يعد الأمير “خع-إم-واست” واحداً من أبرز شخصيات عصر والده الملك “رمسيس الثاني” فقد بدأ حياته في سلك الجندية وشارك في المعارك الكبري وعلى رأسها معركة “قادش” الشهيرة ومن ثم “دابور” وغيرهم, ومن ثم إلتحق بالسلك الكهنوتي للإله بتاح في مدينة منف حتي أصبح كبير كهنة منف ومشيد سرابيوم سقارة, ولم يقتصر دور ذلك الأمير علي هذا فحسب فيعده علماء الآثار أول عالم مصريات في التاريخ كما أن مثواه الأخير يعد لغزاً حتي الآن.
من هو الأمير “خع إم واست”؟
هو إبن الملك “رمسيس الثاني” من زوجته “آست نفرت” والرابع من حيث ترتيب الأبناء وكذلك فهو ثالث ولي عهد للملك رمسيس الثاني قبل أن يتوفي هو الآخر في حياة والده ويتولي من بعده ولاية العهد أخاه الأصغر “مري إن بتاح” (مرنبتاح) ويصبح بالفعل ملكاً لمصر بعد وفاة “رمسيس الثاني”.
نسل خع إم واست
ون المثير للإعجاب أن نسل ذلك الأمير قد بقي في خدمة الدولة المصرية لفترة بلغت ستون عاماً منذ وفاة “رمسيس الثاني” والد “خع إم واست”, فما نعرفه عن عائلة ذلك الأمير أن إبنه الأكبر كان يدعي “رمسيس” وقد خدم ذلك الأمير ككاهن “سِم” في معبد بتاح (درجة كهنوتية) مثلما بدأ والده مشواره قبله إلا أن هذا هو جل ما نعرفه عنه, أما إبنه الثاني فكان يدعي “حوري” والذي نجح في تولي منصب “كبير كهنة بتاح” في منف مثل والده من قبله مثلما تخبرنا آثاره وعلي رأسه تابوته الشهير في متحف برلين.
ومن المثير للإهتمام أن “حوري” هذا قد إنجب إبنا آخر يدعي “حوري” تعرفه الكتب بإسم “حوري الثاني” وقد تفوق “حوري” علي والده فقد أصبح وزيراً لمصر (منصب يعادل رئيس وزراء حالياً) في عصر الملوك :سيتي الثاني, سا بتاح, تا وسرت, ست نخت, وحتي العام السادس عشر من حكم الملك “رمسيس الثالث” ليظل أحفاد رمسيس الثاني في سدة حكم الدولة المصرية لجيلين بعد وفاته, أما آخر أبناء خع إم واست فكانت سيدة تدعي “آست نفرت” لا نعرف عنها الكثير كأخويها.
أول عالم مصريات في التاريخ
يعتبر علماء المصريات الأمير خع إم واست أول عالم آثار في التاريخ وأشهر مرمم للآثار في تاريخ مصر, فقد بدأ في عصر والده “رمسيس الثاني” مشروعاً ضخماً لإنتشال وترميم آثار أسلافهم من الملوك الذين جلسوا علي عرش مصر, ففي عصر رمسيس الثاني كان هناك العديد من المباني والمنشآت تعد أثاراً في عهده, فعلي سبيل المثال فإن أهرمات الجيزة كانت تبلغ من العمر ما يقرب من 1200 عام.
كان مشروع خع إم واست لترميم الآثار علي نطاق واسع فقد إتجه إلى جبانة “سقارة” وقام بترميم هرم “زوسر” المدرج, وكذلك مصطبة “شبسسكاف” والمحموعات الهرمية للملوك “أوناس”, “ساحو رع”, “ني وسر رع”, ومن ثم إتجه إلى هضبة الجيزة وقام باعمال الترميم وتذكر لنا الروايات وعلى رأسها “هيرودوت” انه كانت هناك بطاقة تعريفية (نقش) مكتوب علي هرم “خوفو” لربما تركه خع إم واست, وكذلك النقش الموجود علي الهرم الأصغر (هرم من كاوو رع) قد حرره أيضاً الأمير خع إم واست.
