“الفرعون” .. واحدة من أشهر الكلمات التي يعرفها العالم أجمع، كلمة لها صدى وتأثير ووقع هائل في النفس، تذكر تلك الكلمة في العالم أجمع فتوحى بالعظمة والإقدام والشجاعة والقوة الممزوجة بالحكمة، ومع ارتباطه بحكام مصر القديمة وملوكها ارتبطت تلك الكلمة في أذهان العالم بالحضارة المصرية القديمة التي يشهد لها القاصي قبل الداني.
أما في الشرق فعند ذكر تلك الكلمة يتبادر إلى ذهن القارئ الظلم والطغيان لارتباط الكلمة بقصة فرعون موسى الذين لا يروا سواها في تاريخ مصر ولا يرتضون بغيرها مثال لتغليب الهوى.
لماذا يا ترى يوجد هذا الفارق الهائل في التناول ما بين المعسكرين، وأيهما أكثر إنصافا؟
الشرق أم الغرب؟
من هو فرعون موسى؟
أحد المحاور الجوهرية التي يمكنها حسم تلك القصة هو معرفة شخصية “فرعون موسى”، والحقيقة العلمية والعملية أنه يستحيل الإجابة على هذا السؤال، فلم تشر الكتب السماوية لاسمه ولا شخصيته لأنه ليس سوى رمز وقصته ذكرت للعظمة والعبرة، بينما التاريخ المصري القديم صامت تماماً أمام الواقعة فلا يوجد إشارة أو دليل واحد يمكننا من استخلاص ولو معلومة واحدة مؤكدة بشأن القصة ليبنى عليها استنتاج، فما بالك بتتبع القصة نفسها!
أما ما ذكر في كتب بين معسكر الشرق والغرب فكلها تندرج تحت بند الآراء والاجتهادات الشخصية. بل وفى بعض الأحيان الخيال المحض، ولا يوجد في مجتمعاتنا دليل على ذلك أكثر من الربط الجاري ما بين كلمات: فرنسا، طبيب فرنسي، زغلول النجار، فرعون موسى ففي الشرق يتبنى البعض فرضية تحديد فرعون موسى بالاسم باستخدام تلك الكلمات بمثابة كلمات دلالية.
فيخرج البعض قائلاً هناك طبيب فرنسي شرح مومياء فرعون !، والآخر يقول إن فرنسا استقبلت مومياء فرعون، بينما فريق ثالث يقول إن زغلول النجار ذكر شخص فرعون، دائرة لا نهائية من أحداث خيالية لم تحدث وأبحاث لا وجود لها يتعامل مردديها على أنها حقائق لا جدال فيها ولا راد عليها.
وحقيقة الأمر وبوضوح تام فإن الغرب كان يعتمد على نصوص العهد القديم بشكل رئيسي لاستقاء فكرة عن شخصية فرعون موسى وقد حددوا بعض الشخصيات بالاسم.
ولكن كثرة الفرضيات وتعارضها مع العلم أولا ثم المنطق بل وتعارضها مع بعضها البعض أدى في النهاية إلى الوصول لطريق مسدود وإقرار عدم المعرفة في النهاية وترك المسألة للزمن لربما يكشف عن خباياها.
بينما في الشرق يصر البعض على إعادة اختراع العجلة وتكرار ما فعله الأسبقون بنفس المعطيات متوقعين نتائجاً مختلفة.
خلاصة القول إنه لا يوجد حتى الآن ولو دليل واحد حاسم يؤكد لنا من هو فرعون موسى. ومتى عاش تحديداً طبقاً للمعطيات الموجودة بين أيدينا حتى هذه اللحظة، كل ما يطرح هو آراء ووجهات نظر بلا دليل فيمكن رفضها بلا دليل أيضاً ولا تحتاج لمبررات لشرحها.
فرعون ما بين الشرق والغرب
مع تزايد وجهة النظر التي تتبنى الطابع الديني حصراً في تناول الأمور كان من الطبيعي أن يسود الشرق نظرة عامة سلبية عن حضارة مصر القديمة. باعتبار أن قصة فرعون موسى هي المثال الوحيد الممثل لحضارة مصر.
