إن لم يسمع بها أحد فهو بالتأكيد يعرف اسمها: معركة قادش. أحد فصول كتاب مفاخر الجيش المصري العظيم على مر العصور, تلك المعركة التي تغني بها الشعراء في تاريخ مصر القديم حتي أحمد شوقي حديثاً، متي وكيف حدثت معركة قادش؟ ومن هم الحيثيين الذين حاربهم الجيش المصري؟
أوقات صعبة
يا إلهي الطيب! الحاكم الجبار ومنقذ مصر في الحروب.. إننا نقف وحيدين في منتصف المعركة، هجرتنا مشاتنا وعجلاتنا الحربية، ماذا تبقى لتنقذهم؟, فلنكن واضحين،
أنقذ نفسك وأنقذني يا “وسر ماعت رع”.
وسط الغبار والدم وصوت صرخات جنود الجيش المصري على أرض المعركة كانت هذه كلمات “مننا” قائد عجلة الملك رمسيس الثاني الحربية وهو يخاطب الملك حينما حوصر الجيش المصري وكاد رمسيس نفسه يفقد حياته.
ولكن دعونا نعود للوراء قليلاً لنعرف ما الذي أدى لوصول الأمور لتلك النقطة.
مصر: الإمبراطورية
مع تولي إخناتون عرش مصر ورث مسؤليات كبيرة كان أهمها الإمبراطورية مترامية الأطراف التي بدأ ندائها الملك “تحتمس الأول” ورسخها وأسسها حفيده “تحتمس الثالث” أول إمبراطور فى تاريخ مصر, وأشهر أباطرة العالم القديم الذي أطلق عليه الأوربيون إسم: نابليون الشرق فى مقارنة مضحكة بين حديث وقديم.
مع وفاة تحتمس الثالث خلفه على العرش إبنه أمنحتب الثاني, ثم حفيده تحتمس الرابع ثم حفيده الأكبر أمنحتب الثالث وكلهم حافظوا على أركان الإمبراطورية المصرية والتي كانت ذروتها فى عصر أمنحتب الثالث الذي إستطاع أن يصل إلى أقصى أمتداد للنفوذ المصري عن طريق السلم فى أحيان كثيرة.
تغيرت الأمور مع تولي امنحتب الرابع “إخناتون” عرش مصر خلفاً لأبيه أمنحتب الثالث، وإتبع إخناتون سياسية مختلفة تماماً عن أسلافه فقد كان شغله الشاغل هو الدعوة الدينية التي قام بها فى أرجاء المعمورة وتجاهل أو تناسي دهاليز السياسية بما فيها الشئون الخارجية لمصر, وطوال 17 عاماً جلس فيها على عرض مصر أخذ النفوذ المصري يتقلص فى آسيا رويداً رويداً مع تجاهل إخناتون التام لها حتى باتت مصر نفسها مهددة مع نهاية عهده، تزامن مع ذلك تغير خريطة العالم القديم نفسه ووقوع الوهن فى حلفاؤها فى آسيا مثل مملكة “ميتاني” الشهيرة، وقد وصل الأمر فى عصر إخناتون إلى وصول الإستغاثات واحدة تلو الأخري من الممالك التابعة وحلفاء مصر فى آسيا إلا أنها لم يتم الرد عليها وبدأت تلك الممالك فى التساقط واحدة تلو الأخري بينما مصر لا تحرك ساكناً.
مع وفاة إخناتون إزدادت الإضرابات خارجياً وداخلياً وتوالي على عرش مصر مجموعة من الحكام كان أبرزهم الملك المجهول “سمنخ كا رع” ثم توت عنخ آمون إبن إخناتون والذى كتبت شهادة وفاته نهاية نسل الإمبراطور تحتمس الثالث وكذلك نهاية الإمبراطورية المصرية.
كيف بدأ صراع مصر مع الحيثيين؟
الحيثيين هم عرق قديم مندثر سكن الأناضول قديماً وقد أسسوا عدة ممالك فتية ولكنها لم ترق لأن تنافس أساطين وإمبراطوريات العالم القديم، ومع إستقرار الحيثيين فى عاصمتهم “خاتوشا” ( بوغاز كوى فى تركيا حالياً) وجلوس ملكهم شبيلوليوما على عرش مصر بدأت تلك المملكة تأخذ طابعاً مختلفاً تحولت معه فى فترة قصيرة إلى إمبراطورية وكيان يهدد حتي الإمبراطورية المصرية نفسها.
في خلال فترة الفوضي التي أعقبت وفاة إخناتون حتي فترة توت عنخ آمون نجد أن الوثائق الحيثيية تتحدث عن أن ملكة مصر أرسلت لملك الحيثيين “شبيلوليوما” تقول له بانها خائفة ولا تريد أن تتزوج واحداً من رعاياها وتطلب من شبيلوليوما أن يرسل لها إبنه لتتزوجه.
