لم توصف الحضارة المصرية القديمة باعظم حضارات العالم القديم من فراغ, فيمكنك افتراض الريادة في كل المجالات وستجد بلا شك أن مصر كانت الرائدة دوماًَ, فمنها خرج ملوكاً عظاماً وعلماء ومهندسين وأطباء وإنجازات بشرية لا يصدقها عقل حتي يومنا هذا , وكلها إنجازات أبنائها المخلصين الذين سنتحدث عن واحد منهم وهو “حسي-رع” أول طبيب أسنان في التاريخ.
العصر الذهبي للملك زوسر
كان عصر الملك “زوسر” الذي أتي علي طليعة الأسرة الثالثة المصرية هو أول عصور النهضة المصرية بحق والذي شهد العديد من الإنجازات الإعجازية, الملك “زوسر” الذي يعرف في النصوص المصرية القديمة من عصره بإسم نتري-غت ويعني: مقدس الجسد وعرف لاحقاً بعد وفاته بإسم چِسر ويعني المقدس هو أول ملوك الأسرة الثالثة المصرية وخليفة الملك “خع سخم-وي” آخر ملوك الاسرة الثانية وعلي الأرجح إبنه أيضاً, وقد أمضي المصريون يستكشفون هويتهم الثقافية والحضارية والأشياء التي تجمعهم كشعب واحد بإختلاف مقاطعاته طوال فترتي الأسرات الأولي والثانية والتي سادتها إنجازات عديدة وعظيمة ولكنها لم ترق للمستوي الإعجازي الذي سينجزه المصريون لاحقا, ودانت مصر بالفضل للملك “خع سخم-وي” الذي إستطاع إنهاء التطاحن الداخلي المصري وإقرار الأمور داخلياً بشكل حاسم مما مهد الأمر لإبنه وخليفته الملك “زوسر” أن ينطلق إلى آفاق وإنجازات ضخمة.
وهو ما تحقق بالفعل ففي عصر الملك “زوسر” شهدت مصر نقلة لا مثيل لها بظهور “إيمحوتب” مستشار ومهندس الملك زوسر الذي قرر البناء بالحجر علي نطاق واسع وشيد للملك مجموعته الهرمية في سقارة والذي يتعرف في العصر الحديث بإسم الهرم المدرج, ومع هذا الإنجاز حظي إيمحوتب ومليكه زوسر بشهرة واسعة رفعتهم إلى مصاف الآلهة لاحقاً في تاريخ مصر وجعلت من هذا الإنجاز قصة نجاح تحاكي بها العالم القديم باكمله حتي أصبح إيمحوتب إلهاً للطب لدي الإغريق أنفسهم.
ومع تلك الشهرة الطاغية لإيمحوتب كان من المنطقي أن ينزوي بعض الشخصيات الهامة والمؤثرة في عصر زوسر بل ويطالهم النسيان, ولكن هذا تغير مع حلول العام 1861 مع إكتشاف مقبرة لشخصية غاية في الأهمية في عصر الملك “زوسر” وهو الكاهن “حسي-رع”.
أول طبيب أسنان في التاريخ
مع إكتشاف مقبرة “حسي-رع” علي يد أوجوست مارييت عام 1861, بدأت الدراسات حول المقبرة وكان من اهمها قراءة نصوص تلك المقبرة لنعرف منها ألقاب صاحبها, والتي إتضح منها أن صاحبها كان واحداً من صفوة المجتمع المصري وعلماؤه, فقد حاز حسي رع علي ألقاب: المعروف لدي الملك, عظيم مدينة به (تل الفراعين), عظيم العشرة العظماء لصعيد مصر, كبير الكتبة, أخو الإله “مين” (لقب كهنوتي), خادم عِلم الإلهة محيت وكلها ألقاب كهنوتية ومدنية تعكس أهمية صاحب المقبرة إلا أن العلماء توقفوا كثيرا عند لقب فريد حمله “حسي-رع” وهو :”وِر – إيبح – سينيو” والذي يعني عظيم أطباء الأسنان, وهو ما يعني أننا لسا أمام طبيب فحسب بل أقدم طبيب أسنان مسجل في تاريخ البشر, ولم يكن هذا بغريب علي الحضارة المصرية التي عرف فيها كل العلوم منذ عصور مبكرة.
الطب في العصور المصرية المبكرة
لم تكن حيازة حسي-رع علي لقب طبيب بغريبة علي تلك الفترة الزمنية المبكرة من تاريخ مصر القديمة, فقد كان الأطباء بتخصصات دقيقة معروفين طوال فترة الدولة القديمة وإن كان حسي-رع من أقدمهم, وكان المصري القديم يشير للطبيب بشكل عام بكلمة “سونو” وهي تعني طبيب, وقد كان لهؤلاء الأطباء العديد من الألقاب التي أخبرتنا أن تلك المهنة كان مثلها مثل المهن الأخري لا تتم بشكل فردي وإنما كان لها تنظيم إداري ووظيفي.