كبير كهنة الإله ” بتاح” ، كاهن ” سم” الأمير ” خع إم واست” ،
خلد ذكر الملك (فلان)، والذي لم يكن اسمه منقوشًا على هرمه”
وكان ذلك النص شبه ثابت في عمليات ترميم الأمير والذي يعتبر أول بطاقات تعريفية في التاريخ, بالإضافة إلى ترميم الآثار العظيمة فقد قام خع إم واست أيضاً بانتشال التماثيل وترميمها وأعاد إحياء ذكري أصحابها وظل ذلك المشروع فعالاً حتي مع ترقية الأمير لمنصب “كبير كهنة بتاح” ولولا تلك الترميمات لما بقي الكثير من تلك الآثار.
ولم يكتف خع إم واست بعمليات الترميم فحسب ولكنه أعاد إحياء ذكري أصحاب تلك الآثار, فعلي سبيل المثال كانت المعابد الجنائزية في مصر القديمة يتبعها أوقاف مخصصة للإنفاق علي العقيدة الجنائزية للملك المتوفي أو حتي النبيل, ومع مرور السنوات وتوقف الإمدادات تتوقف الشعائر الجنائزية بل أن تلك الآثار تبتلعها الرمال, ومع ترميم خع إم واست لتلك الآثار فهو لم ينتشلها فحسب ولكنه أعاد تأسيس الشعائر الجنائزية مرة أخري لأصحاب هذه الآثار أى أن عصر الملك رمسيس الثاني قد شهد عملية إستدعاء علي نطاق واسع لذكري الملوك السابقين بل وتدوين وتوثيق لعصورهم.
إبن رمسيس وإبن خوفو
ومن أشهر التماثيل التي رممها الأمير “خع إم واست” هو تمثال أكبر أبناء الملك “خوفو” والمدعو “كا وعب”, وقد كان “كا وعب” كاهناص هو الآخر وعلي ما يبدو فإن خع إم واست كان معجباً به بشكل خاص, فقد تم العثور علي تمثال الأمير كا وعب ومنقوش علي قاعدته نقش صنعه خع إم واست يقول: كبير كهنة الإله بتاح, كاهن سم, إبن الملك “خع إم واست الذي كان سعيداً للعثور علي تمثال “كا وعب” إبن الملك وإنتشله من الحطام.
ومن ثم يذكر أباه الملك خوفو ويذكر ترميمه لذلك التمثال خاتماً النص بقوله أنه كان يحب الآثار حباً عظيماً والنبلاء الأسلاف وأعمالهم العظيمة مليون مرة.
رمسيس وتهمة سرقة آثار ملوكاً غيره
ومن المثير للإهتمام أن عمليات الترميم التي قام بها “خع إم واست” قد تسببت في إشكالية مختصرها أن الملك “رمسيس الثاني” كان يسرق آثار ملوكاً غيره وينسبها لنفسه, وهو ما تنفيه النصوص التي تركها الأمير خع إم واست فيذكر بوضوح أن ما قام به هو عملية ترميم ووضع إسم ابيه عليها, وكذلك فإن النصوص المصرية القديمة قد فرقت ما بين لفظ “شيد – أنشأ” وما بين لفظ “رمم”, ومع ذلك فإن هناك إشارات لإعادة إستخدام أحجار قديمة مثل أحجار المجموعة الهرمية للملك “من كاوو رع” وذلك ولانها علي ما يبدو كانت أطلالاً خربة مع عصر الملك “رمسيس الثاني” فلم يكن هناك أي طريقة لترميمها.
أين دفن الأمير خع إم واست؟
“كاهن “سم” الأمير “خع إم واست” يقول:
يا كهنة “سم”، يا كبار الكهنة، ويا كل كاتب كبير،
ويا كل من يشاهد هذا المعبد الذي بنيته محفورًا في الجدران الحجرية،
تطوعًا مني بشيء عظيم مفيد،
لم يصنع مثله من قبل،
ومن يحترم غيره يكافأ ويسعد!
تذكروا اسمي وأنتم تحكمون مستقبلاً على هذه الأعمال،
كافئوا العمل الصالح بماهو أهله، ولتفعلوا مثله.
كان ذلك النص مدوناً علي جدران المعبد المكرس للعجل “حِبو” أو كما نعرفه اليوم “العجل أبيس” وهو معبود سرابيوم سقارة, وقد كان ذلك العجل هو تجسيد الإله بتاح والحيوان المقدس لذلك الإله, ويعكس ذلك النص إفتخار الأمير بنفسه وكذلك بأعماله وحث من سياتون في المستقبل علي أن يفعلوا المثل.
