ســأقاتل الهكســوس حتــى يقســم كـــل مصــري باســمي ، إننــي أريـــد أن
يتحدث كل منهم عني قائلاً: “ها هو كامس محرر مصر .”

كانت هذه هي المقولة الأشهر للملك “كامس” إبن ملك مصر البطل “سقنن رع” مشعل شرارة حروب تحرير مصر من الهكسوس , فطوال تاريخها لا يعرف أبناء مصر المستحيل ويظهر معدنهم وقت الأزمات, فمصر من جنبت العالم ويلات غزوات شعوب البحر قديماً وتوالت الإنتصارات حديثاً لتدرأ مصر عن العالم إخطاراً مشابهة كالمغول.

وطوال التاريخ سطر العديد من مقاتلي مصر الجسورين وبناتها الشجعان أسمائهم بأحرف من نور وعلي رأسهم العائلة الطيبية الشجاعة وعميدها “سقنن رع” ومن بعده أبنائه “كامس” و”أحمس” وخلفهم زوجته “إيعح حتب” وإبنتها أحمس نفرتاري”.

في هذا المقال نتناول سطور من نور في تاريخ جيش مصر وذهبها المنثور.

البداية

مع إستقرار الإنسان المصري في وادي النيل وبداية تكوني مجتمعات وتجمعات سكنية يجمعها المصالح المشتركة والحاجة إلى الإستقرار نشأت أيضاً فكرة الصراعات وفرض النفوذ, وقد إنتهي ذلك سريعاً مع تأسيس الأشرة الأولي المصرية علي يد الملك “نعرمر/مينا” موحد القطرين حوالي 3100/3200 ق.م.

الملك نارمر موحد القطرين
الملك نارمر موحد القطرين

ومع تأسيس نعرمر للعاصمة منف وبداية إستقرار الحكومة المركزية حتي بدأت بعض القلاقل تهدد الحدود المرسمومة لتلك الدولة الفتية, ظهرت الأخطار علي الحدود الشمالية الشرقية وكذلك الجنوبية والغربية مما جعل الحاجة تقتضي بإقامة حصون وحاميات لتأمين تلك المناطق الحدودية ودرأ الأخطار عنها.

نشاة الجيش المصري

منذ العصور المبكرة لم تعرف مصر الجيوش النظامية بشكلها المعروف, وعلي الرغم من ذلك فقد ظهر لقب “قائد القوات” أو “قائد الجيش” في تلك الفترة إلا أن دوره قد إقتصر علي تأمين الحدود وإخماد أي بوادر خطر يهددها, وفي أوقات السلم كانت تلك الفرق تتحول إلى الأعمال المدنية مثل أعمال بعثات المناجم والمحاجر وكذلك البعثات التجارية وهو ما يعرج بنا إلى نقطة هام وهي أن المصري القديم كان يجنح للسلم في معظم الأوقات ولا يعتدي علي غيره وإنما يهب وينتفض فقط للحفاظ علي مقدراته وتأمين حدوده

حـارب جلالتـه سـكان الرمـال الآسـيويين، وقـد حشـد جيشـاً مؤلفـاً مـن عشـرات
الآلاف من الجند من الوجهين القبلي والبحري، وقد عينني جلالته قائـداً لهـذا
الجيش، وكان يعمل تحت إمرتي

لم يتشاجر أحد منهم مع غيره، ولم ينهب أحد خبزاً من أية
مدينة، ولم يستول أحد على عنزة واحدة” .

القائد المصري “وني”

ظل نظام الحاميات والفرق مستمراً طوال الدولة القديمة حتي بدأت بوادر ظهور جيش نظامي في عصر الأسرة الخامسة وتطور الأمر إلى شكل واضح في الأسرة السادسة, ولعل أشهر النصوص والأحداث المؤرخة لتلك الفترة هي نصوص القائد المصري “وني”, وهو واحد من أقدم قادة الجيش المصري المسجلين في التاريخ وقد خدم في عصر الملك “ببي الأول” وكان علي رأس الجيش المصري والذي تكون وقتها من عدة فرق قام الملك “ببي الأول” بوضع “وني” علي رأسها ليقود حملة تأديبية لبدو الرمال علي حدود مصر الشمالية الشرقية, وأشار وني إلى أنه جمع الجيوش من عشرات الآلاف من المجندين من الصعيد كله بداية من أسوان وجتي أطفيح.