وأغفل هؤلاء أو تناسوا أن لمصر تاريخا تجاوز خمسة آلاف سنة حضارة. وله آلاف القصص والأمثلة التي تعبر عن حضارة مصر خير تعبير. هذه نقطة محسومة لدى الغرب الذي لا يتناول الأمور بعاطفية. ولا يعنيه حتى الحيز الجغرافي الذي وقعت فيه قصة فرعون موسى.
فليس أحد الطرفين من قومهم ومصر ليست بلادهم، فكان من الطبيعي أن يتم تناول تلك الحضارة من منظور محايد. لتكون أحد أهم موضوعات الدراسة للصغير قبل الكبير. ومع تزايد المعرفة أرجحت كفة تقدم مصر الحضاري على نظرية المثال الواحد (قصة فرعون موسى)، ليكون رد الفعل النهائي هو الاحترام والانبهار. بل ومحاولة التعلم من أجل مستقبل أفضل.
فالمعرفة تخلق شغفاً وطلباً للمزيد، بينما الانغلاق على العكس تماماً يخلق قناعات مسبقة لا تخضع للنقاش. ولكن كيف ولماذا توجد هذه الفجوة من الأساس؟
وكيف ساهمت المعرفة في احترام الغرب للحضارة المصرية؟
أخلاق ملوك مصر القديمة
لم تكن تلك النظرة الغربية التي تحترم حضارة مصر القديمة من فراغ ولا جهل. وإنما من حقائق راسخة أخبرنا بها المصري القديم من آلاف السنين. فبخلاف التقدم العلمي المذهل والتفوق الحضاري نجد ان الجانب الأخلاقي والديني كان يشغل حيزا أكبر مما نتصور في تراث المصريين القدماء.
فالملوك مهامهم ثقيلة وأعبائهم صعبة وتحقيق العدل والرخاء لشعوبهم كان غايتهم، ولا ندعي هنا أن التاريخ المصري كان ملائكي على طوال الخط أو أن مصر كانت المدينة الفاضلة، ففي النهاية هم بشر مثلنا كانت لهم أحلامهم وطموحاتهم واطماعهم ومآسيهم. ولكن ما أخبرنا المصري القديم عن أخلاق ملوكه كان مثيرا للإعجاب.
خوفو ومزاعم السخرة
إذا قمنا بتتبع الموضوع تاريخياً فسنجد هناك أصولا لذلك تتلخص معظمها في كتابات الرحالة الأجانب عن مصر، فكل قاص أو مؤرخ أو رحالة أجنبي كتب عن مصر بما يتوافق مع وجهات نظره ومعرفة عصره ولم يكن هناك تدقيقاً في تلك الكتابات نظراً لطبيعة العصور التي دونت فيها. ولا نجد مثالاً على ذلك أكبر من روايات هيرودوت عن الملوك “خوفو” مشيد الهرم الأكبر في الجيزة.
في عصر الأسرة 26 جاء إلى مصر المؤرخ الشهير “هيرودوت” ليتفقد أحوالها ويكتب عنها، وقد كتب أحوال مصر في جزئين ضخمين تحدث فيهم عنها، من ضمن ما ذكره هيرودوت عن مصر هو شخصية وعصر الملك “خوفو” فيرى هيرودوت أن هرم خوفو قد بنى بالسخرة وان خوفو كان ملكاً ظالما حرم إقامة التماثيل وبالتالي حرم شعبه من الخلود الذي كانت أحد مقوماته فن النحت.
كما أنه ذكر أيضا أن الأهرامات الصغيرة التي بنيت بجوار أهرامات الجيزة قد تم تشييدها بالدعارة! فيمضي قائلاً إن تلك الأهرامات كانت تخص بنات الملك “خوفو” وأنهن كان لهن عشاق تطلب الواحدة منهن من كل عشيق أن يأتي لها بحجراً تستخدمه في بناء هرمها!
يحلو للبعض اتخاذ تلك الروايات كمسلمات للذم في ملوك مصر وحضارتها، فها هو “خوفو” الظالم وبناته الفاسقات متخذين من تلك الروايات مدخلاً لفرض النظرية النمطية ورؤية “فرعون موسى” وإسقاطها على الحضارة بأكملها.
