من مميزات التاريخ المصري القديم هو الامتداد الحضاري الثابت للتقاليد المصرية والعادات. فعلى الرغم من تخلل تاريخ مصر فترات ضعف واحتلالات أجنبية إلا أنه في معظم الوقت كانت الحضارة المصرية تنهض من جديد كعنقاء تنفض عنها الرماد، ومع هذا الامتداد الطويل لتاريخ مصر. كان من المحتم ظهور علامات فارقة متمثلة في شخصيات مشهورة تردد صداها عبر الزمن والمكان على أرض مصر.
1- مينا (المؤسس)
لا يوجد مصري لا يعلم من هو مينا موحد القطرين، فهو الملك الذى دانت له مصر بالفضل في خلق الدولة المصرية بحدودها التي لا تزال ثابتة حتى يومنا هذا.
كان اسمه المصري القديم هو “نعرمر” والذى تم تحويره بالإغريقية لاحقاً ليصبح “نارمر” أما اسم “مينا” فله أصل مصري قديم.
فبعد وفاته بأكثر من ألفى عام ظهر اسمه مجدداً فيما عرف باسم قوائم الملوك، وهى تقليد اتبعه ملوك مصر منذ عصور مبكرة لوضع قوائم للملوك الذين سبقوهم على عرش مصر.
وقد كان أقدم ظهور لتلك القوائم في عصر الدولة القديمة (بناة الأهرام) وهو أثر عرف باسم “حجر باليرمو” نسبة إلى مدينة باليرمو الإيطالية، وهو حجر مهشم إلى سبعة قطع موزعة على متاحف متعددة منها المتحف المصري.
وقد سجل حجر باليرمو أسماء أعضاء الأسرة المالكة حتى الأسرة الخامسة المصرية ولكنه مهشم في كثير من الأنحاء.
أما اسم “مينا” فقد ظهر فيما عرف باسم قائمة “أبيدوس” وهى قائمة مكونة من 76 ملكاً حكموا مصر ودونت تلك القائمة في عصر “سيتى الأول” وابنه “رمسيس الثانى”.
وقد ذكرت تلك القائمة الملك “نعرمر” باسم “مِنى”. وهى كلمة تعنى المؤسس وهو الذى أصبح مينا في العصر الحديث.
تكمن أهمية ما فعله الملك “مينا” هو تحول مصر من بعده إلى دولة بمفهوم الدولة بعدما كانت مملكتين منفصلتين وقبلها عشائر وتجمعات حضارية.
وقد كان ما فعله “مينا” تتويجً لجهود ملوك مرحلة “نقادة” الحضارية، وهى آخر المراحل الحضارية لثقافات ما قبل الأسرات، والتي في نهايتها كان الجنوب في مملكة قوية موحدة مهيئة للزحف نحو الشمال وهو ما نجح فيه مينا بالفعل.
أصول الملك مينا موحد القطرين
وترجع أصول الملك “مينا” إلى محافظة سوهاج وتحديدا مدينة “ثنى” القديمة، ومن أهم الآثار التي ساعدتنا في التعرف عليه هو ما عرف باسم “ًصلاية نعرمر”، والصلاية عبارة عن منحوتة حجرية مسطحة كانت تستخدم في طحن الكحل وبعضها كان يستخدم لأغراض طقسية.
وقد ظهر الملك “نعرمر” على وجهى تلك الصلاية وهو يرتدى تاج الشمال تارة وتاج الجنوب تارة أخرى.
ولم يجد علماء الآثار أثراً أقدم من هذا ليتم تحديد هوية نعرمر بانه نارمر ومينا، وقد عثر على تلك الصلاية في معبد الإله الصقر “حورس” في الكوم الأحمر بأسوان.
ولم تقتصر آثار نارمر على ذلك فحسب، فهناك العديد من الآثار التي ترجع لعصره. أهمها آثراً فريداً عثر عليها في صحراء النقب بفلسطين. وهو عبارة عن كسرة فخار تحمل اسمه. أي أن آثاراه وعلاقاته التجارية. امتدت لخارج القطر المصري وليس محلياً فقط.
وقد إستمرت ذكرى الملك نعرمر مستمرة بعد وفاته بآلاف السنين ونجد ان قوائم الملوك قد كتبت اسمه بالمداد الأحمر نظرا لأهميته.
