بين مخلبي تمثال أبو الهول في هضبة الجيزة تقبع لوحة جرانيتيه ضخمة الحجم لربما لا يلاحظها معظم زوار المنطقة، إلا أن تلك اللوحة قد نقلت لنا واقعة من أغرب القصص في مصر القديمة وهي قصة حلم الملك “تحتمس الرابع” وهو أمير شاب عندما أنقذ تمثال أبو الهول يوماً ما فأصبح ملكاً علي مصر.
اسم أبو الهول
وهو التمثال الذي يعتبر رمزاً وطنياً لمصر بأكملها والذى لطالما أثار مخيلة الشعراء والباحثين والمؤرخين وحتي العلماء علي مدار الزمان، فهو في مخيلة العامة أبا الهول “أبو الفزع” حامي هضبة الجيزة, وكان في مخيلة الإغريق أشياء كثيرة منها ذلك الكائن الأسطوري الذي استطاع أوديب هزيمته وتحويله إلي تمثال.
عند النظر إلي اسم ابو الهول لربما يظهر الأمر واضحاً بأن الاسم يعني “أبو الفزع” بينما النصوص المصرية القديمة تخبرنا عكس ذلك كعادة أسماء الأماكن في مصر القديمة فتلك المنطقة قد اشتهرت بمعبد لإله الأرض الكنعاني “حورون” وهو الذي جاء منه اسم “الحرانية” الواقعة بالقرب من المنطقة, فاشتهر ذلك المعبد في العصور المصرية القديمة باسم بر “حول-ن” ثم أصبحت بل حول, بو حول, بوهول, ثم أبو الهول.
أي أن الاسم مشتق من لفظة مصرية قديمة وما فعله العرب فقط هو تحريف الاسم لاحقاً ليصبح أبا الهول وهو ما حدث بنفس الكيفية مع أسماء أماكن مصرية قديمة أخري مثل “بر أوزير” ثم “بو وزير” التي أصبحت أبو صير.
وقد أطلق المصريون القدماء عل تمثال ابو الهول العديد من المسميات طوال العصور المصرية القديمة فنجد أشهرهم هو “شسب عنخ” أى التمثال الحي, ثم “حور إم آخت” (الإله حورس في أفقه) والتي اشتقت منها الكلمة الإغريقية “هرماخيس”، ومن ثم أصبح في الإغريقية “سفنكس” وهو الاسم الذي لا يزال مرتبطاً به بالإنجليزية حتي يومنا هذا.
من نحت تمثال أبو الهول؟
وفي هذا يختلف العلماء والعامة سوياً, فهناك من الخرافات ما لا يصدقه عقل والتي تقول بأن أبو الهول هو نتاج حضارة سبقت حضارة المصريون القدماء بآلاف السنين وأنه كان موجوداً قبل الأهرامات نفسها وأن تلك الحضارة هي حضارة قارة أطلانتس المفقودة, بينما يهذب البعض تلك النظرية الخرافية ويقوم بتسويقها بشكل متمصر فينسب تلك الحضارة للمصرين أنفسهم أى أنه يقول بأن تلك الحضارة الخفية ماهي إلا الامتداد الأقدم لحضارة مصر وأن حضارة مصر أقدم بكثير مما نعرفه, المهم ان هؤلاء كلهم يجمعون علي أن أبو الهول أقدم بكثير مما نعرف عنه.
هناك أيضا من ذهب إلى ما هو أبعد ذلك فزعموا أن أسفل أبو الهول أنفاقاً وممرات سرية, كذلك غرفة خفية أسطورية تسمي صالة السجلات وتحتوي علي سجلات وتدوين لتلك الحضارة المفقودة.
وحتي هذا لم يكن أغرب مما قيل عن أبو الهول فالبعض يذهب من منظور دينيي أن تمثال أبو الهول هو تمثال النبي إدريس أو هو من أشرف علي نحته بنفسه وإن كان هذا أيضاً يتفق بشكل أو بآخر مع مزاعم الحضارة المفقودة التي سبقت حضارة مصر.
وواقع الأمر أنه بالنظر لكل تلك المزاعم (لا يمكن بأى حال من الأحور إطلاق مسمي نظريات عليها) سنجد تميمات مكررة مشتركة , هناك حضارة خفية, تلك الحضارة الخفية سبقت حضارة مصر, تلك الحضارة علمت المصريين علومهم.
بينما الواقع عكس ذلك تماماً فكل أعمال الحفائر الأثرية لم تؤرخ تمثال أبو الهول لما قبل الأسرة الرابعة وذلك بسبب الطبقات الجيولوجية التي لا يوجد بها أى سجلات لتشييد آثار قبل تلك الفترة, كذلك النصوص المصرية القديمة التي تنسبه بشكل ما إلى ذلك العصر وغيرها من الأدلة القاطعة التي مكنت العلماء من تأريخ ذلك الأثر.