على الأرجح فإن تلك الملكة المصرية هى “عنخ سن آمون” زوجة الملك “توت عنخ آمون” وأن تلك الواقعة قد حدثت بعد وفاة الملك توت عنخ آمون نفسه، وعلي أية حال فإن الوثائق والآثار المصرية صامتة تماما بهذا الصدد كما ان التقاليد المصرية العتيدة كانت تمنع زواج أميرات القصر الملكي بأجانب وشهد على ذلك مراسلات مصر مع آسيا منذ عصر تحتمس الثالث.
على أية حال فإن الوثائق الحيثية ذكرت تلك الواقعة وأن شبيلوليوما قد أرسل إبنه الأمير “زانانزا” ليتزوج الملكة ولكنه قتل فى نهاية الأمر.
ويعزي علماء المصريات أن هذا كان الفتيل الذي أشعل الصراع بين مصر والحيثيينـ ذلك الصراع الذي إستمر لأكثر من 75 عاماً في إنتظار من يحسمه.
معركة قادش الأولي
توالي على عرش مصر قادة عسكريين بعد توت عنخ آمون ومنهم الملك “آى” الذي خلقه على العرش ثم قائد الجيش “حور محب” الذي بدأ فى إصلاحات وتشريعات موسعة لإعادة النظام بداخل مصر وأعقبه على العرش رفيق سلاحه “رمسيس الأول” والذي سيكون توليه للعرش هو نقطة التحول التي ستعيد لمصر أمجادها.
لم يحكم رمسيس الأول طويلاً ففترة حكمه لا تتجاوز سنتين على الأكثر، ولكنه ترك على عرش مصر واحد من أعظم ملوكها وهو إبنه “سيتي الأول”.
ورث سيتى منصب قائد الجيش من والده وتولي قيادة الحملات في فترة حكم والده لإستعادة أمجاد مصر فى آسيا, وقد بدأ سيتي أول فصول الصراع مع الحيثيين عندما قام بحملة موسعة على آسيا إستطاع عن طريقها إخضاع مملكة امورو وضمها للنفوذ المصري مرة أخرى ثم أتبع ذلك بالإستيلاء على قادش والإنتصار على الحيثيين.
كانت سياسية العالم القديم قد تغيرت وأصبح الحيثيون وقتها قوة لا يستهان بها لذلك قام ملكهم وقتها المدعو “موتالي” بالرد علي سيتي وأضحى الوضع فى شد وجذب بين الإمبراطورتين حتي إنتهي – وعلى ما يبدو- بتوقيع إتفاقيه (لربما معاهدة؟) بين البلدين.
وقد خرجت كل إمبراطورية منهما بمكاسب مرضية نوعاً ما أقرتها ظروف وسياسة العالم القديم وقتها، ولكن هذا لم يكن يعني سوي تأجيل فصول الصراع إلى حين إشعار آخر.
رمسيس والحيثيين
مع وفاة “سيتى الأول” خلفه على عرش مصر إبنه “رمسيس الثاني” أشهر حكام مصر في تاريخها، قضى رمسيس السنوات الثلاث الأولي من حكمه فى ترتيب أوراقه الداخلية والتخطيط لمشاريعه الإنشائية من معابد واماكن مقدسة، وقد ورث رمسيس من والده مهارت وفنون القتال غير أن رمسيس يختلف عن والده وجده فقد تلقي تربية ملكية منذ سن مبكرة أهلته ليستوعب الكثير من الأمور بسرعة شديدة.
وعلى ما يبدو فإن رمسيس لم يكن راضياً عن الوضع الذي آلت له الأمور خارجياً وكان من الواضح أنه لم يكتف بما فعله أبوه، ومع حلول العام الرابع من حكمه قرر رمسيس بدء الحملات العسكرية مرة أخري.
كانت أهم نقاط الإرتكاز فى الصراع الإمبراطوري هي “أمورو” وهي تلك المملكة التي كان ولاء ملوكها يتأرجح بين مصر والحيثيين حسب الظروف، وفي فترة حكم رمسيس كان من الواضح أن ملك أمورو المدعو بنتشيما ولاؤه وتحيزه للحييين واضحاً فقرر رمسيس أن يبدأ المناوشات هناك.
خاض رمسيس الطريق الذي خاضه الجيش المصري من قبله فمر عبر حصن ثارو وطريق حورس الحربي متجهاً إلى أرض كنعان (غزة حالياً) ثم أتبعها بصور وجبيل وإستولي على عرقا فى لبنان وأعاد تمركز قوات تابعة للجيش المصري هناك تدعي قوات “نعرن” سيكون لها شأناً كبيراً فى حروب رمسيس.
ثم أتبع رمسيس ذلك بالهجوم على أمورو التي لم يملك بنتشيما ملكها من أمره شيء وبوغت بالهجوم المصري فسقطط أمورو مرة أخري فى يد مصر، ولم يكتف رمسيس بذلك بل وعد بالعودة مرة أخري للإستيلاء على قادش نفسها.