بينما تخبرنا المكتشفات الأثرية أن الهرم الأكبر قد بنى بعمال ذوي أجر كريم ومعاملة حسنة بل ورعاية طبية فائقة، وهو ما أخبرتنا به قرية العمال بناء الأهرام بالجيزة والتي عثر فيها على مساكن ومقابر العمال.
ونصوصاً تخبرنا عن أحوالهم وطريقة معيشتهم وحتى مماتهم، وكذلك الاكتشاف الأعظم والأكبر وهو برديات وادى الجرف والتي كانت شهادة حية من موقع بناء الهرم الأكبر، وهو ما ينفى خرافات السخرة.
وكذلك خرافات تشييد الأهرامات بالدعارة، فواقع الأمر أن مشروع البناء في هضبة الجيزة كان قائماً على حكومة قوية لدولة مركزية وبيروقراطية وتنظيم على أعلى مستوى، وبالتالي فهذا ينفى تلك الروايات ويحيلها إلى خانة الفولكلور الشعبي الخيالي.
ولا أجد مثالاً أبلغ من لقاء مناحم بيجن،رئيس وزراء إسرائيل سابقًا، بالرئيس الراحل “انور السادات” عندما أشار إلى أن اجداده هو (اليهود) قد شيدوا أهرامات مصر، فالتقط هو الآخر طرف الخيط وافترض أن خرافات السخرة في البناء صحيحة.
وقام بتطويعها لتتناسب مع ما يريد أن يطرحه، ومن المؤسف أن تتشابه تلك الطريقة مع ما يفترضه البعض من تقييم للحضارة المصرية على أساسا شخصية فرعون موسى، لذلك لا مفر سوى من الاستناد للحضارة المصرية القديمة نفسها لتخبرنا عن نفسها وأحوال ملوكها.
سنفرو الملك العادل وشق البحر
يشتهر الملك سنفرو بين أوساط الدارسين بانه أشهر البنائين في مصر القديمة، فله من الأهرامات أربعة وهو والد الملك “خوفو” شخصياً صاحب الهرم الأكبر في الجيزة، ولكن ما اشتهر به سنفرو في حياته وبعد وفاته في مصر القديمة لم تكن هذه الإنشاءات فحسب. بل كانت شهرته الطاغية بانه كان ملكاً طيباً عادلاً محسناً.
كان أحد ألقاب سنفرو في حياته هو “نب ماعت” وتعنى سيد العدالة، وتشير النصوص المصرية القديمة إلى تقديس الملك سنفرو وحب المصريين له بعد وفاته بمئات الأعوام. ففي صحراء دهشور (حيث شيد سنفرو هرمين). نجد أن ملوك الدولة الوسطى قد شيدوا أهرامات لهم هناك تيمناً بسنفرو وتقريباً منه. ووصفته نصوص تلك الفترة بالملك الطيب، الرحيم، المحبوب والمحسن.
وهناك نص شهير آخر يسمى “بردية وستكار” أو “خوفو والسحرة” كتب على أوراق البردي بعد وفاة سنفرو بأكثر من سبعمائة عام. تحكي باختصار أن الملك خوفو طلب من أولاده أن يقص كل واحد منهم قصة عن السحر والسحرة.
وتوالت القصص عن الملوك السابقين لخوفو حتى جاء اسم سنفرو فحرص كاتب النص (البعيد زمنياً تماما عن عصر سنفرو وخوفو) أن يذكر الملك سنفرو بأرق الألفاظ وأحسنها ليظهر طيبته ووداعة أخلاقه.
بل إن القصة التي ترويها البردية تحكى عن أخلاق سنفرو مع حاشيته، فذات يوم كان سنفرو مهموماً فاقترح عليه كاهناً ذو صيت يدعى “جاجا إم عنخ “أن يركب قارباً ليرى الأماكن اللطيفة حول البحيرة وكذلك الحسناوات الممسكات بالمجاديف. فتم إعداد مركباً بها عشرون حسناء بعشرين مجدافاً من الأبنوس المذهب واللائي سر قلب الملك لرؤيتهن.