وفي كتابه الأشهر الطب في مصر القديمة قام الطبيب البريطاني “جون فرنسيس نون” بعمل بعض الإحصائيات عن الأطباء في عصر الدولة القديمة وحدها فوجد الآتي:
- عدد الأطباء المعروفين المختصين بالبصريات :7
- عدد الأطباء المعروفين المختصين بأمراض الجهاز الهضمي: 2
- عدد الأطباء المعروفين المختصين بالمستقيم: 2
- عدد الأطباء المعروفين المختصين بالطب وطب الأسنان: 2
- عدد المختصين بالعقاقير الطبية المعروفين: 2
(المذكورين سابقاً أطباء في تخصصات أخري بجانب المذكورة)
- عدد الأطباء المعروفين المختصين بطب الأسنان فقط: 2
- عدد الأطباء البيطرين المعروفين :3
- عد الأطباء المختصين بتخصص طبي واحد أو أكثر: 16
بسشت:أول طبيبة أنثي في التاريخ
بالإضافة إلى ذلك فإن مصر لم تكتف بذلك فقط, فأول طبيبة بشرية أنثي مسجلة في التاريخ هي الطبيبة “بسشت”, وقد قام بهذا الكشف عالم الآثار المصري الشهير “سليم حسن” في موسم حفائر 1939-1940 عندما إكتشف مقبرة الموظف المصري آخت-حتب الذي كان مفتش كتبة هرم الملك خوفو, وعلي الباب الوهمي لتلك المقبرة وجد سليم حسن نقشاً يذكر إسمان الأول “كا نفر” والثاني “بسشت” وهما من المرجح أني كونا والدي “آخت حتب نفسه” , وعلي أية حال فإن بسشت قد كان النقش المصاحب لها فريداً من نوعه فأعطاها لقب “كبير الأطباء” وهو ما جعلها أول طبيبة أنثي مسجلة في التاريخ, أول مشرفة علي أنثي علي مؤسسة طبية في التاريخ.
الأطباء البيطريين
أما عن مهنة الطب البيطري فنجد في سقارة مقبرتين مهمين الأولي هي مقبرة “إرو-كا-بتاح” – من عصر الدولة القديمة- والتي تعرف أيضاً بمقبرة الجزراين, وفيها كل مناظر الجزارة والتعامل مع الحيوانات وتشريحها, وكذلك في مقبرة “كاجمني” (دولة قديمة اسرة سادسة) نجد منظراً شهيراً تكرر في مقابر أخري وهو العيادة البيطرية وإعطاء الدواء للحيوانات وتزغيطها وتسمينها.
أما أهم المناظر فهو المنظر الشهير بمقبرة النبيل “بتاح حتب” (أواخر الأسرة الخامسة) حيث نجد الجزاء يقوم بعدما قام بذبح الأضحية يبلل إصبعه ببعض الدماء ويقربه من أنف شخص آخر يظهر في المنظر , والذي يقوم بشم الدماء, وتفسير ذلك المنظر في النقش المصاحب والذي يروي الحوار التالي:
– إنظر هذا الدم
= إنه طاهر
وهو ما يعني أن المخاطب هو طبيب بيطري يتأكد من سلامة الذبيحة.
العلاج الطبيعي والعناية بالبشرة
وفي مقبرة عنخ ماع-حور بسقارة أيضاً نجد منظران أشهر من نار علي علم, الأول هو منظر ختان الذكور والذي يمثل طبيب ومساعده يقومان بختان أحد الأشخاص في منظرين متكررين, والمنظر المقابل له عبارة عن عناية بالأظافر والبشرة والجلد, مما يؤكد أن التخصصات الطبية قد بلغت أوجها في هذه العصور المبكرة ووصلت إلى حد الإهتمام حتي بالأظافر وخشونة باطن القدم.
إكتشاف مقبرة حسي-رع
نعود إلى حسي-رع , في عام 1861 قام أوجوست مارييت مع “جاك دي مورجان” بإكتشاف مقبرة “حسي-رع” أثناء أعمال الحفائر في سقارة, وكان أول ما عثر عليه “مارييت” هو أول ممرات المقبرة والذي كان له تصميم فريد لم يعثروا علي مثله, فقد عثر مارييت علي ممر به فراغات بالجدار وضع بها لوحات خشبية تمثل صاحب المقبرة وهو “حسي-رع” نفسه, وقد كانت تلك اللوحات الخشبية أقدم لوحات خشبية يتم العثور عليها وقتها كما أنها كانت مصنوعة من خشب الأرز الذي كان يجلبه المصريون القدماء من “جبيل” وقتها, كان العدد النهائي لتلك اللوحات الخشبية 11 لوحة كان خمسة منها في حالة سيئة جداً, وقد قام مارييت بنقل بعض تلك اللوحات إلى المتحف المصري وهو مكان عرضهم حتي الآن.
لم تنهي مفاجآت تلك المقبرة عند ذلك الحد فقد إتضح لمارييت أنها أقدم مقبرة ذات جداريات ملونة تم العثور عليها ,فقد كانت الفراغات التي وضع بها اللوحات الخشبية ملونة هي الأخري, ومع إستكمال أعمال الحفائر وجد مارييت بئر الدفن بالمقبرة فارغاً فقد سبقه إليه اللصوص لربما منذ آلاف الأعوام.