بل أن الملك رمسيس الثانى وضعه في جدارية على جدران معبد الرامسيوم هو والملك “منتوحتب الثانى” ومعهم “تحتمس الثالث” في اعتراف من رمسيس بأهمية وقدسية هؤلاء الملوك وما فعلوه لمصر.
زوسر ( الهرم المدرج)
الملك “زوسر” هو أول ملوك الأسرة الثالثة وأول ملوك الدولة القديمة التي امتدت من الأسرات 3 ل 6. وعرفت تلك الفترة أيضا بعصر الملوك بناة الأهرام.
كما هو الحال مع “مينا” فلم يكن “زوسر” هو اسم الملك الذى عرف به في حياته. فكان اسمه طبقاً لآثار عصره هو “نترى غت”. ويعنى إلهى الجسد (صاحب الجسد المقدس) ومن أشهر الآثار التي سجلت ذلك الاسم. هو تمثاله الشهير الموجود بالمتحف المصري بالتحرير.، وكذلك ما عرف باسم “لوحة المجاعة” وهى لوحة حجرية نقشت بعد وفاة “زوسر” بحوالي ألفى عام ويزيد وأعطته اسم “نترى غت”.
أما اسم “زوسر” فهو تحوير للكلمة المصرية القديمة “چِسر” وتعنى المقدس.
وهو الاسم الذى أطلقته قائمة أبيدوس على هذا الملك. ترجع أهمية “زوسر” إلى أنه في عصره انتقلت مصر من البناء بالطوب اللبن على نطاق واسع. وبالحجر على نطاق ضيق إلى البناء بالحجر على نطاق واسع بشكل كلى تقريباً.
وتجسد ذلك في مجموعة الملك الهرمية الموجودة بسقارة والتي تتمحور حول “الهرم المدرج”. قبل زوسر كانت الدفنات تتم فيما يسمى “مصطبة”. وهى كلمة عربية تشير إلى المبنى الذى كان يشيده المصريين القدماء للأحياء. لكى يزوروا موتاهم المدفونين في آبار أسفل المصطبة.
وفى عصر “زوسر” كان أكبر تقنيات البناء هي مصطبة مزدوجة (ذات دورين). مع استخدام الحجارة في المباني الموجودة تحت الأرض والمخصصة للدفن. وهنا ظهر واحد من أعظم الشخصيات المصرية على مر العصور. وهو “إيمحوتب” وهو المهندس الذى أشرف على تشييد تلك التحفة المعمارية.
وفى النهاية تم بناء مصطبة مدرجة مكونة من 6 درجات يحيط بها مجموعة من الأبنية الطقسية كونت معاً المجموعة الهرمية للملك “زوسر”.
لم يقتصر عصر زوسر على منجزاته فى سقارة. ولكن تعددت آثاره فى أماكن عدة وكان عصره يشهد استقرارا داخليا كبيراً,
وبعد وفاته بآلاف الأعوام ظل اسم “زوسر” يتردد على لسان المصريين, وفى فترة تاريخية عرفت باسم “العصر المتأخر” قام المصريون بإحياء أسماء من ماضيهم السحيق لاستعادة الروح المصرية الوطنية مرة أخرى وكان من بينها أسماء “زوسر” وإيمحوتب”.
سنفرو أبو الأهرامات
أول ملوك الأسرة الرابعة وقد تميز عصر الملك “سنفرو” برخاء اقتصادي غير مسبوق. أدى إلى إبداع وإنجازات لم يسبقه إليها احد.
في عصر الملك “سنفرو” شهدت عمارة الأهرامات تطوراً كبيرة فقد انتقل المصريون في عهده من محاولة بناء المصاطب المدرجة إلى الاتجاه في بناء أهرامات كاملة مباشرة.
هرم ميدوم في بني سويف
وقد كان أول أهرامات سنفرو على الأرجح هو هرم ميدوم في بنى سويف. ذلك الهرم الذى يشبه البرج حاليا بعدما فقط الكثير من كتلته بينما غرقت قاعدته تحت الرمال.
وذلك نظرا لكثرة عدد الأهرامات المنسوبة للملك سنفر. فقد اعتقد علماء الآثار في البداية أن ذلك الهرم هو للملك “حونى” آخر ملوك الأسرة الثالثة وأكمله له الملك “سنفرو” خليفته على عرش مصر.