وقد كان الأمير باعتباره كبير كهنة الإله بتاح مكرساً حياته لخدمة ذلك الإله وهو الذي شيد السرابيوم لدفن عجوله المقدسه, وهو ما يطرح السؤال: هل دفن الأمير بالقرب من السرابيوم أو حتي بداخله؟
وقد ظل ذلك السؤال غامضاً حتي منتصف القرن التاسع عشر, ومع ظهور عالم الآثار الفرنسي “اوجوست مارييت” علي الساحة وقع علي إكتشاف مهم كشف بعضاً من غموض وفاة هذا الأمير النجيب.
قام مارييت باعمال الحفائر في سقارة فيما بين الأعوام 1851-1853 وكشفت أعمال الحفائر عن السرابيوم لأول مرة والذي أصاب مارييت بالذهول , فهي مجموعة أنفاق تحت الأرض بها دفنات فيما يشبه الكهوف يقبع بداخل كل تجويف منهم تابوت صخري غاية في الضخامة, وقد كان السرابيوم عندما إكتشفه مارييت هو نتاج ما صنعه خع إم واست ومن ثم أكمله الملوك من بعد عصر رمسيس الثاني وحتي العصور اليونانية الرومانية علي مدار ما يقارب من ألف عام.
قام مارييت بتركيز جهوده علي الجزء الأقدم من السرابيوم والخاص بالأمير خع إم واست, وقد عثر علي مئات من لوحات القرابين والمخصصة للعجل أبيس, قام بالإستيلاء عليها جميعا وهي معروضة الآن في متحف اللوفر, ونظراً لإحساس مارييت بان وقته ضيق وصعوبة الحفائر في تلك المنطقة فقد قام بإستخدام الديناميت ليفجر بعض التوابيت, ليكتشف أن اللصوص القدامي قد قاموا بزيارة المكان قبله بآلاف السنين, ومع نهاية النفق وجد مارييت نفسه أمام صخرة ضخمة إنهارت من أعلي لتسد النفق, كان من الواضح أن اللصوص لم يصلوا لتلك النقطة ولم يتجاوزوا لما بعد تلك الصخرة, فاتخذ قراره بإستخدام الديناميت ليتجاوز تلك الصخرة.
كنز الأمير خع إم واست
بعد إزاحة الصخرة عن الطريق وإبعاد حطامها عثر مارييت علي تدفنة لم تمس بها تابوت سليم, إحتوت الدفنة علي العديد من المقتنيات الثمينة من تمائم وقلادات وحتي تماثيل أوشابتي (تماثيل تمثل خدم المتوفي في العالم الآخر), قام مارييت بفتح التابوت ليجد بداخله مومياء آدمية وعليها قناع ذهبي !
حملت التمائم والكنوز إسم الأمير المفقود خع إم واست وكان القناع يشبه إلى حد ما هيئة تماثيل الأمير التي تم العثور عليها.
ظن مارييت أنه عثر أخيراً علي قبر ذلك الأمير المشهور, وبعد كشفه بوقت قصير تم فقد المومياء في ظروف غامضة لم تذكر السجلات عنها شيئاً, إلا أن كشف مارييت لم يكن القول الفصل في مكان دفن الأمير خع إم واست, فالكشوفات الأثرية التي تلته عثر فيها علي دفنات مشابهة بنفس الأسلوب, وكانت المومياء عبارة عن راتنج عطري مخلوط ببعض العظام ومن ثم تكفينها ووضع قناع آدمي فوقها, وهو ما يعني أن العجل لم يحنط بالكامل في بعض الأحيان بل كان يؤكل لحمه كنوع من التبرك.
ومن ثم ومع مزيد من البحوث كشف عالم الآثار الإنجليزي بجامعة ليفربول “إيدان دودسون” أن المومياء التي عثر عليها “مارييت” تخص العجل أبيس رقم 14 , وهو ما يشير إلى أن تلك الدفنة لربما كانت لفتة من الأمير نفسه ليعبر عن إمتزاجه بالعجل المقدس الذي هو أقوي رموز الإله بتاح, ذلك الإله الذي كرس الأمير حياته لخدمته في مدينة منف, ولا يزال لغز مكان دفن الأمير خع إم واست لغزاً لم يكشف عنه الزمن حتي الآن.