وعلي الرغم من هذا الكشف المهم إلا أن أعمال مارييت وقتها لم تكن باحترافية أو تنظيم, فلم يدون مكان المقبرة , ولم يوثق أعمال الحفائر, بل أنه لم يستكشف جميع أجزاء المقبرة, حتي مرت أعوام قليلة وإختفت المقبرة تحت رمال صحراء سقارة مرة أخري.
حسي-رع تحت رمال سقارة مرة أخري.
في مواسم حفائر عام 1910-1912 وبقيادة عالم الآثار الإنجليزي “جيمس كويبل” بدأت أعمال الحفائر في سقارة, وأراد كويبل في موسمه الثاني البحث عن مقبرة “حسي-رع” وأخذ يبحث في السجلات وفي كتابات مارييت فلم يجد أى شيء يساعده علي تحديد مكان المقبرة حتي أصابه اليأس.
يتعرف كويبل علي أحد العمال المصريين الذي عاصر ماريييت وأكد لكويبل معرفته لمكان المقبرة وقام بأرشاده لها ليعثر علي ضالته أخيراً, قبل “حسي-رع” قام كويبل بالتنقيب عن العديد من المقابر التي تعود للعصر العتيق, ولكنه كان مهتماً إهتماماً خاصاً بمقبرة حسي رع, فعندما قرأ تقرير ماسبيرو وعرف أن تلك المقبرة تحتوي علي جداريات ملونة فعرف كويبل وقتها أنها أقدم مقبرة بتلك المواصفات وكان متأكداً أن مارييت قد ترك الكثير خلفه فلذلك قرر البحث عن تلك المقبرة وإعادة إكتشافها.
كانت المقبرة مغمورة بالكامل بالرمال والرديم والحطام, مما إستدعي إعادة أعمال الحفائر من الصفر, ومع إكتشاف كويبل للمر الذي يحتوي اللوحات حتي أصابه الذهول مع عثوره علي أماكن وضع اللوحات الخشبية والألوان التي عليها, وقد ذكر كويبل في تقريره أن الألوان بدأت في التساقط فور كشف الممر بأكمله وذلك لتعرضها للشمس, بل أن الممر نفسه كان ضيقاً لدرجة أن فريق العمل كان يحتك بالحائط في خروجه ودخوله من الممر (لربما لم يزيل الرديم بالكامل لان الممر يتسع لأكثر من ذلك), وفي نهاية المطاف وصل كويبل إلى بئر الدفن وعثر به علي جمجتان ورفات آدمية لشخصين مختلفين, كما عثر علي العديد من المقتنيات التي أهملها مارييت مثل الأواني وبعض التمائم والأختام الصغيرة,كان كويبل شديد العناية باعمال الحفائر في مقبرة حسي-رع لدرجة أنه قام بتعيين حراسة علي دوريتين للمقبرة ليلاً ونهاراً للحماية من لصوص الآثار والناهبين الذين كانوا ينتشروا في المنطقة بشكل كبير, وعلي الرغم من توثيق كويبل لكل شيء في تقريره عام 1913 والذي أصدره عن المقبرة إلا أنه وفي النهاية فقد هو الآخر الرفات الآدمية التي تم العثور عليها ليضاف إلى سجل خسائر مقبرة حسي-رع.
كنوز حسي-رع: درة المتحف المصري
مع هذا الكم الهائل من المعلومات التي أخبرتنا به مقبرة حسي-رع أصبحت مقتنيات مقبرته واحدة من اهم معروضات المتحف المصري وعلي رأسها اللوحات الخشبية اليت كانت فريدة من نوعها هي الأخري, وكما ذكرنا سابقاً فقد تم العثور علي 6 لوحات خشبية بحالة جيدة بينما الخمسة الآخرون عبارة عن بقايا وحطام.
وتلك اللوحات الخشبية يوجد منها ثلاث بحالة ممتازة جدا, وقد وضعت تلك اللوحات في المقبرة موترجع روعة تلك اللوحات إلى تمثيل حسي-رع فيها في مراحل مختلفة من العمر, وقد وضعت تلك اللوحات في مقبرته من الداخل للخارج, فما أن تدلخ المقبرة فتقابل اللوحة الأولي التي تمثله في سن صغيرة.
ومع إكمال رحلتك لأهم جزء بالمقبرة “الباب الوهمي” تجد حسي رع في أواخر حياته, واللوحات الثلاث المهمة واحدة منها تظهره ريعان شبابه واقفاً يحمل أدوات الكتابة علي كتف وبقية اللوحة بها ألقابه, واللوحة الثانية مشابهة للأولي ولكنها تمثله في سن أكبر (منتصف العمر).
أما اللوحة الثالثة فتمثله في سن متقدمة يجلس علي كرسي وبهذه اللوحة ألقابه كاملة ولقبه الشهير المتعلق بطب الأسنان وهي تمثل حسي-رع بعدما إكتشب كل خبرات الحياة والألقاب الكثيرة ولكنه ظهر ولا يزال يحمل أدوات الكتابة والتي ترمز للعلم الذي كان كل شيء في مصر القديمة.