ونظرية تلك الحضارة المفقودة تستند إلى ما يظنونه أصل راسخ وهو أن هذا ينصف الحضارة المصرية لانها يؤرخها بأقدم مما يؤرخها علماء الآثار, وهذا نابع من إعتقاد هؤلاء أن العلم مهمته تدمير وتشويه الحضارة المصرية وتقزيمها, بينما الواثع عكس ذلك تماماً فحضارة مصر فقط تقسم لشقين زمنيين رئيسيين وهو عصر الأسرات المصريى الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام, ويسبقها ما قبل الأسرات والممتد لأكثر من عشرة آلاف عام أى أن مجموع تلك السنين يفوق حتى مخيلة هؤلاء.
أبو الهول وعائلة الملك خوفو
يذهب علماء الآثار أن تمثال أبو الهول منسوب للملك خفرع وذلك لعدة أسباب , الأول هو أن تمثال أبو الهول يقع مباشرة أمام مجموعة الملك خفرع الهرمية بل أن تلك المجموعة قد إنحرف تصميمها عن مساره خصيصاً لإستبعاب تمثال أبو الهول الذي كان صخرة ضخمة فى تلك المنطقة لم يقم المصريون القدماء بإزالتها وإنما نحتها لتشكيل ذلك التمثال, كما تبني أصحاب هذا الرأي أيضاً مقارنة ملامح تمثال أبو الهول بتمثال الملك “خفرع” الأشهر والموجود بالمتحف المصري مؤكدين وجود تشابه بين الإثنان.
وهناك آراء أخري تنسب تمثال أبو الهول للملك “خوفو” نفسه وأن مشيده هو الملك “خفرع” تخليداً لذكري والده , وهناك رأي أخير يذهب بان أبو الهول قد شيده الملك “جدف رع” خليفة الملك “خوفو”, أى أن تلك الآراء بناء علي الأدلة الأثرية المتاحة تحوم حول خوفو وعائلته كمشيدي ذلك التمثال.
وعلي أبة حال فإنه حتي هذه اللحظة يذهب الشق الأكبر من العلماء إلى نسب ذلك التمثال للملك “خفرع” كالإحتمال الأكبر.
أما المصريون القدماء أنفسهم فالنصوص تتحدث وبوضوح أن ذلك التمثال هو تمثال إلهي وليس ملك ,اى أنه لإله ذكرته النصوص “أتوم حور إم آخت” حتي وإن كانت ملامح التمثال آدمية لملك بلا شك.
أبو الهول ينهض من تحت الرمال
بسبب تاريخ أبو الهول المفرط في القدم فإنه كان أثراً حتي أيام المصريون القدماء فطبقاً لنصوص ما يسمي “لوحة الحلم” التي أقامها الملك “تحتمس الرابع” من الأسرة الثامنة عشر والتى تعقب بناء أبو الهول بحوالي ألف عام ,ان التمثال كان غارقاً في رمال الصحراء وحالته سيئة, فقام “تحتمس الرابع” بانتشاله ومن ثم ترميمه وإعادته لأبهى رونق من جديد لتكتمل بذلك أبو عملية ترميم منظمة لأبو الهول ولكنها من جهة أخري قد غيرت قليلاً من هيئته الأصلية التي كان يعرفها المصريون القدماء وقت تشييده.
ذقن وكوبرا تمثال أبو الهول
في عام 1816 عثر كافيجليا علي تمثال لرأس حية ضخمة عند قاعدة صدر أبو الهول وهي التي يعتقد أنها حية الكوبرا التي كانت تزين جبينه, بينما كان لأبو الهول ذقناً عثر على جزء بسيط منها لا يزال محفوظاً علي هيئة جزئين في المتحف المصري والمتحف البريطاني وتلك الاجزاء تمثال ما لا يزيد على 13% من الذقن الأصلية.
من كسر أنف أبو الهول؟
لفقدان أبو الهول لأنفه العديد والعديد من القصص والحكايات أشهرها قصة قصف نابليون بونابرت له بالمدافع وهي القصة الغير معقولة جملة وتفصيلاً, ليس لأن نابليون كان ملاكاً فبلاشك أنه أتي لمصر بنية الغزو والإحتلال ولكنه في نفس الوقت جاء معه مجموعة العلماء الذي إهتموا بالبحث والتوثيق والتدوين وليس التخريب وكانت للآثار المصرية أهمية قصوي لديهم, كما أنه هناك لوحة شهيرة رسمت لأبو الهول تسبق نابليون تظهره بلا أنف مما ينفي تلك المزاعم.
