأخ ومعلم أكبر تعلمت منه علم الآثار والحفائر, وقد كان العرفان والمحبة متبادلاً فنجد سليم حسن يخصها بالشكر في إهداء خاص في النشرة العاشرة لأعمال حفائره في الجيزة ويوجه لها شكر خاص علي مجهوداتها, وخلال وقت قصير إستطاعت أم سيتي أن تصادق عمالقة علماء الآثار مصريون كانوا أو أجانب.
أم سيتي وعالم الآثار المصري لبيب حبشي
أم سيتي وعالم الآثار المصري لبيب حبشي
إلا أن أم سيتي لم تنس عشقها القديم فاعتاد خفراء نزلة السمان رؤيتها تقدم القرابين لآلهة مصر القديمة وتناجي الإله رع حور آختي – الذي يمثله أبو الهول- وكالمعتاد تركوها وشانها فهي لم تحاول أن تدعو أحد للإعتقاد بما تعتقد هي ولم تحاول مناقشة أحد لإقناعه بما تفعل.

مع أحمد فخري

” من أعلى قمة الهرم الأكبر , يممى وجهك ناحية الغرب , إسألى “أوزير”
عن وجهتك القادمة, ولسوف يرشدك “
من مذكرات ام سيتي علي لسان عالم الآثار المصري أحمد فخري
عالم الآثار المصري أحمد فخري
عالم الآثار المصري أحمد فخري
بعد العمل مع العملاق سليم حسن كانت ام سيتي على موعد عملاق وطني آخر في مجال الآثار وهو “أحمد فخري”, إلتحقت ام سيتي ببعثة أحمد فخري في دهشور, ومثلما فعلت مع بعثة سليم حسن فعلت مع فخري فأفادت وإستفادت بشكل مبهر, وفي تلك الفترة كان لأم سيتي إتجاها بحثياً جديداً فانمدجت في المجتمع المصري وبدأت تشارك في الإحتفالات المسيحية واليهودية والإسلامية وتحضر المناسبات والأعياد ومن ثم تدون ملاحظاتها عن الموروثات المصرية القديمة التي لا تزال متواجدة في المجتمع المصري, كانت تري ان المصريون لم يتغيروا كثيراً رغم مرور آلاف السنين ولا زالت لهم عادات أجدادهم القدماء.
وفي تلك الفترة قامت ثورة 1952 وكما أيدت إستقلال مصر بقلمها في بريطانيا, قامت بتأييد الثورة المصرية بل أنها كانت عضوة في الحزب الإشتراكي, وكانت لحظة تحول مصر إلى جمهورية نصر شخصي وإحتفال شاركت فيه أم سيتي كواحدة من المصريين.
ومع تسارع الأحداث كانت ام سيتي علي موعد مع نهاية رحلتها مع أحمد فخري وبداية رحلة عودتها إلى وطنها الأم .. أبيدوس

