للحضارة المصرية القديمة نصيب الأسد من إهتمام محبي التاريخ القديم, وعبر سنوات طوال أثارت حضارة مصر خيال المغامرين واطماع الباحثين عن الثروات. خلال عقود طويلة جداً ظلت الصورة الذهنية لدي البشر عن الحضارة المصرية عبارة عن أعمال خوارقية فوق العادة وأشياء يعجز العقل عن تفسيرها, وبمرور الزمن لم يختلف ذلك الأمر كثيرا, فما كان يعتقده الناس في القرون الوسطي لا يزال متداولاً حتي يومنا هذا.
ومن المثير للإهتمام أن سهولة تداول المعلومة كما أتاحت الفرصة أمام الجميع للإطلاع فإنها ايضاً فتحت الباب امام تداول الخرافات حتي إختلطت كل المفاهيم المتعلقة بالحضارة المصرية وأصبح الكل يؤكد الشيء وعكسه في نفس الوقت باعتباره حقيقة مطلقة.
ولعل تلك الخرافات كانت مفهومة بل ومقبولة في بعض الأحيان في أزمان بعيدة عندما كان البشر لا يملكون من المعرفة ما نملكه الآن, ولكن يبدو أن سلعة الخيال لا تزال رائجة حتي يومنا هذا, نستعرض في هذا المقال بعض الخرافات الرائجة عن الحضارة المصرية القديمة.
شامبليون لم يفك رموز حجر رشيد؟
أنقلب العالم رأساً علي عقب في ابريل من عام 1823 عندما قام الفرنسي “جان فرانسوا شامبليون” بما سمي “فك رموز حجر رشيد”, وتغيرت معرفة البشر بالحضارة المصرية القديمة إلى الأبد بعد شامبليون, وذلك لانه قبل شامبليون لم يكن هناك من يستطيع أن يقرأ أو يفهم اللغة المصرية القديمة بخطوطها وطريقة كتابتها القديمة مع إندثارها تحت وطأة الإضهاد الديني لروما المسيحية ومن بعدها تعريب الدواوين ليظهر شامبليون في وقت كانت مصر تتحدث فيه العربية بينما النقوش علي جدران المعابد بلغة غير مفهومة لا يستطيع أحد قرائتها, ومن هنا نشات المشكلة, كيف يمكن قراءة تلك اللغة؟
حقيقة الأمر أن ما فعله شامبليون كان أمراً غاية في البساطة, في زمنه كانت هناك لغتان متداولتان في مصر, الأولي هي اللغة العربية, والثانية لغة يطلق عليها المصريون “القبطية” وتستخدم وبكثافة فر ترانيم الكنائس المسيحية المصرية, وهنا تبني شامبليون فرضية سابقة تقول بأن اللغة “القبطية” ماهى إلا منطوق نفس اللغة المكتوبة علي جدران المعابد ولكن الفارق بينهما أن القبطية تكتب بحروف يونانية بينما نقوش المعابد تكتب بعلامات وأبجدية مختلفة.
ومع توفر ما سمي “بحجر رشيد” والذي كان نصاً واحداً مكتوبا بلغتان : الأولي اللغة المصرية القديمة مكتوبة بخطين مختلفين وهم الهيروغليفي, والديموطيقي, ومن ثم ترجمة نفس النص باللغة اليونانية, ومن ثم إعتمد شامبليون علي نطق الأسماء الموجوة بالنص ليستطيع ولأول مرة منذ قرون إعادة قراءة اللغة المصرية القديمة مرة أخري.
بعد ذلك السبق ظهر مصطلح “فك رموز حجر رشيد” والذي جعل الأمر يبدو في مخيلة البسطاء وكأن ما قام به شامبليون هو عبارة عن فك شفرة اللغة المصرية القديمة, وبما أن الموضوع متعلق بشفرة ما فيمكن -وبقليل من التفكير- إفتراض أن هناك طريقة اخري لفك تلك الشفرة, ومن هنا بدأ اللغط.
وحقيقة الأمر أن ما فعله شامبليون هو إعادة قراءة لخطوط مندثرة من خطوط اللغة المصرية القديمة, بينما عرف النطق من خلال ما يعرف الآن باللغة القبطية وهي المردود الأخير للغة المصرية القديمة.