أما القصة الأخري فرواها “تقي الدين المقريزي” في “الخطط المقريزية” الشهيرة ويحكي فيها أن شخصاً يدعي “محمد صائم الدهر” زعم ان الناس كانت تذهب لأبو الهول لإستجداءه لقضاء حوائجهم وقد رأي “صائم الدهر” في ذلك كفراً صريحاً فقام بتحطين أنف التمثال ليعتبر هؤلاء الناس ومن ثم تم إعدام صائم الدهر نفسه بتهمة تخريب الممتلكات العامة لاحقاً وفقاً لما رواه المقريزي, ولا تزال تلك القصة مجرد رواية لا يوجد ما يؤكدها بشكل قاطع او ينفيها أحد مع عدم وجود أدلة أثرية تدعم أو تنفي ذلك الإفتراض.
أما الفرضية الأخيرة لفقدان أبو الهول أنفه فهي أنه وببساطة ذلك التمثال منحوت من كتلة رديئة من الحجر الجيري تكالبت عليها عوامل الزمن والتعرية لتسقط في النهاية, وهو ما يظهر علي التمثال في مواضع عدة من تشققات وشروخ حدثت بالفعل بسبب عوامل التعرية.
أما آخر الأبحاث التي تم عملها علي أبو الهول فيذهب “مارك لينر” عالم الآثار الأميريكي الذي عمل ولا يزال يعمل في هضبة الجيزة منذ أكثر من ثلاثون عاماً ألى وجود آثار تدمير ممنهجة بمنطقة أنف أبو الهول مما عاد بالحث للمربع صفر مرة أخري, ولا يزال الموضوع محل جدال وبحث حتي هذه اللحظة.
حلم أبو الهول
تأمل فيَّ يا بنيَّ
إني سأمنحك ملكي على الأرض رئيسًا على الأحياء، وستلبس التاجَ الأبيض
(إله الأرض) الأمير الوراثي، وستكون « جب » والتاج الأحمر على عرش الإله
الأرضمِلْكك في طولها وعرضها؛ وهي كل ما يُضيء عليه الربُّ المهيمن. وطعام
الأرضين سيكون ملكك، وجزية كل الأقطار مدة عهود طويلة سنيها. وإني
مولٍّ وجهي شطرك وقلبي معك، وستكون أنت المحافظ على كل أشيائي؛ لأني
أشعر بألم في كل أعضائي. ورمال المحراب الذي أنا فيه قد غمرتْني، فالتفتْ إلي
لتفعل ما أرغب فيه؛ لأني أعلم أنك ابني وحاميَّ. تأمل! إني معك، وإني قائدك.
عودة إلي قصة الملك “تحتمس الرابع” أول مرمم لتمثال أبو الهول, فنجد أن لوحة الحلم التي شيدها ذلك الملك تحكي لنا قصة أنه عندما كان أميراً في رحلة صيد بالهضبة إستراح في ظل أبو الهول الذي كان بالفعل مغموراً بالرمال فأتي له أبو الهول فى رؤيا وهو نائم يخبره بهويته ويبشره بحكم مصر وسلطانها إن قام بترميمه وإنتشاله من تحت الرمال والمحافظة عليه, وهو ما قام به بالفعل الملك”تحتمس الرابع” فقام بترميم ذلك التمثال محققاً نبؤة إله وإله أسلافه.
وقد ساعدتنا تلك اللوحة علي معرفة حقائق تاريخية غاية في الأهمية متعلقة بأبو الهول ومنها إهمال ذلك التمثال في تلك العصور ووصوله لمرحلة سيئة من الحفظ وقتها, كذلك تغيير بعض سمات التمثال مع عملية الترميم التي قام بها الملك “تحتمس الرابع” وحتي بعض الإضافات التي قام بها للمنطقة وأهمها تنصيب لوحة الحلم بين مخلبي التمثال والأهم من ذلك أن اللوحة نفسها أعطتنا تصورا لشكل أبو الهول نفسه بعد عملية الترميم التي قام بها ذلك الملك.
وقد كان ترميم أبو الهول من قلب الملك “تحتمس الرابع” جزء من مشروعه لتدعيم أركان ملكه وضمان عدم وجود منافسين له علي العرش وعلي الرغم من إعتبار تلك القصة جزء من الدعايا الساسية لهذا الملك إلا أنه قام بالفعل بعملية الترميم ليحفظ لنا ذلك الأثر الفريد الذي شيد في سالف الدهر وسيبقي سنيناً طوال لدهور عدة.
ولما فرغ من كلامه هذا استيقظ ابن الملك سامعًا ذلك … فَهِم كلمات الإله
ووضعها في قلبه، ثم قال (لأتباعه): تعالَوْا دعونا نسرع إلى بيتنا في المدينة،
وإنهم سيحافظون على ما نحضرمن قربان لهذا الإله: ثيران … وكل الخصر
،« وخفرع » … ( أي أوزير في عالم الآخرة ) « وننفر » صغيرة، وسنقدِّم الثناء للإله
… « لآتوم حور إم أخت » والتمثال الذي عمل