الملك ببي الأول
الملك ببي الأول

وقد تكللت حملة “وني” بالنصر الساحق وقد قام بتسجيل أنشود نصر ذلك الجيش في سيرته الذاتية المدونة علي جدران مقبرته الموجودة بأبيدوس, محافظة سوهاج, وعلي الرغم من ذلك النجاح إلا أننا نجد أن “وني” إضطر للقيام بحملات أخري بلغ عددها أربعة, وقد تنوعت معارك “وني” ما بين البر والبحر بل أن واحدة منها كانت برية بحرية في نفس الوقت حصر فيها العدو بطريقة الكماشة, ويمضي “وني” ليذكر لنا حملة قام بها لربما علي منطقة جبل الكرمل – شمال فلسطين- وعبر بالجيش ليجابه بدو الرمال مرة أخري.

السيرة الثاتية للقائد وني

ومن المثير للإهتمام ظهور فكرة تجنيد النوبيين والليبيين في الجيش المصري – كجنود مرتزقة- وقد كان للكهنة المصريين وقتها دوراً في إلهاب حماس الجنود وتذكيرهم بالواجب المقدس للدفاع عن أرض الوطن

ومن هنا كانت البذرة الأولي لتأسيس الجيش المصري مع الحاجة إلى تكرار مثل تلك الحملات مع تزايد المخاطر.

الإنهيار الأول

إنتهت الدولة القديمة بنهاية الأسرة السادسة مع حدوث ثورة شعبية قضت علي الأخضر واليابس كان سببها إختلال النظام المجتمعي وغياب العدالة وسلطة القانون علي سائر المقاطعات, وقد هدأت الأمور نوعاً ما ولكن بوضع غريب نوعاً ما وهو إنقسام مصر لمملكتين شمالية وجنوبية كانت عاصمة الشمالية منها أهناسيا, والجنوبية منها الأقصر, عرفت الأسرة الشمالية بالعاشرة والجنوبية بالحادية عشر.

وقد تنازع الملوك وقتها علي سيادة الدولة باكملها ونشأت وقتها نزاع اهلي بين الطرفين لمحاولة إعادة الأوضاع لما كانت عليه قبل تلك الكبوة, علي أن وضع الجيش المصري وقتها قد إرتد ليعود لوضع سابق وهو قوات تابعة لحكام الأقاليم الذين نصبوا أنفسهم ملوكاً علي مقاطعاتهم وكانت تلك القوات تأتمر بأمر حكام تلك الأقاليم الذين إتخذ بعضهم جانب الشماليين والآخر كان ولاؤه للجنوبيين.

الملك منتوحتب الثاني
الملك منتوحتب الثاني

وقد إستمر ذلك الوضع لفترة من الزمن حتي ظهر علي الساحة ملكاً جنوبياً من الأقصر يدعي “منتوحتب الثاني” والذي نجح في إعادة توحيد القطرين بالقوة وفرض القانون بالإجبار لتبدأ فصول مرحلة جديدة في التاريخ المصري وهي الدولة الوسطي التي تبدأ بالأسرة الحادية عشر.

سنوسرت الثالث: ملك إفريقيا

مع حلول الدولة الوسطي نجد أن مفهوم الجيش في مصر القديمة قد تبلور وأصبح يكون من فرق الحراسة المخصصة للأقاليم المصرية لتكوين جيش نظامي تحت إمرة قائد واحد, بل أن الأمر تطور ليخرج ملك مصر علي رأس الجيش بنفسه.