لتقريب الأمر لذهن القاريء, تخيل معي للحظة ان اللغة العربية إندثرت وأن لدينا الجملة التالية: “ذهب أحمد إلى الدرس” والتي يعكف العلماء علي معرفة كيفية قراءتها, حتي ينجح احدهم في ذلك ومن ثم إستطعنا قراءة النصوص المتاحة للغة العربية وقتها, إلى هنا والأمر بسيط ومنطقي , ولكن لنذهب بالخيال لأبعد من ذلك ولنتخيل أحدهم يخرج علينا قائلاً أن طريقة قراءة تلك الجملة خاطئة وبالتالي فإن “فك شفرة اللغة العربية غير صحيح” ويلحق كلامه بفرضية مضحكة تقول ان القراءة الصحيحة لتلك الجملة هي: الجبار ذو المنشار” ومن ثم يستطرد وبنفس الكيفية ويترجم بقية النصوص منتجاً أشياء بلا معني.
هذا هو بالتحديد ما يحدث أمام اعيننا عندما يظهر أحدهم زاعماً ان هناك طريقة أخري لفك “شفرة اللغة المصرية القديمة”, علي أية حال ومنذ 1823 وحتي يومنا هذا فإن ما فعله شامبليون تم تنقيحه ومراجعته مئات بل آلاف المرات وبناء عليه تم قراءة آلاف بل عشرات الآلاف من النصوص التي اعت تراكيباً لغوية صحيحة وجملاً مفهومة تتسق مع الآثار التي نراها حتي يومنا هذا, أما عن البعض الآخر الذي يزعم تحت عنوان أن هناك “عالماً مسلماً” او “قساً مسيحياً” كان يعرف قراءة اللغة المصري القديمة قبل شامبليون, فهؤلاء لم يظهروا بهذه الأقاويل إلا بعد فك رموز حجر رشيد أما قبلها فكانوا هم ومن يزعموا أنهم يعلموا صامتين تماماً وذلك لانهم وقتها كانوا لا يعلموا شيء على الإطلاق, فهو مجرد تلبيس ثوب ديني لقضية غير دينية علي الإطلاق لخلق إنتصار وهمي ما.
قدماء المصريين كانوا من العمالقة ويعيشون آلاف الأعوام؟
هناك شبه إجماع لدي بعض الناس أن الحضارات القديمة كان أصحابها ضخام الجثة بل ومن العمالقة, وأن الإنسان كان ينكمش كلما تقدم الزمان حتي وصلنا إلى العصر الحالي والذي وصل فيه الإنسان إلى حجم صغير جداص مقارنة بأسلاف البشر القدماء.
ولم تتوقف تلك الإدعاءات بالتعميم فقط بل تم تخصيصها للحضارة المصرية القديمة ليزعم البعض أنهم لم يكونوا ضخام الجثة أو عمالقة فحسب , بل كانوا يعيشون لمئات بل آلاف الأعوام أيضاً!
وحقيقة الأمر ان ذلك يمكن التحقق منه بكل سهولة ومنذ عصور سحيقة, فعلي سبيل المثال إذا كنت من سكان القاهرة فكل ما عليك سوي أن تتوجه إلى ميدان التحرير لتزور المتحفي المصري أو إلى الفسطاط لتزور متحف الحضارة, وهناك يمكنك رؤية – وبأم عينك- أجساد المصريون القدماء ( المومياوات) والتي تقول وبكل بساطة أن المصريون القدمءا كانوا بشراً عاديين طوال العصور المصرية القديمة, وحقيقة الأمر أيضاً أن العكس هو الصحيح فمتوسط الطول لدي المصري القديم كان حوال 165 سم أو يزيد قليلاً وهو ما أخبرتنا به تلك المومياوات بعملية حسابية بسيطة, علاوة علي ذلك فإن الإناث كانوا متوسط طولهم أقل من ذلك أيضاً, أى أن عكس تلك المزاعم هو الصحيح تماماً.
أما عن أعمار المصريون القدماء فمتوسط الأعمار كان متعلقاً بالرعاية الصحية والمقدرة المادية, فمتسوط السن للإنسان العادي في مصر القديمة حوالى 30-35 سنة ويزيد ذلك الرقم إن كان من النبلاء ويصل لأعلي منحنياته إذا كان ملكاً او من العائلة المالكة, علي سبيل المثال نجد أن أبرز الإستثناءات في مصر القديمة كان الملك رمسيس الثاني الذي كان طولة حوالي 173 سم , وعاش لما يقرب من 92 عاماً أى أنه كان استثنائيا من حيث المواصفات الجثمانية وكذلك العمر, كذلك لدينا الملك “ببي الثاني” التي تخبرنا المصادر أنه حكم وهو يبلغ ست سنوات وإمتد حكمه حتي أتم المائة عام, وهذا وعلي الرغم من تأكيد بعض المصادر له إلا أن بعض الكشوفات الأثرية الحديثة تعزي لذلك الملك فترة حكم أقل.
أما عن مزاعم دمج العمالقة مع المعيشة لآلاف الأعوام فيما يعرف بإسم “قوم عاد بناء الأهرامات” فتلك ترهات تنسفها اول زيارة للمتحف المصري, يغذيها صوراً مفبركة لبقايا عمالقة وهميين عاشوا علي الكوكب يوماً ما.