وهنا سقطت إحدى حلي قائدة المجدفات في البحيرة فسكتت وتوقف التجديف. عرض عليها سنفرو تعويضها فرفضت وأصرت ان تستعيد حليتها المفقودة. وهنا أمر الملك بإحضار ساحر قام بشق البحر (النهر) إلى شطرين فعثروا على الحلية.
وأعادوها لصاحبتها، وعلى الرغم من أن تلك القصة لا تعكس أحداثا حقيقة ولكننا نجد أن كاتبها بدون أي مصالح تجمعه بسنفرو ودون فائدة تعود عليه أو حتى يجمعهما زمن قد أظهره صبوراً عطوفاً يصغى ويصبر وهو ملك وأمره نافذ.
نفر إير كا رع: تقدير المخلصين وثقافة الإعتذار
إذا كانت قصة سنفرو خيالية فلدينا قصتان حقيقيتان أغرب من الخيال تعود لعصر ملك مصري من الأسرة الخامسة يدعى “نفر إير كا رع” دونها موظفين عاصروه في أقدس الاماكن لديهم.
كان للمك وزيراً يدعى “إياسن بتاح” وأثناء تفقد الملك وأبناؤه للمنشئات الملكية بصحبة الوزير. سقط الوزير مغشياً عليه بينما كان الملك يمدح أعماله ويثنى عليها، لم يتردد نفر إير كا رع فى الأمر بنقل الوزير فوراً إلى القصر الملكي. بل أحضر بنفسه صندوقاً مليئاً بالبرديات الطبية. ليبحث بنفسه عن علاج وزيره ولكنه لم يعرف لدائه دواء، فاعتكف في مقصورته يصلى للإله أن ينجيه. ولكن الوزير توفى في نهاية الأمر.
عاد الملك إلى مقصورته يصلى للإله كي يرحم روحه. ثم أمر بإتمام خطوات التحنيط والدفن على أكمل وجه. فأمر بصنع تابوت من الأبنوس المطعم كما أمر ان يتم تحنيط “إياسن” أمامه وبحضوره.
وقد عرفنا تلك القصة من لوحة حجرية وضعها إبن “إياسن” في قبر أبيه بمنطقة آثار سقارة عرفاناً بالجميل للملك.
أما القصة الثانية فمن مقبرة أحد كبار موظفيه ويدعى “رع ور” بالجيزة. فبينما يسير بصحبة الملك في أحد الاحتفالات كان “نفر إير كا رع” يحرك صولجانه يمينا ويساراً فارتطم – دون قصد- بساق الموظف. وهنا اعتذر الملك له فوراً واصفاً إياه بأنه أحب شخص لديه. ولم يكتف بذلك فتم نقش هذه الواقعة والاعتذار على لوحة حجرية في قبر “رع ور”.
أوزير الإله الطيب
في المعتقدات الدينية المصرية القديمة كان الإله “اوزير” (أوزوريس) هو أول ملوك الأرض خلفاً لأبيه الإله “جب” إله الأرض، وكان أوزير هو الإله الرحيم الذي لا يعيش إلا بالحق. ولا يرضى بالظلم وهو من يحاسب أمامه الموتى فلا يدخل الجنة إلا من حوكم وأثبت حسن نواياه وطهارة قلبه، لا فرق أمام أوزير بين غنى وفقير فمن ابتعد عن أذى البشر. ولم يظلم أحداً فهذا من سيفوز بالجنة أما العذاب فلمن قام بعمل السوء ولا شفاعة لمال ولا بنون أو قرابين أو حتى صلوات يتلوها كاهن له.
كان أوزير يمثل في وجدان المصريين الطيبة المطلقة والحق المطلق، باختصار كان أوزير هو تجسيد كل الأعمال الخيرة ومع حلول الأسرة الخامسة نجد أن ملوك مصر كانوا يلقبون بأوزير في العالم الآخر، ومن ثم اتبعهم عامة الشعب فى تلك السنة، فلم يجد الملوك مثالاً كأوزير ليقتدوا به حتى بعد وفاتهم، ولم يكن فى وجدان المصريين ممثلاً لأول ملوكهم في معتقداتهم الدينية كأوزير.