وقد شهدت تلك الفترة ما يشبه إستقلال أو زيادة نفوذ لحكام الأقاليم والمقاطعات المصرية في ذلك الوقت, ونجد أن كان لكل مقاطعة منهم قوات منظمة , وكان للملوك قوات خاصة عبارة عن الحرس الشخصي للملك وكذلك حماية العاصمة, وقد إستمر عمل تلك القوات في الأعمال المدنية في وقت السلم في تلك الفترة علي غرار التقليد المتبع في الدولة القديمة, أى أنه وببساطة كان نسيج تلك الجيوش عبارة عن مواطنين عاديين من الشعب المصري, وقد كانت النقطة الفاصلة لتلك الفترة هو الملك “سنوسرت الثالث” والذي رأي ووبصيرة نافذة أن الإعتماد علي القوات الخاصة بالأقاليم لربما يحمل الكثير من الخطورة علي الملك نفسه, لذلك نجد أن “سنوسرت” قد لجأ إلى تكوين جيش ثابت يتبع الملك.

ومن أبرز ملوك مصر المحاربين في عصر الدولة الوسطي هو الملك البطل “سنوسرت الثالث” والذي تركزت حملاته علي الجنوب في النوبة القديمة, لم يكتف سنوسرت بحملة واحدة علي الجنوب بل أتبع ذلك بعدة حملات نتج عنها تشييد عدة قلاع أشهرها سمنة  جنوب الجندل الثاني للنيل.

سنوسرت الثالث
سنوسرت الثالث

وقد قام سنوسرت بإقرار الأمن بالقوة في تلك المنطقة وفرض قوانين لتنظيم التجارة بين الجنوب ومصر وكذلك تأمين أى خطر مستقبلي يأتي من تلك الجهة.

الحد الجنوبي الذي وصل إليه جلالة ملك مصر العليا والسفلي ” خع كاوو رع” المعطي الحياة للأبد ليمنع أي زنجي أو أي مجموعة من الزنوج ان يتخطاه سواء كان ذلك براً أو بحراً بسفينة أو بدون سفينة إلا لغرض التجارة في منطقة “إقن” ( منطقة غير معروفة حالياً) أو لآداء مهمة ما, وفي تلك الحالة تعطي لهم كافة التسهيلات, ولا يسمح لأي سفينة من سفن الزنوج أن تتخطي “سمنة” متجهة نحو الشمال أبداً.

سنوسرت الثالث

وقد أصبح سنوسرت مثلاً أعلي للملوك المحاربين الذين تلوه , فنجد ملكاً بحجم الإمبراطور المصري “تحتمس الثالث” يقوم بتقديم القرابين لسنوسرت ويبجله ويقوم بتمجيده بعد أكثر من خمسمائة عام من رحيله عن عالمنا.

السنة السادسة عشر, الشهل الثالث, الفصل الثاني

مد جلالته حدوده حتي سمنة (قائلا): لقد جعلت حدود بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي, وزدت مساحتها على ما ورثته، أنا ملك يقول ينفذ وما بقلبي تفعله يدي فإنى طموح إلي السلطان وقوي لأحرز الفوز.

لست رجلاً يرضي عقله بالتكاسل عندما يتعدي عليه, أهاجم من يهاجمني حسبما يقتضيه الأمر، فمن يجبن بعد هجوم العد يقوي قلب عدوه عليه.

فالأسود (النوبيوين القدامي) يحكم بكلمة تخرج من الفم, والجواب الحاسم يردعه, وعندما يكون الإنسان شجاعاً في وجهه فإنه يهرب أما إذا تخاذل في وجهه فإنه يهاجمه، إنهم ليسوا بقوم أشداء ولكنهم فقراء كسيروا القلب.

أقسم بحياتي وحياة والدي لم أنطق إلا صدقاً، لم تخرج من فمى كذبة، وكل إبن أنجبه يحافظ علي تلك الحدود التي وصل إليها جلالتي فهو إبني من صلبي وألحقه بنسبي, أما من يتخلي عنها فليس إبني وأتبرأ منه.

سنوسرت الثالث

بعد وفاة “سنوسرت الثالث” خلفه علي العرش إبنه “أمنمحات الثالث” , وقد كانت مهام التجنيد يتولاها كتائب الجيش, إلا أننا نجد الملك أمنمحات الثالث يقول بأنه قام بالإشراف علي أختيار المجندين بنفسه, وأنه كان يختار رجلاً من بين مائة, وقد إستمر تقليد قيادة الملك للجيش علي الرغم من ظهور لقب “إمي را مشع” قائد القوات أو قائد الجيش مما يعني بأن الجيش كان يقوده بعض القادة نيابة عن الملك, وكذلك في تلك الفترة ظهر لقب كاتب الجيش.