العودة إلى أبيدوس

أما عن “رمسيس الثانى” فقد وجد معبد إبيه فى أبيدوس لم يكتمل
والمعبد حالته لا تسر , فقام بإصدار الأوامر ليجعل إكمال معبد إبيه  اولوية قصوى , وسجل نصوصا على الجدران تعد أبيه بإستكمال الإنشاءات, كما لو كان هو حياً على العرش.
لقد كان شخصا لطيفا جدا وإبنا بار بإبيه.
” أم سيتى متحدثة عن رمسيس الثاني “
مع إنتهاء أعمال بعثة أحمد فخري تم العرض علي أم سيتي أن تبقي وتعمل في التوثيق الأثري بالقاهرة, ولكنها كانت قد إتخذت قراراها, ستذهب إلى وطنها, ستعود إلى ابيدوس حتي لو تطلب الأمر أن تبدأ من الصفر.
وبالفعل تصل أم سيتي إلى ابيدوس, ذلك المجتمع الريفي البسيط وقتها, كان حضور ام سيتي في ذلك المكان والزمان تحديداً بدا وكأنه خارج إطار الخيال, فهي شقراء أجنبية جاءت لتبقي مما أثار حفيظة نساء القرية وقتها فاتخذن منها موقفاً, ولكن أم سيتي لم تيأس وكالعادة إستطاعت أن تنال ثقة وإعجاب الكثيرين فعطفوا عليها وتقبلوها بينهم, فشيدت لنفسها بيتاً بسيطاً من الطوب اللبن لتحيا بينهم, ومع بدأ أن سيتي في سرد قصتها وترديدها بين زوار أبيدوس أصبحت أم سيتي أشبه بأسطورة حية في ذلك المكان.
أما عن معبد أبيدوس فبدأت أم سيتي  تضع نظامها الخاص لذلك المكان, فكانت كل صباح تذهب لمبني الأوزيريون للتطهر في مياهه المقدسة والتي كانت شديدة النقاء والصفاء وقتها, ومن ثم تتلو التراتيل وتؤدي الصلوات المصرية القديمة وتذهب لتقديم القرابين لاوزير سيد معبد أبيدوس.
تقمصت أم سيتي الروح المصرية القديمة تماماص وعاشت مثلهم, بل أنها كان لها إثنان من الحيوانات الأليفة, قطة وثعبان كوبرا وبمرور الوقت تزايد عدد القطط لديها, وكام فعل المصريون القدماء طلبت أن تدفن معها حيواناتها الأليفة مع وفاتها.
أم سيتي في أواخر ايامها
أم سيتي في أواخر ايامها
وهناك في العرابة المدفونة أعادت ام سيتي إحياء قصة بنت رشيت وآمنت أنها تناسخ لتلك الروح المصرية القديمة التي عاشت في الماضي علي الرغم من انه لا توجد مصادر تاريخية تذكر تلك الواقعة.
وعلي الرغم من ذلك فكما أسهمت في الجيزو ودهشور, قامت أم سيتي بعمل مذهل في ابيدوس, فهي من الآثاريين المبكرين الذين ذكروا ان المعابد المصرية كان لها حدائق موفرة مثمرة وقامت بتحديد مكان حديقة معبد أبيدوس وبدقة, كما انها تسلمت أكثر من ألفي كسرة هي عبارة عن نقوش وجاريات المعبد لتقوم بتوثيقها وترجمتها وإعادة رسمها للشروع في ترميم المعبد, وقد قامت بمهمتها على أكمل وجه.
وبمرور الوقت أصبح معبد أبيدوس هو مملكة ام سيتي, فقامت بوضع قواعد لزيارته – ليست رسمية- ولكن يعلمها جميع زوار المكان, فكانت تمنع دخوله بالأحذية وتطالب بالصمت بداخله باعتباره مكاناً مقدساً.
بعد تقاعدها الرسمى ظلت هيئة الأثار فى الإستعانة بها من حين لأخر و كان مسموح لها بالعمل فى إرشاد السائحين بالمعبد و كانت ايضا تقوم بصنع بعض المنسوجات وبيعها للسائحين الذين ذاع صيتها بينهم و اعتادوا على حمل الكثير من الهدايا لها.
غنوا حداد فأوزير قد مات , إرثوا وإبكوا الرأس التى سقطت
ترك الضياء العالم , والعالم أصبح رماديا
والسماء المرصعة بالنجوم قد أصبحت شبكة من الأكاذيب المظلمة
غنوا حداد فأوزير قد مات
دموعكم , نجومكم , نيرانكم وانهاركم قد أهدرت
إنتحبوا يا أبناء النيل فسيدكم قد مات
نص مصرى قديم للحداد على أوزير

إتحدت مع جلالته

في العرابة قامت أم سيتي بثقل خبراتها في الآثار وكذلك التعامل مع المصريين المعاصرين ونشرت اعمالها ما بين الأعوام 1969-1975 لتأصل الموروثات المصرية القديمة التي لا تزال موجودة في المجتمع المصري من عادات الدفن والطعام والشراب وحتي بعض التطيرات والطقوس الدينية.

كذلك ذاع صيت أم سيتي في العرابة باعتبارها لها قدرات شفائية حيث أنهم اعتقدوا انها تستطيع مداواة المرضي باستخدام وصفات مصرية قديمة كما كان يفعل كهنة المعبد في العصور القديمة.

وذات صباح وبينما هي ذاهبة لتأدية طقوسها اليومية تقع أم سيتي في حفرة لم تراها بين جنبات المعبد, وبقيت هناك يومان يبحث عنها الأهالي بلا جدوى, وذات صباح وبينما خفير يبحث عن عمامته التي أطارتها الرياح فإذا به يجدها بداخل الحفرة بجوار أم سيتي فاقدة الوعي, والتي خرجت من الحفرة وتماثلت للشفاء ولكناه ستعيش تستند علي عكازات طبية للبقية الباقية من حياتها.