إلا أن المكتشفات الأثرية لذلك الهرم لا ترجح ذلك وكل المكتشفات بالموقع تشير لسنفرو نفسه.
توالت أعمال سنفرو فانتقل إلى صحراء دهشور. وقام بتشييد الهرم المنحنى الذى يعتقد أنه ظهر بهذا الشكل بسبب خطأ هندسي.
هرم سنفرو الأحمر أول هرم كامل في التاريخ
ومن ثم تم بناء هرماً آخر في دهشور أيضا وهو (الهرم الأحمر) وهو أول هرم كامل في التاريخ. وقد استلهم منه الملك “خوفو” مخططات بناء هرمه.
تعددت محاولات “سنفرو” للوصول للشكل الهرمى الكامل مع تصاعد العقيدة الدينية الشمسية السماوية في تلك الفترة.
حيث كانت الأهرامات هي تجسيد أشعة الشمس نفسها وتمثيل لاتحاد الملك بالإله “رع” وخوضوه معه رحلة الشروق والغروب كل يوم.
كل المعلومات السابقة شائعة عن سنفرو ويعرفها الكثيرون إلا أنه هناك جانب آخر من حياة سنفرو له رونق خاص وهو عائلته.
عائلة الملك سنفرو الأكثر إنجابًا فى تاريخ مصر
عائلة الملك سنفرو تعد من أنجب عائلات مصر القديمة فعلى سبيل المقال له ابن يدعى “نفرماعت” الذى تزوج من سيدة تدعى “إتت” ويعتقد أن “نفر ماعت” هو مهندس أهرامات دهشور، وقد أنجب “نفرماعت” ابنا يدعى “حم اون” وهو مهندس الهرم الأكبر فى الجيزة.
لسنفرو إبناً أخراً وهو الأمير “عنخ ف”، وأهمية دور هذا الأمير تعود إلى أنه اشترك في عملية بناء الهرم الأكبر في مرحلة متأخرة من المشروع.
برديات وادي الجرف تكشف أسرار جديدة
وقد عرفنا ذلك عن طريق “برديات وادى الجرف” التي تم اكتشافها عام 2017 وذكرت اسم “عنخ ف”، كما أنه المهندس المحتمل لهرم الملك “خفرع” وكذلك تمثال أبو الهول.
وقد دفن الأمير “نفر ماعت” في ميدوم بجوار أخ آخر له وهو الأمير “رع حتب” الذى كان قائدا للقوات (قائد للجيش)، والمتحف المصري بالتحرير يحتوى على جدارية غاية في الروعة تسمى “اوز ميدوم” وهى من جداريات مقبرة نفر ماعت.
بينما هناك تمثالان للأمير رع حتب وزوجته عثر عليهما في ميدوم أيضا، أما “عنخ ف” و”حم أون” فقد دفنا في هضبة الجيزة، ولهما آثار بمتاحف العالم.
وقد ظلت سيرة “سنفرو” حية على أرض مصر لآلاف السنين بعد وفاته وظلت آثاره محطة لاستقبال الزوار الذين ترك بعضهم كتابات تدعو له بالرحمة هو وامه الملكة “مرس عنخ الأولى”.
عدد أهرامات الملك سنفرو ومواقعهم في مصر
بلغ عدد أهرامات الملك سنفرو ثلاثة واحد بميدوم، واثنان بدهشور بينما له هرم آخر صغير في الفيوم يعرف بإيم “هرم سيلا” ليكون سنفرو بالفعل هو أبو الأهرامات.
بقى فقط أن نذكر أن اتجاه الملك “سنفرو” لمنطقة دهشور تحديداً جعل لها بصمة مميزة حيث أنه كان أول ملك يتجه للتشييد هناك.
جبانة العاصمة منف
ومنطقة آثار دهشور هي جزء من جبانة (مكان دفن) العاصمة وقتها “منف”، وقد سميت تلك المنطقة في عصر سنفرو “ونت سنفرو” وتعنى (ضيعة سنفرو) تيمنا بالملك نفسه.
ولم تشمل منطقة دهشور فقط على أهرامات الملك سنفرو بل كانت هناك مقابر ملحقة بالمجموعات الهرمية كعادة أهرامات ملوك مصر التي كان الكثير من الموظفين يتجهون إلى الدفن بجوار ملوكهم.