قصة أيزيس وأوزوريس كانت واحدة من أشهر القصص الدينية في مصر القديمة والتي لطالما تردد صداها في مصر القديمة سواء في الفكر الديني والمعتقد الشعبي وحتي طقوس الحياة اليومية في تعاملات المصري القديم, فما هي تلك القصة وكيف وصلت إلينا؟

نظرية الخلق في مدينة عين شمس

طبقاً لنظرية الخلق في مدينة عين شمس فإن الإله أتوم-رع هو الذي بدأ الخلق بعدما كان الكون مجرد فوضي وظلام تتخلله المياه الأزلية “نن” (نون), ومن ثم بدأ فعل الخلق فأوجد نفسه بنفسه ومن ثم خلق زوجان من الآلهة وهم شو وتفنوت والأول هو الهواء والثانية هي الرطوبة (الندي) ومن ثم تزاوجا لينجبا الأرض (جب) والسماء (نوت) واللذان كانا توامان ملتصقان فإنفصلا, ( إنفصال السماء عن الأرض) وبدورهم أنجب “جب” و”نوت” أربعة من الإخوة وهم:أوزير, آست, سوتخ, نبت حت والذين نعرفهم بالترتيب: إوزوريس, إيزيس, ست, نفتيس, ليتكون عندنا في النهاية مجمع من تسعة آلهة ولذلك سميت تلك النظرية بنظرية تاسوع عين شمس, وعرفهم المصري القديم بالتاسوع الإلهي.

تاسوع عين شمس
تاسوع عين شمس

وقد كان الإله “جب” (الأرض) هو أول حكام الأرض في المعتقد المصري القديم طبقاً لنظرية الخلق في مدينة عين شمس, وورث منه العرش إبنه الأكبر أوزير الذي كان متزوجاً من أخته إيزيس, بينما أخوه ست تزوج من أختهم الأخري نفتيس, وقد قام “جب” بتوريث العرش لأوزير لانه كان إبنه الأكبر, وقد تسبب ذلك في غضب أخاه ست” الذي رأي أن العرش من حقه ه.

قد حكم أوزير الأرض لبرهة من الزمن حتي قرر ست أن يطالب بما يراه حقاً له, لتبدأ فصول القصة الملحمية التي سكنت وجدان المريون القدماء لآلاف السنين.

أوزير (أوزوريس)

كان أوزير واحداً من أهم الآلهة المصرية إن لم يكن أهمهم علي الإطلاق علي المستوي الشعبي, وكما ذكرنا فهو إبن “جب” “ونون” الأرض والسماء, في البداية كان أوزير إلها للخصب والنماء ومع تطور أحداث قصة إيزيس وأوزوريس أصبح هو قاضي الموتي وإله وحاكم العالم السفلي فأمامه يحاكم المتوفي لنيل الخلود.

محاكمة المتوفي أمام أوزير
محاكمة المتوفي أمام أوزير

وقد كان زواج أوزوريس من إيزيس سبباً للعائلات الملكية المصرية لزواج الإخوة بدون تحريم, بل أنهم راوا خروج مولود من الملك والملكة (مثل إيزيس وأوزوريس) تمثيلاً للعدالة ونموذجا لنجاح مثل هذه الزيجة, وعلي أية حال فما نعلمه أن تلك الممارسة إقتصرت علي القصر الملكي ولم يعرفه أو يمارسه عامة الشعب, علي أن هناك جانب آخر عكسته قصة إيزيس وأوزوريس في الوجدان الجمعي المصري وهو مخاطبة الزوجة لزوجها بأخي, ومخاطبته لها بأختي, وعلي أية حال فإن هذا النوع من الزواج لم يكن مقتصراً علي حضارة مصر القديمة فحسب وإنما عرفته الحضارات القديمة الأخري وكان لها مبرراتها منظورها بدورها.

جسد المصريون الإله أوزير في هيئة مومياء ملفوفة بلفائف الكتان ويداه ممسكتان بصولجان يدعي “حقا”, ومذبة تدعي “نخخ”, وكان الصولجان عبارة عن عصا ملكية تنتهي بشكل خطاف, والمذبة عبارة عن عصا تنتهي بشرائط من القماش.

إوزير بتاج الآتف المقرن
إوزير بتاج الآتف المقرن

وقد كان الإله أوزير يرتدي تاجاً يدعي تاج “آتف” في معظم المناظر وهو تاج أبيض مزين بريشتين من الجانبين, وفي مناظر أخري ظهر مرتدياً قرني كبش, وقد كانت بشرته تصور بالأخضر وأحيانا الأبيض أو الأسود وكان التنوع اللوني له أغراض عقائدية حسب المنظر والرسالة المراد إيصالها مثل إعادة البعث, وهو ما كرره المصري القديم في تناوله للفن الذي كان له غرض ديني ومعان خفية.

