من أشهر المصطلحات التى يعرفها الجميع عن حضارة مصر القديمة “كتاب الموتى”، مع وجود مفاهيم مختلفة لتفسير هذا المصطلح تختلف من شخص لآخر.
ولكن ماهى حقيقة ذلك الكتاب؟ وهل هو فعلا كتاباً للموتى؟
هذا ما ساحاول أن أجيب عنه فى هذا المقال بشكل مختصر غير مخل.
كيف ينال الإنسان الخلود فى مصر القديمة؟
كان المصرى القديم يرى أن بعد الموت سيواجه الإنسان أهوالاً ومخاطر لابد أن يتحضر لها، لكى يصل إلى الهدف النهائى وهو الخلود فى مرحلة ما بعد الموت، اتخذ كافة الاحتياطات والتدابير لكى يضمن هذا الخلود بكل طريقة ممكنة.
لكى يخلد الإنسان فى مصر القديمة سواء كان ملكاً او حتى إنساناً عاديا أن يحقق بعض الشروط الهامة، أهمها على الإطلاق هو أن يكون من مقيمى “ماعت”، وهو مفهوم شامل يشمل الفضيلة، الأخلاق، العدل، الحق، الخير، الانتظام الكونى، الاستقرار.
بإختصار “ماعت” هى كل شىء جيد وخير وعكسها هو “إسفت” وتعنى معصية، أو ذنب، أو شر،أو نجس، أو دنس.. الخ.
وقد كانت “ماعت” تمثل فى مصر القديمة على هيئة امراءة يعلو رأسها ريشة نعامة.
أما الشرط الثانى فهو أن يكون الإنسان على دراية بأهوال، ودهاليز وأماكن العالم الآخر لكى يستطيع العبور فيه إلى جنات الخلود والتى كان يسميها المصرى القديم “يارو”، وهى جنة البوص التى يعمل فيها كل إنسان ويكسب مما صنعت يداه.
فى “يارو” الكل متساو والكل يعمل، وجنات “يارو” هى ببساطة إنعكاس لأرض مصر التى رأى فيها الإنسان المصرى القديم أجمل بقاع الأرض، لذلك كانت الجنة إنعكاساً لها.
كذلك لم يقتصر مفهوم الخلود الأبدى عند المصرى القديم عند جنات “يارو” فقط ولكنه كان مفهوماً أشمل وأوسع من ذلك بكثير حيث شمل نعيماً معنويا وأن تكون من الأرواح المبرأة والتى سماها المصرى القديم “آخو”، كذلك الاتحاد مع الإله “رع” فى رحلته من الظلمات إلى النور، ليشرق ومعه المتوفى على العالم مرة أخرى.
يمكننا أن نلخص وبإختصار مخل جداً أن كل هذه التصورات لما بعد الموت كانت نتاج تطور لعقيدة وفكر المصرى القديم لآلاف وآلاف السنين، فلم يكن هناك مفهومًا ثابتًا طوال الوقت عن العالم الآخر فى مصر القديمة ولكن القاعدة الأساسية لنيل الخلود كانت ثابتة دوما، وهى أن يكون الإنسان “ماعتى” وأن يكون على دراية بالعالم الآخر.
كيف ظهر كتاب الموتى؟
كان أول تدوين لنصوص دينية كاملة فى تاريخ الإنسان هو النصوص التى دونت على جدران هرم الملك “اوناس/ ونس” من الأسرة الخامسة فى سقارة، وهو ما أطلق عليه العلماء “متون الأهرام”، وكانت مجموعة من التعاويذ لمساعدة الملك “اوناس” فى العالم الآخر ومرافقة الإله “رع” فى رحلته الشمسية من الشروق إلى الغروب، ليشرق معه ويغرب كل يوم.
كما تضمنت تلك النصوص العديد من التعاويذ وصيغ الدعاء والقرابين لآلهة أخرى، كما أنها ايضا تضمنت فصولا من أسطورة إيزيس وأوزوريس.
استمر هذا التقليد لتتكرر تلك المتون فى أهرامات ملوك أخرى بعد الملك “اوناس”، ليظهر فى أهرامات ملوك الأسرتين الخامسة والسادسة حتى تنهار مصر بثورة شعبية قامت فى اواخر الأسرة السادسة وينتهى عصر “الدولة القديمة”.
بعد نهاية تلك الفترة دخلت مصر فيما سمى “عصر الإنتقال الأول” حيث سادت الفوضى ربوع مصر وإنسمت إلى ممالك صغيرة بدون أى سلطة مركزية، حتى كانت نهاية تلك الفترة بتأسيس ما عرف بإسم ” الدولة الوسطى” وأول ملوكها كان الملك “منتوحتب الثانى”.
مع دخول مصر فترة الدولة الوسطى ظهرت تلك النصوص مرة أخرى بشكل مختلف هذه المرة وهو ما عرف بإسم “متون التوابيت” حيث دونت التعاويذ والنصوص على توابيت الموتى وهو سبب تسميتها بهذا الإسم.
ولأول مرة تظهر تلك النصوص مخصصة لأفراد عاديين غير ملكيين.
مع احتلال الهكسوس لمصر انتهى الدولة الوسطى حتى قام الملك “أحمس الأكبر” بطرد الهكسوس ومع توليه مقاليد حكم مصر كلها دخلت مصر في فترة سميت “الدولة الحديثة” والتى أصبحت فيها مصر إمبراطورية مترامية الأطراف.
