في مارس من العام 1940 يتوجه الملك فاروق بصحبة عالم الآثار الفرنسي “بيير مونتيت” لمعاينة كشف أثرى مذهل يضاهى كشف مقبرة الملك توت عنخ آمون والذى حدث قبل عشرون عاماً وقتها، الأنظار كلها تتوجه نحو تلك البدة الصغيرة المسماة تانيس بمحافظة الشرقية حيث تم الكشف لأول مرة عن مقبرة ملكية كاملة سيلتصق بصاحبها لقب الملك الفضي إلى الأبد.
تانيس أرض الأسرار
تتمتع محافظة الشرقية بتاريخ مصري قديم غاية في العراقة فهي المحافظة التي كانت مسقط رأس أسرة الملك العظيم رمسيس الثانى، وكذلك فهي أحد أهم مراكز عبادة الإلهة باستت القطة والتي لا يزال صدى اسمها متواجد حتى يومنا هذا متمثلا في مدينة تل بسطة.
أما أهم مناطقها على الإطلاق فى العصور المصرية القديمة فهي عاصمة رمسيس الثانى “بر رعمسو” والتي تقع أطلالها حالياً بقرية قنتير، التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية بمصر، ومن هنا بدأت قصة ذلك الكشف المذهل.
بعد وفاة رمسيس الثانى ظل ملوك مصر يحكمون من الشمال حتى كانت نهاية الأسرة العشرين (أسرة الرعامسة) والتي شهدت عمليات سرقة موسعة لمقابر الملوك في وادى الملوك خاصة في عصر الملك رمسيس التاسع، وحتى نهايتها مع آخر أيام حكم الملك رمسيس الحادي عشر.
النجم الذى أشرق في طيبة
بنهاية حكم الرعامسة دخلت مصر نفقاً من الإضطرابات كان أهمه هو تتويج الكاهن الأكبر لآمون بصلاحيات واسعة في طيبة، ونفس الحال لكاهن آخر في الشمال.
وتبدأ قصتنا مع تولى الملك “با سبا خع إن نيوت” ( الاسم معناه النجم الذى أشرق في المدينة، والمدينة هنا تشير إلى طيبة) والمعروف باسم بسوسنس الأول عرش مصر بسلطات واسعة في الشمال مع نفوذ الكاهن الأكبر للإله آمون في الجنوب لا يزال بصلاحيات واسعة، وإن كان عصر بسوسنس تمتع بازدهار نسبى قرابة 46 عاماً جلس فيها على عرش البلاد.
كان من أهم أعمال تلك الفترة كما هو واضح نقل الآثار من عاصمة رمسيس الثانى إلى مركز القوى الجديد في تانيس بنفس المحافظة، وهو ما عمل بسوسنس وغيره على إتمامه بشكل منظم.
فكثير من الآثار بتانيس يعود لعصر رمسيس الثانى وهو ما أوقع علماء الآثار في حيرة شديدة من الخلط بين الموقعين قبل اكتشاف أنهما موقعان مختلفان تماماً.
في تانيس كان يقع معبداً كبيراً يضاهى معابد طيبة ومكرس للإله “آمون” وزوجته “موت” وابنهما “خونسو” أعضاء الثالوث الطيبي الإمبراطوري وقد عمل بسوسنس على إتمام بناء المعبد الكبير بتانيس.
بيير مونتييه عالم الآثار الفرنسي
عالم الآثار الفرنسى “بيير مونتييه” الذى درس الآثار في “ليون” على يد عالم آثار متمرس وهو “فيكتور لورييت” وقد بدأ حياته المهنية بأعمال مهمة على رأسها حفائره في مدينة “ببلوس” فى لبنان، ومن ثم انتقل إلى مصر وبدأ عمله فى تانيس مع حلول العام 1929.
في تانيس كان مونتيت يحلم بالعثور على المدينة التوراتية المفقودة التي تم استعباد اليهود بها في مصر استنادا على التوراة، وهو الحلم الذى يراود علماء الآثار حتى يومنا هذا مع فشل كل المساعي في إيجاد دليل مادي واحد يحدد زمن وقوع القصة حتى الآن.
على أية حال هذا ما كان يظنه مونتييه مع بدأ حفائره في تانيس حيث انه عثر على العديد من المقتنيات التي تخص رمسيس الثانى والذى لطالما تم اتهامه بانه الملك الذى خرج اليهود في عصره من مصر.
ظن مونتييه انه عثر على المدينة المفقودة “رمسيس” كما أطلقت عليها التوراة، وعلى الرغم من خطأ هذا الزعم إلا أنه كان على موعد مع مفاجأة مذهلة ساقتها الأقدار إليه.
كنوز تانيس
مع حلول عام 1939 نجح عالم الآثار الفرنسي بيير مونتيه في العثور على الجبانة (مجموعة مقابر) الملكية لملوك الأسرتين 21 و 22 ، كان كشف مونتيه غاية في الإبهار لأنه عثر على مجموعة مقابر دفعة واحدة كان بعضها منهوباً، وكانت المقابر كالتالي:
- الملك بسوسنس الأول – الأسرة 21 – مقبرة كاملة
- الملك أمون إم إبت – الأسرة 21 – مقبرة كاملة
- الملك ششنق الثانى – الأسرة 22 – مقبرة كاملة
- الملك تكلوت الاول – الأسرة 22 – مقبرة منهوبة
- الملك وسر قن الثانى – الأسرة 22 – مقبرة منهوبة
- الأمير حور نخت إبن الملك وسر قن الثانى – الأسرة 22 – مقبرة منهوبة
- الجنرال “ون جباو نب جد” – قائد جيوش الملك بسوسنس الأول – مقبرة كاملة.