وقد أفرزت الدولة الوسطي عن تقسيم أكثر تشعباً للجيش المصري وقد عرفنا ذلك من خلال الألقاب العسكرية التي ظهرت وقتها مثل: قائد الإشتباك, قائد الجدد من المجندين, وفي إحدي الحملات لوادي الحمامات نجد أكثر من عشرون رتبة مذكورة علي رأسهم قائد كتائب الجيش.

وفي تلك الفترة أيضاً ظهر لقب فريد من نوعه وهو ” كاتم أسرار الملك للجيش” وقد جمل ذلك اللقب الموظف المصري “سارنبوت الثاني” والذي كان قائداً لحامية الحدود الجنوبية في أسوان, ويعكس ذلك اللقب الوظيفة الإضافية الفريدة لحامله وهي نقل تقرير كامل للملك بمجريات الأمور بداخل الجيش وتحركاته, وكذلك يعني ذلك بالتبعية لمعرفة حامله لدقائق الأمور في القصر الملكي.

الكبوة

في فترة حكم “توتيمايوس” , لا أعرف لماذا قد نزلت بنا كارثة , فلقد تجرّأ قوم من أصل وضيع من الشرق على غزو بلادنا , وقد كان مجيئهم أمراً مفاجئاً,وبكل سهولة أحكموا سيطرتهم على كافة أرجاء البلاد بدون موقعة حربية.

وبعد أن قاموا بأسر الحكام , قاموا بحرق المدن بوحشية , ودمروا معابد الآلهه,  وساروا فى معاملة السكان بكل قسوة , فقتلوا بعض القوم , وسبوا نساء وأطفال أناس آخرين, وفى نهاية الأمر نصبوا واحداً منهم اسمه ( سالاتيس) ملكاً.

يوسيفوس فلافيوس نقلاً عن مانيتون السمنودي

كان ذلك النص الصادم هو الوصف الذي زعم  “يوسيفوس فلافيوس” أو “يوسف اليهودي” أنه نقله عن الكاهن المصري “مانيتون”, والحديث هنا عن غزو الهكسوس لمصر مع نهاية الدولة الوسطي والتي كانت أكبر الكبوات التي واجهتها مصر في تاريخها.

وقد كانت ذلك الغزو نتيجة لإنهيار الدولة الوسطي وقد بدأ الإنهيار مع وفاة الملكة “سوبك نفرو” والتي حكمت منفردة لمدة تتجاوز الثلاث سنوات خلفاً لأخيها الملك “امنمحات الرابع” ليضعها المؤرخين في نهاية الأسرة الثانية عشر.

الملك نفر حتب الأول
الملك نفر حتب الأول

وقد بدأ تسلل الهكسوس لمصر منذ منتصف الدولة الوسطي تقريباً, وبدأت حالة العرش في تذبذب مع نهاية الاسرة الثانية عشر وبداية الثالثة عشر والتي كان أحد أبرز وأقوي ملوكها هو “نفر حتب الأول” والذي من المؤكد أن نفوذه قد شمل صعيد مصر والنوبة وكذلك الدلتا ولكننا لا نعلم وضع مدينتي “اواريس” وكذلك خاسوت” (سخا) وهما اللتان ستشهدا تجمع عائل للهكسوس لاحقاً وستصبح أواريس عاصمتهم, ومع أقول نجم الأسرة الثالثة عشر بدا واضحاً أن نفوذها تقلص وأصبحت سيطرة الهكسوس علي أواريس وخاسوت مؤكدة بينما تراجع باقي ملوك الأسرة الثالثة  عشر إلى الجنوب شيئاً فشيئاً حتي دان الشمال كله تقريباً للهكسوس وبذلك كتبت شهادة وفاة الدولة الوسطي ودخول مصر في فترة تسمي “عصر الإنتقال الثاني” او إحتلال الهكسوس لمصر .. وللحديث بقية