الفلاح الفصيح وملك مصر
من أهم القطع الأدبية التي تلخص التزام ملوك مصر بتحقيق العدالة هي قصة الفلاح الفصيح، وهي قصة فلاح من وادي النطرون. كان ذاهباً ببضاعته إلى العاصمة أهناسيا، وقد تعرض للظلم عندما سرق أحد الموظفين بضاعته وحميره، كان الظالم هو جحوتى نخت الذي يتبع موطفاً كبيراً آخر يدعى رنسى ابن مرو.
والقصة حدثت في عصر الملك “نب كاو رع” من ملوك الأسرة العاشرة، أخذ الفلاح يستعطف السارق عشرة أيام دون جدوى فذهب لرئيسة رنسى ابن مرو، ومع فصاحة لغة هذا الفلاح وعرضه لشكواه بطريقة بليغة قرر رنسى ابن مرو أن يذهب بتلك الشكوى إلى الملك وقص عليه القصة.
وهنا أمر الملك بتدوين تلك الشكوى البليغة وترتيب أمور أسرة هذا الفلاح بوادي النطرون في السر دون أن يعلم الفلاح أن الملك يرعاه شخصياً. كانت الشكاوى موجهة لرنسى ابن مرو شخصياً. والتي كانت تعبر عن مسؤولية موظف كبير تجاه قضية فيها ظلم ومن ثم تبناها الملك شخصياً فنجد الفلاح المدعو “خن إنبو” يقول في تلك النصوص “ارفع المعاناة عنى فأنا مثقل بالهموم”.
ويضيف وصفاً المسئول بأنه المرساة وزوج الأرملة وأبو اليتيم والقائم بالعدل، بل أنه لم يتورع عن التحذير من عاقبة الظلم وتعديد مساوئ الظالمين، ونجد هنا أن تصرف ملك مصر في النهاية كان مثيراً للإعجاب فلم يأمر برد المسروقات فحسب وإنما أمر بإعطاء ممتلكات السارق “جحوتى نخت” إلى الفلاح فانقلبت الآية وأصبح “خن إنبو” من علية القوم بعدما نظر إليه ملك مصر بعين العطف وامر بتحقيق العدالة.
وعلى الرغم من أننا لا نعلم تحديداً إن كانت تلك القصة حدثت بالفعل ولكنها على أية حال شكلت جزءاً مهماً في وجدان المصريين لمئات السنين كمثال على تحقيق العدل ورفع الظلم والعدالة الناجزة.
الأخلاق في عصور الفوضى
كل الفقرات السابقة كانت تتحدث عن مواقف بعينها تعبر عن أخلاقيات الملوك إلا أننا مع حلول عصر الأسرة العاشرة والتي كانت في فترة زمنية تسمى عصر الانتقال الأول.
وهو عصر الفوضى الذي تلي انهيار الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام، دخلت مصر نفقاً من الفوضى وانهيار المركزية وانقسمت مصر شمالاً وجنوباً وأصبحت عدة دويلات منقسمة، وعلى الرغم من صعوبة تلك الفترة إلا أننا نجد واحد من أروع النصوص التي تحدثت بوضوح شديد عن مؤهلات ملوك مصر وصفاتهم.
تعرف تلك لبردية باسم “تعاليم مرى كا رع” وهي مجموعة من التعاليم لقنا الملك “خيتى الثالث” إلى ابنه “مرى كا رع”. فنجده يقول له: إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الإله من ثور يقدمه الرجل الظالم كقربان”، ويمضى في توصيته بان منصب الملكية منصب خطير ولا يجدر بأن يحوزه جاهل فعليه أن يكون عليماً، ثم يوصيه: ” أقم العدل لتوطد مكانك فوق الأرض، واسى الحزين، ولا تعذبن الأرملة، ولا تحرمن رجلاً من ميراث أبيه ولا تنزعن الأشراف من مراكزهم” أما أخلاقه: “لا تكونن فظاً فإن الشفقة محبوبة، أسس ملكك على حب الناس وسيحمد الناس الإله على مكافئتك لهم مفدمين الشكر على شفقتك ومصلين لعافيتك”، اما عن العقوبات: “كن عادلاً عاقب المجرمين حسب جرائمهم، لا تتهاون في تنفيذ القانون”، تلك البرديات التي دونت أكثر من مرة أشهرها الموجود بمتحف الأرميتاج بروسيا نقلت لنا أول تصور واضح عن مؤهلات وصفات ومهام الملوك في مصر القديمة والجميل في الأمر أن تلك التعاليم قد اقترنت بعبارة مهمة أخرى وهى توصية الملك لأبنه بان يجعل الأجداد نبراساً له.