الخروج فى النهار
فى مقابر الدولة الحديثة ظهر بجوار الموتى من الأفراد العاديين فى مقابرهم لفائف من البردى تحتوى على تعاويذ تساعد المتوفى فى العالم الآخر، وهو ما أطلق عليه العلماء “كتاب الموتى” أما الإسم الذى أطلقه عليه المصرى القديم فكان “برت إم هرو” ويعنى الخروج فى النهار إشارة إلى خروج المتوفى نهاراً مع الإله رع بعد إجتيازه أهوال العالم الآخر.
اكتسبت تلك النصوص شهرة واسعة مع العثور على بردية الحكيم “آنى” والتى احتوت فى نصوص تعاويذها على منظر المحاكمة الشهير، والذى تكرر فى برديات الخروج فى النهار التى تم العثور عليها لأفراد مختلفين.
المحاكمة الإلهية
صور هذا المشهد “آنى” وزوجته “توتو” وهما يحكمان أمام الإله “أوزير” قاضى الموتى, فى الأعلى نجد 42 قاضيا يمثلان أقاليم مصر وبالأسفل يقف آنى وزوجته أمام الميزان حيث يوزن القلب أمام ريشة “ماعت” بينما يقف الإله “جحوتى\ تحوت” رب المعرفة والقيلم فى مصر اقلديمة يدون نتيجة المحاكمة.
أما عن مقياس المحاكمة فكان الميزان والذى يمسكه الإله “أنوبيس\ إنبو”، فإذا كان قلب المتوفى أخف من ريشة “ماعت” فإنه يجتاز المحاكمة، أما إذا كان أثقل من الريشة فيقوم الوحش الموجود أسفل قدمى الإله “جحوتى” بإلتهام قلب المتوفى وهو ما يعنى فناء هذا المتوفى إلى الأبد فلا ينال خلودا، أى ان عقاب المذنبين فى مصر القديمة كان فناء الروح فى العالم الآخر والنسيان.
الوحش الذى كان يلتهم القلوب أطلق عليه المصرى القديم ” عمعم \ عمعموت \ عمعميت” وهو وحش أسطورى مزيج من فرس النهر والأسد والتمساح، وكلمة “عمعم” هى التى تزال متداولة فى المجتمع المصرى حتى الآن عندما نقول “عم يا جمل \ هم يا جمل”.
قوانين ماعت !؟؟
كما ذكرت سابقاً كان أهم شروط إجتياز أهوال العالم الآخر هو أن يكون الإنسان ماعتياً (يفعل الماعت) وهو ما يظهر فى مرحلة المحاكمة والتى ينكر فيه المتوفى عن نفسه مجموعة من الذنوب تصل إلى 42 ذنباً، مثل أن يقول : أنا لم اسرق، أنا لم أقتل، أنا لم اتسبب بكارثة تصيب الرجال والنساء .. الخ ويختم هذه الإعترافات الإنكارية بأن يقول “أنا ماعتى أنا ماعتى” أى انه فعل الحق فى موضعه.
وكما أصبح “كتاب الموتى” هو الإسم الشائع لمتون “الخروج فى النهار”، أصبحت أيضا نصوص الاعتراف الإنكارى هو قوانين ماعت ال 42 على الرغم من أن هذه المسميات لم يعرفها المصرى القديم ولم يكن مفهومه عنها كذلك، فلا يوجد ما يسمى بقوانين “ماعت” وإنما كان المجتمع المصرى يحكمه العرف المتسق مع “ماعت” بدون قانون واضح ومكتوب، وكانت الإعترافات الإنكارية فقط تشمل أشهر الاشياء السيئة التى ينكر المتوفى فعلها.
وما أن يجتاز المتوفى المحاكمة حتى نجده يعلن البراءة أمام الإله العظيم ليدخل فى مرحلة أخرى من رحلته فى العالم الآخر، والتى تنتهى بالخروج فى النهار مع الإله “رع”.
تطور النصوص الدينية فى مصر القديمة
تطور الأمر وتوسع فى عصور لاحقة للدولة الحديثة وما بعدها لنجد برديات ” الخروج فى النهار” بجوار الملوك وكبار الكهنة وكذلك الأميرات والملكات.
قام العلماء بتجميع تعاويذ هذه النصوص من برديات مختلفة ليتم تجميعها وترقيمها ونشرها لاحقا وهو النسخ المتاحة للجمهور والتى يطلق عليها كتاب الموتى.
فى فترة الدولة الحديثة أيضاً ظهرت تصورات اخرى للعالم الآخر دونت على المقابر الملكية مثل : كتاب الكهوف , كتاب البوابات, كتاب “إيم دوات” (ماهو كائن فى العالم الآخر)، كتاب البقرة السماوية ..الخ وغيرها من النصوص التى تم تعريفها تحت مصطلح “كتب” ولكنها ليست كذلك.
كانت جميع تلك التعاويذ ليست كتباً دينية للاستذكار أو القراءة كما نفعل اليوم، وهى ليست نصوصاً مشابهة لمفهومنا عن الكتب السماوية كالقرآن والإنجيل والتوارة، ولكنها تحتلف تماما فى مفهوم تداولها وإستخدامها
أما مصطلح “كتاب الموتى” فهو المصطلح الخاطىء الخادع الذى جعل البعض يعتقد أنها كتباً دينية للعبادة ، وما رسخ ذلك الإعتقاد هو الإتجاه الشائع الآن بعقد المقارنات بين النصوص الدينية للمصريين القدماء وبين النصوص الدينية الآن فى نفس الإطار.