هضبة الجيزة هي بلا منازع أشهر منطقة أثرية في مصر بل ولربما في العالم أجمع, فهي تحتضن العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب العالم السبع القديمة; الهرم الأكبر. وعلي الرغم من الشهرة الفائقة التي يحوزها الموقع إلا أن المعلومات التي يعرفها الأغلبية من الناس تبدو مبهمة بعض الشيء.
من أهم الإكتشافات التي حدثت في هضبة الجيزة كان في العام 1902 عندما تم العثور علي مقبرة بكامل كنوزها في هضبة الجيزة لتصبح أول مقبرة كاملة مكتشفة علي الإطلاق في تلك المنطقة وكانت المفاجأة الأكبر أـن تلك المقبرة كانت لواحدة من أهم نساء الدولة القديمة وهي الملكة “حتب حر-س” الأولي أم الملك خوفو.
من هي الملكة؟ وكيف تم إكتشاف مقبرتها ؟ هذا هو ما سنحاول معرفته في هذا المقال.
من هي الملكة “حتب حرس”
شهدت الأسرة الرابعة إنتقال العرش من الملك “حو” أو “حوني” آخر ملوك الأسرة الثالثة إلى أول ملوك الرابعة “سنفرو”, ويرجح علماء الآثار أن ذلك الإنتقال تم بعدما لم يكن هناك خليفة ل “حوني” من صلبه من الزوجة الملكية, لذلك آل العرش لسنفرو من بعده بعدما تزوج إبنته “حتب حرس الأولي”, وهناك بعض الآراء التي تقول بأن “سنفرو” هو إبن لحوني من زوجة ثانوية وأنه أقر شرعيته بزواجه من أخته غير الشقيقة “حتب حرس”.
كانت لتلك المراة مكانة عظمي في تأسيس أركان الأسرة الرابعة, إسمها يعني “وجهها راض” وهي إبنة لملك “حوني” وزوجة لملك “سنفرو” وأم لملك “خوفو” وجدة لملكين وهم “جدف رع” و “خفرع” وجدة كبرى لملك آخر وهو “من كاوو رع”, وبدون الدخول في تعقيدات فإن الأسرة الرابعة بدأت بالملك “سنفرو” الذي خلف الملك “حوني” بعد زواجه من “حتب حرس الأولي” والتي أنجبت له الملك “خوفو” والذي خلف أبيه علي العرش, ومن ثم خلف خوفو إبنه “جدف رع” ومن ثم إبنه الآخر “خفرع” ثم حفيده “من كاوو رع” ليربط كل هؤلاء الملوك شخص واحد وهي الملكة “حتب حرس”.
ولم تكتف الملكة بذلك فقد أنجبت إبنة أخري وهو “حتب حرس الثانية” والتي تزوجت من أخيها غير الشقيق الأمير “عنخ حا اف”, وهو الأمير الذي سيكون وزيراً لأخيه غير الشقيق الملك “خوفو” كما أنه سيلعب دوراً هاماً في تشييد الهرم الأكبر والذي ذكرته برديات وادي الجرف بالإسم كمشرف في موقع بناء الهرم الأكبر,. بل أنه أيضاً المهندس المحتمل لهرم الملك خفرع ( الهرم الأوسط بالجيزة).
حملت تلك السيدة العديد من الألقاب التي توحي بمكانتها العظمي فهي “سات نتر إن غت إف” ويعني إبنة الإله من صلبه وهى إشارة إلى أنها إبنة لملك وهو “حوني” , كذلك فهي “موت نسوت” و “موت نسوت بيتي” أم الملك وأم ملك مصر العليا والسفلي,بالإضافة لكل هذا فقد حملت لقبا كهنوتياً رفيعاً وهو “خت حرو” ويعني تابعة الإله حورس.
أين دفنت الملكة؟
كانت أماكن دفن الملك “سنفرو” وحاشيته ما بين “ميدوم” في بني سويف كموقع أول إختاره الملك ودفن به أبناؤه الأمير “رع حتب” وكذلك اخوه “نفرماعت” وإحتوي الموقع علي احد اهرامات الملك “سنفرو” وهو هرم ميدوم, وعلي الرغم من وجود دفنات لحاشية الملك من ابناؤه في ذلك الموقع إلا أن الدلائل تشير أن سنفرو لم يدفن هناك, وكذلك لم توجد إشارة لدفنة للملكة “حتب حرس”, لذلك كان من المنطقي ان تبدأ رحلة البحث عن تلك المدافن في جبانة “دهشور” وهي الموقع الثاني الذي إختاره الملك سنفرو للدفن, وهناك شيد “سنفرو” أكبر هرمين في عصره وهم الهرم المنحني والهرم الأحمر وكانت الدلائل تشير أنه وأخيراً تم العثور علي الجبانة الملكية الخاصة بسنفرو والمثوي الاخير له وهو علي الأرجح الهرم الأحمر, وشمل ذلك أيضاً الإعتقاد بان الملكة “حتب حرس” زوجته دفنت هناك هي الأخري, إلا أنه مع بداية القرن العشرين حدث ذلك الكشف الذي سيقلب الأمور رأساً علي عقب وسيغير كل شيء.