أمنمحات الأول المقتول غدراً
بالقفز عبر الزمن إلى الدولة الوسطى وعصر الملك “امنمحات الأول” وابنه سنوسرت الأول من الأسرة الثانية عشر نجد نصاً آخر فيه نصائح أمنمحات لابنه سنوسرت، تمضى القصة إلى أن أمنمحات الأول قد تم اغتياله في قصره على يد حاشيته والوصايا نفسها عبارة عن نصائح يوجهها أمنمحات المتوفى لابنه، بالطبع هذه النصائح دونت لربما في صعر سنوسرت نفسه ولكن كان بها من وصايا ما يلفت أنظارنا إلى طبيعة الأمر من مهام الملكية فيقول امنمحات المتوفى لابنه: لقد أعطيت الفقير وعلمت اليتيم وجعلت المغمور يصل إلى مبغاه مثل صاحب المكانة، لم يجع إنساناً في فترة حكمي ولم يعطش خلالها أحد.
وعلى الرغم من النهاية المؤسفة لأمنمحات الأول وغرض تدوين القصة فأنها أعطتنا لمحة عن أعباءه ومهام ملوك مصر القديمة واهتمامهم بمصالح شعوبهم وجعلها أهميتهم القصوى.
الديموقراطية فى مصر القديمة
على الرغم من سياسية الحكم المطلق في مصر القديمة وتمتع الملوك بصلاحيات لا نهائية إلا أن ذلك لم يمنع وجود مجالس استشارية ورجال دولة ذوي رأى ومكانة، ففي فترة صعبة وهي فترة احتلال الهكسوس لمصر نجد في لوحة “كامس” موقفاً فريداً، الملك “كامس” هو ابن الملك “سقنن رع” الذي استشهد فى حروب مصر ضد الهكسوس ومن بعده حمل ابنه كامس راية الكفاح ودونت لنا تلك اللوحة اجتماع الملك “كامس” بمجلس الحرب يستشيرهم فيما يفعل في الأمر، ماذا يفعل وآسيوي يحكم في الشمال ونوبى أفريقي يحكم في الجنوب؟
ونجد أن مجلس الحرب قد آثر السلامة والتعايش لأن المصالح الاقتصادية والتجارة تمضي بسلام، وقد أغضب ذلك الملك غضبة شديدة فقال مقولته المشهورة بأن مصر كلها ستقول مشيرة إليه “هذا هو كامس محرر مصر”، وتخبرنا انقطاع أخبار الملك إلى احتمالية استشهاده هو الآخر خلفاً لأبيه في رحلة كفاح مصر ضد الهكسوس.
تكرر نفس الموقف في مجلس الحرب للملك “تحتمس الثالث” أعظم ملوك مصر القديمة، فعندما اجتمع الآسيويين مرة أخرى متحالفين في مدينة “مجدو” بالشام، قرر “تحتمس ” الذهاب إليهم في عقر دارهم وكان أمامه ثلاث طرق الأول والثاني يدوران حول سفح جبل الكرمل أما الثالث فطريق ضيق ولكنه يوصل مباشرة إلى مجدو، وقد استشار “تحتمس” مجلس حربه الذى كان متشككاً وخاف على سلامة الجيش فى طريق ضيق مكشوف يمكن إصابة القوات عليه بسهولة، سجل لنا التاريخ مقولتهم “لا تجعلنا نسلك هذا الطريق الصعب”، ولكن تحتمس قرر في النهاية اتخاذه وقاد الجيش على الأقدام وهو في المقدمة وفاجأ الأعداء وحقق الانتصار الباهر والنجاح.