الطريق إلى قادش
والآن فإن العدو الخسيس من “خاتي” جاء وحوله كل البلاد الأجنبية حتى نهاية حدود البحر، كل بلاد “خاتي” قد أتت ومعها “نهران” و”إرثو” و”أردني” و”كشكش” و”ماسا” و”بداسا” و”أرونت” و”قرقيشا” و”لوكا” و”كيجودن” و”قرقميش” و”عكرث” و”قدى”، وكل أرض نجس و”موشانت” و”قادش”، لم يترك بلدًا إلا وأحضره، كل هذه البلاد البعيدة ورؤساؤها كانوا معه، وكل منهم معه مشاته و50 من عجلاته الحربية في عدد مهول لا مثيل له، غطوا الجبال والوديان وكأنهم الجراد، لم يترك ذهبًا ولا فضة في بلاده، جردها من كل ممتلكاتها ليعطيها لكل تلك البلاد لتحارب معه.
كان هذا هو النص المصري الذي تحدث عن تجهيزات ملك الحيثيين “موتالي” بعد حملة رمسيس على أمورو، كان من الواضح أن موتالي يريد حسم الصراع مرة أخيرة وإلي الأبد فلم يكتف بحشد جيوش بلاده وإنما أرسل لكل الممالك المتحالفة معه لضمها إلى الصراع وكذلك فإنه إستمال آخرون بالمال ليحاربوا فى صفه.
وعلى الجانب الآخر فكان “رمسيس” يعلم جيداً أن ردة فعل الحيثيين ستكون مساوية للحدث، فقام هو الآخر بتجهيز العدة للحرب.
في حالة الجيش المصري فإن خيار الحرب كان أصعب فقادش تبعد كثيراً عن مصر أى أن على الجيش المصري قطع مسافة تقارب ال 1600 كيلو متر وسيعني ذلك وجود خطوط إمداد ضخمة وتموين هائل يكفي القوات, كما أنه يفرض وجود نقط إرتكاز وتعبئة علي طول الطريق وهو الذي كان رمسيس يجهز له مع حملته السابقة.
قام رمسيس بتقسيم الجيش المصري إلي أربعة كتائب رئيسية يتكون كل منها من خمسة آلاف مقاتل تقريباً
كتيبة آمون: وهي كتيبة تم حشدها من مدينة طيبة.
كتيبة بتاح: تم حشدها من مدينة منف.
كتيبةرع: تم حشدها من عين شمس.
كتيبة ست (سوتخ): تم حشدها من مسقط رأس رمسيس الثاني فى شرق الدلتا.
وتخبرنا الوثائق المصرية أن جيش الحيثيين قد إقترب من الأربعون ألف مقاتل بينما الجيش المصري قوامه عشرون ألف مقاتل بكتائبه الأربعة.
كان رمسيس على رأس الجيش يقوده بنفسه كما فعل ملوك مصر من قبله، وقد رافقه فى تلك الحملة العديد من ابناؤه ومنهم إبنه البكري الأمير : آمون حر خبش إف, كذلك إبنه الأشهر : خع إم واست ومعهم أخوهم الأمير با رع حر ونم إف الذي سيحمل لقب أشجع شجاعن الجيش لاحقاً بعد قادش.
إصطحب رمسيس معه أحد الوزراء وقادة الجيش وكبار الضباط وكذلك بعض أفراد الحاشية والقصر الملكي وحتي الحريم، وقد كان قائد عجلة رمسيس الحربية في يوم قادش هو شخص يدعي “مننا” كما رافقه أيضاً حامل الكؤوس الذي لم تذكر النصوص إسمه، وكان حول رمسيس الحرس الشخصي الخاصين به وهم أشبه بفرقة كوماندوز صغيرة تكونت من مصريين وضمت معها أيضاً جنود الشردانا المرتزقة الأجانب.
فلتتحرك القوات
بدأت مسيرة الجيش المصري من العاصمة “بر رعمسو” (قنتير حالياً بمحافظة الشرقية) والتي إتخذها رمسيس عاصمة له لقربها من الحدود الشمالية الشرقية وتوجه بالقوات عبر طريق حورس الحربي وقلعة ثارو فى طريقهم المعتاد عبر كنعان والساحل حتي يصلوا إلى قادش.
“والآن فإن جلالته جهَّز مُشاته وعجلاته الحربية والشردانا الذين وقعوا في أسر جلالته، وجلبهم من انتصارات ذراعه القوية، وتم تزويد الكل بالأسلحة، وأعطيت التعليمات لهم، توجه جلالته شمالًا ومعه مشاته وعجلاته الحربية في بداية مبشرة، وفي اليوم التاسع من الشهر الثاني من فصل الصيف، العام الخامس عبر قلعة “ثارو” قويًّا ذا بأس مثل “مونتو” (إله الحرب)، كل الأراضي الأجنبية ترتعد أمامه وزعماؤها يجلبون هداياهم، والمتمردون ينحنون خوفًا من قوة جلالته، عبر جلالته الطرق الضيقة كما لو كان يمشي في شوارع مصر.
وللحديث بقية ,,