العثور علي مقبرة الملكة حتب حرس
في عام 1902 بدأت بعثة جامعة هارفارد العريقة بالشراكة مع متحف بوسطن للفنون وتحت رئاسة عالم الآثار الأميركي”جورج رايزنر” أعمال التنقيب في هضبة الجيزة والتي كانت واحدة من اهم البعثات في تلك المنطقة وقاربت اعمالهم الخمسة وعشرون عاماً من التنقيب المستمر والتوثيق لكل خطوة قاموا بها وكل كشف إستطاعوا تحقيقه.
وفي مارس من عام 1925 وبينما كان رايزنر في الولايات المتحدة كان أحد مصوري البعثة يثبت حامل الكاميرا لألتقاط احد الصور فغاصت أحد الأرجل في الأرض والتي كان من المفترض أنها من الحجر الجيري فإذا بهم يجدوا طبقة من الجص بدلاً منها, ومن هنا عرفوا بدون أدني شك بوجود شيء ما – مخفي عن عمد – أسفل تلك الطبقة.
بعد إزاحة تلك الطبقة ادرك العاملون بالمنطقة وقتها أن ذلك البئر عميق جداً وقد بلغ طوله في النهاية أكثر من سبعة وعشرون متراً, وقد كان البئر بالكامل مردوماً بالحصي والذي تركه المصريون القدماء عن عمد لإغلاق البئر, كأحد عادات الدفن وضمان عدم إنتهاك الدفنة.
إستغرق إزالة الرديم والحصي من ذلك البئر إسبوعاً متواصلاً من العمل كل يوم وكان العمل بقيادة الريس أحمد سعيد كبير عمال البعثة, ومع الوصول لنهاية البئر وجدوا أنفسهم امام حائط يؤدي إلى غرفة وما أن كسروا ذلك الحائط وجدوا أنفسهم أمام مفاجأة سارة جداً.
كنوز الملكة حتب حرس
بداخل تلك الغرفة تم العثور علي العديد من القطع الفريدة والتي يقف الزائر أماها مذهولاً في المتحف المصري ما بين حليها الفريدة الفضية المطعمة بأشكال لفراشات غاية في الرقة, وكذلك سريرها المطلي بالذهب وكرسيها وخيمتها المتنقلة وحتي محفتها التي يتم حملها علي الأكتاف, ويلي ذلك الذهول حيرة وأحاسيس عديدة فلا يردي المرء بما يعجب أكثر من الآخر , هل يعجب بما وصل إله المصريون القدماء من تقدم ورفاهية شخصية وثراء في ذلك الوقت أم يعجب بعجائب صنعة المصري القديم وتفوقه في تلك العصور المبكرة.
وجد فريق العمل تلك الكنوز مكدسة في تلك الغرفة تحت الأرض وفي وسطها تابوت بديع الصنعة من الألباستر (المرمر) إعتقدوا بوجود مومياء الملكة بداخله مع عثورهم أيضاً علي الأواني الكانوبية ( الأوني التي كانت توضع بها الاحشاء من كبد ومعدة وامعاء ورئتين بعد إستخرجها من الجسد وتحنيطها بشكل منفصل لكي لا يفسد الجسد), وبعد شهر من التنقيب وفي ابريل من نفس العام تم تأكيد أن تلك المقبرة تخص الملكة “حتب حرس الأولي” زوجة الملك “سنفرو” وأن مومياؤها لا بد أن تكون موجودة بداخل ذلك التابوت.
ومع حلول عام 1927 كانت البعثة على موعد مع فتح تابوت الملكة للكشف عن مومياؤها, ووقتها ومع كل التوقعات العظيمة إذا بالتابوت يتم فتحه ليجدوه فارغاً تماماً ولا يوجد به أى مومياوات !!
لغز مومياء الملكة حتب حرس؟
في معظم الأحيان عندما تكتشف البعثات الأثرية دفنات لملوك او حتي لبعض من طبقة النبلاء أو العامة , فإن ما خف وزنه وغلا ثمنه كان هدف اللصوص الأول الذين يتركوا خلفهم في الأغلب الفخار والأشياء التي ليس لها قيمة مادية ولربما ينتهكوا المومياء لإنتزاع ما بها من تمائم ثم يتركونها وشأنها حتي لو جعلوها في أسوأ حال ممكن ولكن علي الأقل يتبق شيء, إلا أنه وفي تلك الحالة فإن كل شيء ثمين موجود والمومياء مفقودة !