الجان واللعنات تحرس المقابر
وهذه واحدة من أشهر الخرافات التي يتبناها الشرق والغرب علي السواء, فالغربيون لديهم مفهومهم عن اللعنات المتروكة بالمقابر المصرية القديمة والتي ستطارد كل من يزعج مومياء أو يقتحم قبرها, وقد ساعد علي تأجيج ذلك الروايات الخيالية التي كتبها كتاب لهم وزن في أوروبا او حتي الولايات المتحدية مثل أرثر كونان دويل, وكذلك إجدار آلان بو, ومن ثم دخلت هوليوود علي الخط بإنتاج مجموعة ضخمة من الأفلام كلها تدور حول تيمة ثابتة وهي (عالم آثار / شخص أحمق/ شخص تصادف وجوده لدي مومياء) قام بقراءة تعويذة قديمة ومن ثم نهضت المومياء من قبرها لتمطر اللعنات علي ذلك المدنس وتلاحقه لتحيق الخراب بالكوكب باكمله, ومثال علي ذلك مجموعة الأفلام التي لا حصر لها التي حملت كلمة مومياء في عنوانها مثل فيلم الممثل الأسترالي بريندون فريزر وحتي توم كروز, وتم حكاية القصص والأساطير الأخري المتعلقة باللعنات واِشهرها تلك الخرافة التي تقول بان سبب غرق سفينة تيتانيك هو مومياء مصرية!
بينما الشرقيون منغمسون في قصص الجان والعفاريت التي نجد مردودها في الروايات الشفهية العربية في القرون الوسطي التي خلقت تاريخاً خرافياً خيالياً لمصر القديمة تخيلوا فيه أن ملوك مصر كانوا سحرة بارعين يسخرون الجان والعفاريت لبناء العابد والمقابر أو علي أفضل تقدير يبنون أبنيتهم باستخدام السحر, وعلي الرغم تطور المعرفة العلمية والحضاير بالتاريخ المصري القديم, بل ونسيان الغالبية العظمي لتلك الكتابات إلا أن مردودها قد بقي متداولاً في صدور الناس حتي وإن نسيوا الأصل.
وقد تقابل الشرق مع الغرب بعد الضجة التي حدثت مع إكتشاف مقبرة توت عنخ آمون واللعنة المزعومة التي صاحبت ذلك الكشف والتي كانت عبارة عن مجموعة من الكذبات التي تم تلفيقها وجمعها سوياً لتكون نسيج يبدو للقاري الحالم وكانه شيء معقول ومقبول بعنوان لعنة الفراعنة, وحدث ذلك التلاقي مع ترويج تلك الأكاذيب ليتمسك الشرقيون بخرافة الجن الغاضب الذي يحرس مقابر القدماء والذي إن اقتحمت ما يحرس فالموت سيكون مصيرك, أما إذا استرضيته بداية من ذبح بعض الحيوانات كأضحية او حتي جلب ريشة حمامة, وذيل غراب وقدم سحلية يتيمة ثم وضعتهم سوياً في كيس قماشي وخضبته بزلال البيض فسيرضي ذلك العفريت الماكر عنك وسيفتح لك أحضانه وأبواب المقبرة لتنهب منها كما تشاء.
مع هذا الطرح يهب البعض مدافعاً عنه ليلبس الموضوع ثوباً دينياً باعتبار أن الجن مذكور في القرآن الكريم ومن ثم يتهم كل من يحاول التفكير بعقلانية أنه يعارض الدين , وهذا قول حق يراد به باطل, فلا يوجد نص ديني أو نص مقدس واحد يدعم خزعبلات تسخير المصريين القدماء للجن والعفارين فضلاً عن جعلهم حرساً للمقابر.
وخلاصة القول أنه وعلي الرغم من إتفاق الشرق والغرب في ذلك الأمر إلا أن كلاً منهم يري ذلك بمنظوره الخاص, فالغربيين بعضهم يري في الحضارة المصرية غموضاً وسحراً وعبقاً يجعله يصدق أى شيء متعلق بها, أما الشرقيين فبعضهم لا يري في قدماء المصريين سوي أناساً أشرار كل همهم إستمطار اللعنات علي من سيليهم تاركين خلفهم أكواماً من الذهب لأي مغامر يستطيع إرضاء أهواء ذلك العفريت المزعوم الذي يحرس كل مقبرة, وهو خيار إقتصادي جداً كما تري يجعل أخبار الحفي والتنقيب خلسة التي تظهر بين الحين والآخر شيئاً مفهوماص في ظل ذلك الغرق التام في ظلام تالك الخرافات.