كتبت أم سيتي لاحقاً تقول أنها حين سقطت اتاها رؤية من مصر القديمة حددت من خلالها موقع مقبرة نفرتيتي وأنها مجاورة لمقبرة توت عنخ ىمون بوادي الملوك وهو الإعتقاد الذي لا يزال يتمسك به عالم الآثار نيكولاس ريفز حتي يومنا هذا علي الرغم من عدم وجود اى دليل عليه.

مع تزايد شهرة ام سيتي أصبحت هي المزار الرئيسي في ابيدوس واصبحت شهرتها مقاربة لشهرة المعبد, أتاها الزوار من جميع انحاء العالم ليسمعوا قصتها ويزورا المعبد, إلا أن الشهرة كان لها جانب آخر فام سيتي أرادت أن تحكي قصتها ليعرف بها العالم فوقعت فرسية لعقود مجحفة لنشر وتسويق قصتها وأصبحت وكانها سلعة يتم تسويقها بين الناس, وعلي الرغم من شهرتها وزوارها واعمالها فإن أم سيتي لم تكن تكترث للمال على الإطلاق وتتركه لمن حولها وتكتفي بعيش تلك الحياة البسيطة في وطنها.

شاهد قبر أم سيتي
شاهد قبر أم سيتي
مع بلوغ أم سيتي عامها السابع والسبعون تم إصدار فيلم وثقائقي كامل عنها وعن أبيدوس, تلاه فيلم آخر تزامن مع إحتفال أم سيتي بعيد ميلادها وبعد ثلاثة أيام من إنتهاء التصوير ترحل أم سيتي عن عالمنا لتدفن دفنة متواضعة لها شاهد كتب عليه “إتحدت مع جلالته”, في إشارة إلى ذهابها لحبها القديم “سيتي الأول”, دفنت أم سيتي في وطنها أبيدوس بجوار المعبد الذي لطالما حلمت به.

خاتمة

تعتبر قصة ام سيتي واحدة من أغرب القصص التي إرتبطت بمصر في التاريخ, لربما يظنها القاريء مهووسة او مجنونة كما ظن بها الكثيرون في حياتها إلا أن علماء الآثار لم ينكروا أنها كانت ذات علم ومنهم “سليم حسن”, “احمد فخري”, وصفها “جون ويلسون” بانها اثرية مسئولة, ومعه هرمان يونكر, جون آلان, كنت وييكس, كتشن وغيرهم الكثيرون.
آمنت أم سيتي بتناسخ روحها وتعامل معها الكثيرون بانها مجنونة إلا ان من تركته من علوم وملاحظات ينفي جنونها, تبدو قصتها أغرب وأبعد من ذلك بكثير وعلي الرغم من ذلك فإن قصتها مع سيتي الأول لا يوجد عليها دليل واحد حتي الآن ولا حتي بعض رؤاها التي زعمت فيها العثور علي بعض الأشياء.
اقترب منها بعد أن ذاع صيتها معظم علماء المصريات البارزين فى ذلك الوقت و أجمع الكل على صدق معظم أوصافها عن المعبد , ويُرجِع إليها عالم المصريات الكبير الدكتور زاهى حواس الفضل فى تمكنه من الإنجليزية عندما كان مفتشا شابا للأثار ومرافقا لبعثة بنسلفانيا حيث فتحت له مكتبتها العامرة بالكتب .
سواء صدقت قصتها أم لا .. فإن “أم سيتى” تستحق -وبلا شك- أن تكون واحدة من بنات النيل اللائى كرسن حياتهن لخدمة مصر وتاريخها وتركت بصمة لن تنسى إلى أبد الآبدين,وليظل انتماؤها لمصر هو درسا فى الوطنية العابرة للأزمان والأماكن.
أم سيتي 1904- 1981
أم سيتي 1904- 1981
“كل عام فى العيد الكبير , وكذلك فى عيد ميلاد “أوزير” كنت آتى هنا ومعى قرابين, نبيذ, خبز وبخور, أحب القدوم هنا .. هذا هو المكان الذى أشعر أنه وطنى”
( أم سيتى) فى آخر لقاء تلفزيونى قبل وفاتها بثلاثة أيام ..