ومن الملفت للنظر أن في قصة آست وأوزير أن أوزير لم يتم قتله وتم بعثه بعد ذلك, كما أن الفلسفة النهائية لقصة أوزير هي الجمع بين السيطرة علي الخصب والنماء وكذلك العالم السفلي, وفي فلسفة الموت المصرية القديمة كان كل متوفي هو أوزير, والملك المتوفي هو أوزير أيضاً بل أن المتوفي في مصر القديمة كان يشار له الأوزير فلان, وبالنسبة للملوك فكان كل ملك حالس علي عرش مصر هو حورس إبن أوزير إلي أن يتوفي فيصبح أوزير بدوره.

 

كيف وصلت إلنا قصة إيزيس وأوزوريس

في العصور المصرية القديمة كانت هناك إشارات نصية علي أوراق البردي وكذلك النقوش تشير لأحداث من القصة إستطعنا تجميع منها فصولها ومن الملحوظ هو تطور القصة بتطور العقيدة المصرية القديمة ونصوصها بل أن هناك تغيرات في بعض أحداثها, إلا أنه في عام 100م قام المؤرخ اليوناني “بلوتارخ” بتدوينها كاملة طبقاً لرؤيته ولكنه علي أية حال قام بتدوينها كاملة.

بلوتارخ
بلوتارخ

وقد كان سبب التدوين هو أن الإغريق والرومان يدونون القصص المصرية القديمة وكذلك حضارات الشرق الأدني القديم, وفي السطور القادمة سنحاول تتبع فصول تلك الملحمة إستنادا علي الخطوط العريضة التي دونها بلوتارخ مع إضافةما نعلمه من المصادر المصرية القديمة بما أستطيع.

صراع في وادي النيل

طبقاً للأسطورة فقد عاشت مصر عصراً ذهبياً في معية الإله رع حينما حكم أرضها الإله الطيب أوزير وبجواره أخته آست كملكة علي مصر, وكان أوزير ملكاً محبوباً محسناً عطوفاً علم المصريون زراعة المحاصيل عند الفيضان, علمهم القوانين والعبادات.

أوزير, السلام عليك إن الثناء يغدق عليك بسبب أفعالك الخيرة

من نص صلوات قديمة لأوزير

وقد إختار أوزير الخروج في رحلة طويلة لمساعدة سكان الأراضي الأخري علي التحضر وتنظيم الأمور, وفي غيابه حكمت زوجته آست بدلاً منه, وفي هذه الأثناء كان هناك تخوفاً من أخيهم الإله ست لمكره وإحساس آست بانه يضمر الشر والغيرة والحقد ويطمح في العرش, وحقيقة الأمر أن ست كان بالفعل يخطط للإستيلاء علي العرش بعد الإطاحة بأوزير وكان ينتظر فرصة لتنفيذ مخططه.

وبالفعل يعود أوزير من رحلته وفي نفس الوقت  تخرج آست لرحلة قصيرة, وهنا يدعوه أوزير لحضور وليمة فخمة في القصر, وفي الحفل تجل ست بين الضيوف متظاهراً بالود السعادة وظل يتفاحر بصندوق (علي شكل تابوت) صنع له وكان مزيناً باجمل الزينة ومصنوع من اجود الخامات, ومن ثم أمر ست بجلب التابوت للحفل وما أن وصل التابوت ورآه المدعون بما فيهم أوزير نفسه إنبهروا بجمال التابوت وصنعته الفاخرة, وهنا ألقي ست بمفاجأته التي ستغير كل شيء.

 

هدية قاتلة

بعدما إنبهر الحضارون بالتابوت قدم ست عرضه – أو نصب فخه كما سيتضح لاحقاً- هذا التابوت سيكون هدية لمن يتفق حجم التابوت مع جسمه ( كان التابوت بمثابة هدية عظيمة طبقاً للمعتقد المصري القديم الساعي للخلود), ولذلك إستلقي كل المدعوون تقريباً في التابوت طمعاً في الحصول عليه ولكنه لم يناسب أحداً منهم, وأخيراً يدخل أوزير – الذي لم يكن يدري بالمكيدة- للتابوت والذي صمم خصيصاً له  ليتطابق مع جسده تماماً.

أـوزير: أنظر, ست, كم أنا متاسب لهذا التابوت, أظن أنك لما أعلنت تحديك لم تتوقع أنه سكون من نصيبي.

ست: علي العكس, التابوت لك الآن أخي, وإلى الأبد.

وفجأة يدفع “ست” غطاء التابوت لينغلق علي أخيه, وبينمايحجب خدمه واتباعه المدعوون يصب ست الرصاص السائل علي التابوت ليحكم إغلاقه, ثم تم حمل التابوت وإلقاؤه بنهر النيل.