من الواضح أن تلك الدفنة تمت بتلك الكيفية, أى أن المصريون القدماء قد دفنوا تلك المقتنيات ووضعوا التابوت بداخل تلك الغرفة بدون وجود مومياء بداخله, لماذا لم يتم وضع المومياء في ذلك التابوت؟ وأين ذهبت مومياء الملكة؟
وقد قدم ” جورج رايزنر” تفسيراً لذلك وقتها , إستنتج رازينر أن الملكة قد تم دفنها في الأصل في جبانة “دهشور” جوار زوجها “سنفرو” ومن الواضح أن تلك الدفنة في الجيزة ما هي إلا إعادة دفن, فتلك الدفنة عبارة عن بئر فقط في قلب الصخر يوحي بالسرية وبحدوث شيء ما, إستنتج رايزنر ان ما حدث هو أن الملكة قد دفنت بجوار زوجها في دهشور, ومن ثم تم إنتهاك قبرها بل وتدمير مومياؤها .
وهنا وجد المسؤلون عن الجبانة أنفسهم في موقف لا يحسدوا عليه فقاموا بإعادة دفن الملكة في تلك الدفنة السرية بما تبقي من كنوز المقبرة الأصلية وأن ذلك تم في عصر “خوفو” الذي نقل أمه لتدفن بجواره, وقد ظل ذلك الإعتقاد مقبولاً لدي الكثير من العلماء لفترة طويلة حتي ظهرت بعض الأدلة لتكشف المزيد من الأسرار في منتصف التسعينيات.
الهرم المفقود
بجوار هرم الملكة خوفو يوجد أربعة أهرامات صغار, ثلاثة منهم لا يزالوا يحتفظوا بكتلتهم الرئيسية وواحد رابع مهشم تماماً, حملت تلك الأهرامات الصغيرة أرقام G1a, G1b, G1c, G1d وحرف G يشير لهضبة الجيزة ورقم 1 يشير للهرم الأكبر.
وقد كان العلماء يعتقدون في البداية أن الهرم الذي يحمل رقم G1a يعود للملكة “ميريت إيت اس” إحدي زوجات الملك “خوفو” إلا أنه وفي منتصف التسعينيات خرج عالم الآثار الأميركي الشهير “مارك لينر” بنظرية أخري, فبناء علي بعض الأدلة التي عثر عليها خلال عمله هناك فقد أعاد نسب ذلك الهرم تحديداً للملكة “حتب حرس” ام خوفو, وهنا نشات مشكلة أخري وهي أنه إذا كان هذا الهرم يخص الملكة ومخصص لدفنها فماذا يعني وجود ذلك البئر الذي عثر بداخله علي كنوز الملكة؟
خرج مارك لينر بتفسير لذلك الأمر وهو أن ذلك البئر كان الدفنة الأصلية للملكة وأن الملك “خوفو” إبنها قام بتشييد ذلك الهرم لدفن أمه وعند إكتمال ذك الهرم تم نقل مقتنيات الملكة وكذلك مومياؤها إليه وأنتلك الأشياء التي تم العثور عليها في البئر تم تركها بعد دفن الملكة بالهرم لعدم حاجتهم إليها.
ومع ظهور تلك المعلومات علي السطح وفرضية “مارك لينر” ظهرت آراء أخري تقول بأن ذلك البئر كان الدفنة الأصلية للملكة اونه كان مقرراً أن يكون له جزء فوق الأرض (لربما هرم) مخصص للملكة , بينما يذهب زاهي حواس إلى أن الهرم G1a هو الدفنة الأصلية للملكة وأن البئر الذي تم العثور علي الكنوز بداخله تم عمله بسبب سرقة مقتنيات الملكة من الهرم.
وعلي الرغم من الجهد الحثيث وعشرات السنوات من الحفائر في هضبة الجيزة إلا أنه لم يتم حتي هذه اللحظة العثوي علي مومياء الملكة “حتب حرس” بل ولم يتم وضع تفسير قاطع لعدم وجود مومياؤها سواء بداخل الهرم المنسوب لها أو بئر الدفن الذي تم العثور علي كنوزها بداخله.
وعلي أية حال فقد فازت مصر في النهاية بذلك الكشف والذي يعرض بالمتحف المصري بمحتوياته كاملة بينما إكتفي متحف بوسطن للفنون بصناعة نسخة طبق الأصل من بعض القطع الرئيسية التي تم العثور عليها في المقبرة.