وتخبرنا تلك القصص أن الملوك كانوا يستشيرون مجالس الحرب في البداية لاتخاذ الصواب والأمر الأهم ان الملوك كانوا يتقدمون الجيش معرضين أنفسهم للموت وهذه من أخلاقيات العظماء والنبلاء، ولا يوجد مثال على ذلك أكثر من “رمسيس الثاني” الذى قاد جيش مصر بنفسه ومع أولاده طوال 16 عاماً في صراعه مع الحيثيين في معركة قادش وغيرها بينما الحيثيين جلس على عرش إمبراطوريتهم اثنان من الملوك هما “موتالى الثانى” وخاتوسيل الثالث” ولم يقد واحداً منهم الجيش ولا مرة ليواجه رمسيس، بل أن موتالى كان مختبئاً أثناء معركة قادش بينما رمسيس يواجه الموت.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير قد ضرب لنا أمثلة مشرفة على أخلاقيات الملوك المصريين التى تتعارض بالكلية مع الصورة الذهنية لدى البعض والتى تختزل الحضارة المصرية فى شخص فرعون موسى، بقى لنا فقط أن نتتبع طرف الخيط الأخير لهذا الربط.
مرنبتاح ورمسيس وإرهاصات البحث عن فرون موسى
يقترن دوماً اسمي رمسيس ومرنبتاح بتلك القصة ودوماً تشير أصابع الاتهام لهما عند ذكر فرعون موسى، إذا بحثنا فى الآثار المصرية فسنجد أن أصابع الاتهام توجه من خلال لوحة تسمى أنشودة النصر وموجودة بالمتحف المصري بالتحرير ويحلو للبعض تسميتها “لوحة إسرائيل” وهي تحكي عن انتصارات الملك مرنبتاح فى جبهات مختلفة وقرب نهاية اللوحة يوجد سطر يقول” يسريار أبيدت ولم يعد لها بذرة! ، استنادا على كلمة “يسريار” افترض البعض انها “إسرائيل” وبالتالي افترضوا أن مرنبتاح هو فرعون!
وعلى الرغم من أن ذلك النص ينفى التهمة عن مرنبتاح ولا يؤكدها إلا أنهم اعتبروا ذلك، فإذا افترضنا ان الأقوام المذكورين بالفعل هم إسرائيل فكيف أبيدوا ولم يعد لهم بذرة بينما مرنبتاح كان حياً يرزق وقت كتابة تلك اللوحة؟
تتعارض تلك الفرضية مع قصة فرعون موسى جملة وتفصيلاً فالنص الديني واضح أن فرعون هلك ونجى بنو إسرائيل، علاوة على ذلك فلا يوجد أي اسانيد تدعم تلك الفرضية في عصر مرنبتاح لا من قريب ولا من بعيد.
كما أن مومياء مرنبتاح لا تشير إلى وفاته غرقاً كما ورد بقصة فرعون موسى، والمومياء بالفعل موجودة ولا شاهد أكثر منها، لذلك لا تتعدى تلك الفرضيات الآراء الشخصية والإرهاصات.
أما رمسيس فقد سافر بنفسه إلى فرنسا عام 1976 عندما ذهبت مومياؤه للعلاج وأثبتت الفحوصات وقتها أنه لم يتوف غرقاً، على الرغم من الشكوك التي أحاطت بالزيارة وأن غرضها كان هو معرفة إذا كان رمسيس هو فرعون أم لا، وعلى أيه حال جاءت نتائج الفحص لتنفي ذلك تماما وتشير إلى كون رمسيس وقت وفاته رجلاً طاعنا في السن يقترب من ال 92 عاماً ولديه دزينة أمراض منعته من الحركة – على الأقل – آخر عشر سنوات في حياته.
وهكذا نجد أن صور ملوك مصر تختلف تماما عما هو موجود بمخيلة العامة بربطها بالخطأ بأخلاقيات وصفات فرعون موسى، فالحقيقة أن صورة ملوك مصر نبيلة وعادلة، مليئة بحب البشر والتعاطف معهم.
فى النهاية إن كان هناك فارقاً بين الشرق والغرب فالفارق هنا معرفي وهو فارق بسيط ولكنه واسع التأثير يضخم الفجوات فلا سبيل لمعرفة الحضارة المصرية القديمة سوى بالبحث عنها وعدم اختزالها فى فرضيات وتكهنات لن تفيد بشيء فى النهاية.