الإله ست
الإله ست

أخيراً يري ست أنه سيحصل علي ماهو من حقه, فهو كان يري أن العرش من حقه من البداية, وبالفعل بعد تخلصه من أخيه يعلن ست نفسه الملك الجديد علي مصر.

ملحمة إيزيس

عادت آست وعلمت بالمأساة التي وقعت بزوجها وبمصر التي أصبحت تحت حكم ست الشرير, فبدأت الحداد فقصت شعرها ولبست الأسود ورثت زوجها, علمت آست أن علي عاتقها حمل كبير فزوجها توفي وفقد جسده, وأخهما الشرير إغتصب العرش أخذ ماليس من حقه.

إيزيس وأوزير وإبنهما حورس
إيزيس وأوزير وإبنهما حورس

بدأت آست في رحلة البحث عن الجثمان لتقيم له جنازة تليق به وذلك لأن روحه لن ترتاح إلا بإقامة شعائر جنائزية ليحيا في العالم الآخر, إرتحلت آست للبحث عن زوجها المغدور في كل شبر من الوادي وخاصة المنطقة التي ألقي فيها المتآمرون التابوت, وبعدما يأست من البحث إقتنعت من إندفاعه إلى مياه البحر ( المتوسط, وكان يسميه المصريون القدماء الأخضر العظيم “واج-ور” والذي ربط مصر مع ساحل الشام خاصة مع منطقة “كبن” التي تعرف بإسم جبيل أو ببلوس الشهيرة في لبنان).

قامت آست بحساب تيارات أمواج الأخضر العظيم وعرفت أنه سار نحو الشمال, فغادرت مصر ورائه علي عربة تجرها الخيول باحثة عن تابوت عائم تسأل كل من مرت بهم لإن كانوا راوه

وفي نهاية الأمر علمت آست أن هناك تابوتاً قد ظهر في ببلوس وإستقر أسفل شجرة صغيرة, ومع القدرات الإلهية الإخصابية لأوزير نمت الشجرة لحجم عائل في ليلة واحدة وإحتوت التابوت بداخل جذعها الهائل, ولما سمع ملك “ببلوس” بما حدث أمر بقطع الشجرة ليستخدم أخشابها غير عالم بما يوجد بجذعها.

عندما وصلت آست إلي المدينة سمعت ما يردده ناسها عن المعجزة التي حدثت وعلمت أن الملك قد أخذ الشجرة ليستخدمها كعامود في قصره, وهنا تنكرت في شكل خياطة وقامت بدخول القصر.

وبداخل القصر إستطاعت كسب ثقة ساكنيه والملك والملكة في فترة قصيرة اللذان إإتمناها علي رعاية طفلهما, وبينما الجميع نيام في كل ليلة كان آست تذهب إلى العامود الذي يرقد بداخله جثمان زوجها لتبكي في صمت.

إلا أنها لم تحتمل ذلك الوضع لفترة طويلة فكشفت عن حقيقتها للملك وزوجته واللذان ما أن علما طبيعتها المقدسة وحقيقة وجود جثمان أوزير بداخل ذلك العامود أمر الملك فوراً بشق الجذع ليجدوا بداخله التابوت والجثمان سليماً, وقام الملك وزوجته بإرجاع التابوت لآست وتم حمله في العربة الملكية عائداً إلى مصر, وهناك في ببلوس حافظوا علي ما تبقي من ذلك العامود الذي أصبح مقدساً في ببلوس لقرون طويلة.

تعال نحو بيتك . تعال الى بيتك, أنت يا من لا اعداء له
أيها الشاب الجميل الطلعة , تعال الى بيتك لكى ترانى
فأنا اختك التى تحبها , لا تفترق عنى ابدا
ايها الشاب بهى الطلعة , تعال الى بيتك
انا لا أراك – ومع ذلك – قلبى يتمزق للقياك
وعيونى تبحث عنك, ما أروع ان أتأملك
تعال الى حبيبتك التى تحبك ايها الكيان الجميل (ون نفر)
تعال الى جانبك أختك, تعال الى جانب زوجتك
أنت يا من توقف قلبه عن الخفقان
تعال الى ربة بيتك, أنا أختك وامنا واحدة
لا تبتعد عنى, الالهة والبشر يلتفون حولك
وكلهم يبكونك مثلى , والدمع الساخن ينهمر من عينى
انى اناديك, ويرج صراخى اجواء السماء
ولكنك لا تسمع صوتى, إنى اختك التى احببتها فوق الارض
فأنت لم تحب امرأة سواى, أى اخى .. أى اخى ..
(بردية برلين – رقم 3008) من رثاء آست لزوجها أوزير

ومع نهاية تلك الرحلة الطويلة بدأت آست تفكر ماذا ستفعل في الفصل القادم وكيف ستستعيد حق زوجها المغدور وتتغلب علي أخاهما الشرير لتعيد الحق لأصحابه, ترى ماذا تفعل؟

هذا ما سنتناوله في مقال قادم.