- ليكون المجموع خمس مقابر ملكية ثلاث منها سليمة، واثنتان منهوبتان، مقبرة منهوبة لأمير ومقبرة كاملة لقائد الجيش.
على الرغم من عظمة هذا الكشف إلا أن القدر لم يكن مبتسماً طوال الوقت لمونتيه حيث أن سنة الكشف تزامنت مع بداية الحرب العالمية الثانية، والتي ملئت أخبارها البلاد وشغلت العباد فذهب كشف مونتيه في طي النسيان ولم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت به مقبرة الملك توت عنخ آمون.
الملك الفضي في متحف القاهرة
لم يكن حظ مونتيه سيئا على طوال الخط فقد حظى بزيارة من فاروق ملك مصر وقتها الذى زار تانيس ليلقي نظرة على كشف مونتيه.
أما الجانب المصري فكان الحظ يحالفه بشكل كامل حيث ذهبت جميع كنوز تانيس إلى المتحف المصري بالتحرير في قاعة حملت اسم: قاعة كنوز تانيس لا تزال موجودة حتى الآن تعرض تلك الكنوز الفريدة للزوار.
مقبرة بسوسنس الأول الملك الفضي
أما عن ظروف الكشف نفسها فقد كانت مقبرة بسوسنس الأول هي الأهم وقد حظة بلقب الملك الفضي بسبب توابيته المصنوعة من الفض الخالصة، والتي كانت قيمتها تفوق الذهب في ذلك الزمن.
دفن الملك بسوسنس الأول في تابوت حجري من منتجات الأسرة التاسعة عشر وعلى ما يبدو تم إعادة استخدامه لاحقاً، حمل ذلك التابوت خرطوش الملك “مرنبتاح” ابن “رمسيس الثانى”.
أما بداخل التابوت الحجري فكان تابوتان من الفضة الخالصة واحد منهما على شكل آدمي يحمل ملامح الملك أما الثانى فكان يحمل رأس الإله حورس الصقر وهذه دلالة دينية واضحة في إشارة إلى أن الملك هو تجسيد الإله حورس على الأرض، وبالداخل كانت مومياء الملك ترقد وعلى وجهه قناع من الذهب الخالص.
لهذا الكشف ظروف خاصة حيث أنه أول كشف كبير بالدلتا ونظراً لطبيعة أرض الدلتا الرطبة فقد بليت واندثرت جميع المقتنيات الخشبية والمقتنيات المصنوعة من مواد لا تقاوم الرطوبة والمياه.
بل إن مومياء الملك هي الأخرى تدمرت تماما ولم يتبق منها سوى رفات آدمية بضع من عظام متفرقة، تم حفظ العظام بكلية طب القصر العيني ولا زالت موجودة هناك حتى الآن.
انعكست نفس الظروف على بقية مقتنيات الجبانة الملكية بأكملها فكانت المقتنيات الصلبة هي ما تبقى منها كلها فالأقنعة الذهبية والمذهبة لا تزال كما هي ومعروضة بالمتحف بجوار بقية المقتنيات.
الملك الفضي يعود للحياة
في عام 2010 قامت شبكة PBs في الموسم العاشر الحلقة الثالثة من برنامجها “أسرار الموتى” بإصدار حلقة تناولت كشف مقابر تانيس وقصة الملك بسوسنس الأول وكانت الحلقة بعنوان ” الفرعون الفضي” وشارك في العمل لفيف من علماء المصريات ومعهم الدكتور فوزى جاب الله، رئيس قسم التشريح بطب القصر العيني.
من أبرز ما قام به صانعوا ذلك الوثائقي هو معرفة الحالة الصحية للملك قبيل وفاته وقد كشف د.جاب الله بالكشف عن ان الملك قد اقترب من الثمانين من عمره وقت وفاته.
وكعادة المصريين ذلك الزمن في تلك السن المتأخرة كانت حالة أسنانه سيئة للغاية وفكه ملئ بالخراريج كما كان يعانى من التهاب المفاصل وصعوبات صحية جعلته قعيداً أو جعلت حركته صعبه في أفضل الظروف في آخر أيام حياته.
وبالإضافة إلى ذلك كان أفضل ما تم طرحه في ذلك الوثائقي هو إعادة تخيل ملامح الملك “بسوسنس الأول” إستناداً على رفاته، وقد أشرف على تلك العملية “ميليسا درينج” المتخصصة في إعادة تشكيل الملامح وقد عملت مع المباحث الفيدرالية الأمريكية إف بي آي FBI في عمليات مشابهة سابقاً.
نتج عن هذا التخيل صورة لا بأس بها للملك قامت برسمها “درينج” لتنهى آخر فصول ذلك الكشف الهام الذى أخفته الحرب العالمية الثانية عن الجمهور وفازت متاحف مصر به فى النهاية.