بدأت قوات الجيش المصري تتحرك عبر شوارع العاصمة “بر رعمسو” عاصمة رمسيس الثاني فى إستعراض مهيب زلزلت صيحاته القلوب وأسر تنظيمه العقول، ورمسيس على رأس الجيش المصري في أبهى صوره على عجلته الحربية التي يقودها “مننا” بينما رمسيس مرتدياً تاج “خبرش” الأزرق وحوله حاشيته وحرسه الشخصي تتبعه كتائب الجيش الأربعة والتي حشدت من طيبة ومنف وعين شمس والشرقية وقوام كل منها خمسة آلاف مقاتل، كانت خطة السير أن تتحرك القوات من العاصمة متجهة إلى الشمال الشرقي لتعبر طريق حورس الحربي وحصن ثارو ليسيروا على نفس الطريق الذي سار عليه أباطرة مصر من قبلهم اثناء صولاتهم وجولاتهم فى آسيا.
ساروا متجهين إلى قادش ليلاقوا الحيثيين في معركة مصيرية ستحدد مستقبل العالم القديم عالمين بأنهم سيواجهون جيش عرمرم يتجاوز عدد أفراده الأربعون ألف مقاتل حشدهم “موتالي” ملك الحيثيين من كل فج إستطاع إليه سبيلاً فى آسيا سواء بالمال أو بالتحالفات.
نستكمل في هذا المقال فصول معركة قادش أشهر معارك تاريخ العالم القديم.
إلى قادش
تجاوز الجيش المصري الحدود المصرية في خطة واضحة , سيكون المسير برمسيس أولا وحوله حرسه الشخصي يليله كتيبة آمون ثم كتيبة رع ثم بتاح وأخيراً كتيبة ست، وكان هذه الإستراتيجية الغرض منها ضمان تقدم سريع للجيش ووقفات تعبوية سهلة مع طول المسافة بينهم وبين قادش.
تحرك الجيش المصري عبر كنعان ثم بامتداد الساحل فمر بصور ثم جبيل حتي وصل إلى نقطة تمركز مهمة قابل فيها رمسيس قوات نعرن الذين فابلهم فى منذ عدة أشهر فى حملته السابقة وأعاد تمركزهم هناك، وهذه المرة قام رمسيس بإعطاؤهم التعليمات بخصوص دورهم فى المعركة ومن ثم إستكمل المسير عابرا سهول وغابات ووديان آسيا.
لم يلاقي الجيش المصري أى اعتراضات حتي وصل إلى مدينة تدعي “شبتونة” بالقرب من قادش وهناك قام الجيش بأرسال فرق إستطلاع عادت بصيد ثمين للغاية، إثنان من بدو الشاسو ومع معرفة المصريون بولاء هؤلاء للحيثيين قدم لهم جنود وضباط الجيش المصري التحية اللازمة لإستنطاقهم وتم إستجوابهم بمعرفة رمسيس شخصياً
“وجاء اثنان من قبائل بدو “الساشو” وقالا لجلالته، إن إخوتنا زعماء القبائل المتحالفة مع “خاتي” أرسلونا لجلالتك ليقولوا لك إنهم سيصبحون خدمًا لك ويتركوا زعيم خاتي”.
وهنا سألهم “رمسيس”:” أين هم؟ إخوتكم الذين أرسلوكم لتخبروا جلالتي بهذا الأمر؟”.
فأجابوه:”هم مع زعيم “خاتي”، إن العدو بعيد في حلب شمال “تونيب”؛ لأنه خاف من التقدم للجنوب عندما علم بتقدمكم شمالًا”
الوضع واضح إذن! هؤلاء البدو علموا بان موتالي بعيد جدا ويخشي المواجهة فقرروا الإنضمام للجانب المصري, بل أن موتالي خائف من مواجهة رمسيس فإختبأ بعيداً جدً عن قادش .. هكذا فكر رمسيس وهكذا وثق فى كلام هؤلاء البدويين.
كانت تلك الصورة براقة جداً بالنسبة لرمسيس الذي يتوق إلى دخول المعركة بأفضل وضع مناسب له ولقواته، إن صح كلام هذان البدويان فذلك يعنى بلا شك السيطرة على أرض قادش ومن ثم إنتظار موتالي وهو ما يرجح كفة رمسيس كثيراً، ولكن مهلاً كيف يمكن لرمسيس أن يثق بما قالوا؟
هذا ما حدث بالفعل، لم يكلف رمسيس خاطره بان يرسل كشافة آخرين للتأكد من صحة تلك المعلومات وهو ما كان خطأ فادح سيدفع رمسيس ثمنه غالياً، حقيقة الأمر أن ذلك كان خدعة من “موتالي” الذي كان مختبئاً خلف قادش فى إنتظار رمسيس.
وهنا وكأنه بطل يمضي إلي مصيره المحتوم يقرر رمسيس إستكمال المسير بل أنه يسبق كتيبة آمون ويتقدم إلى قادش تتبعه كتائب الجيش الأربع، وفى خلال مسيرة حوالي نصف يوم يصل رمسيس على رأس جند قليلون إلى قادش ويبدأ فى نصب المعسكر بينما الفخ القاتل علي الجانب الآخر من النهر فى إنتظاره .. كيف ينجو رمسيس من هذا الفخ؟
الفخ القاتل
ما أن وصل رمسيس إلي قادش تبعته كتيبة آمون بوقت قليل بينما لا تزال الكتائب الثلاث الأخري على الطريق, وهنا بدأ الجيش في نصب المعسكر المصري وتجهيز السور والخيام الملكية وخيام القوات للتمركز في قادش، وكالعادة تم إرسال فرق الإستطلاع التي عادت بصيد ثمين هذه المرة، إثنان من جواسيس الحيثيين اللذان وكالعادة سيجلبا أمام رمسيس ليدلو بما عندهم
“عندما أُطلق سراح البدويين تقدم جلالته شمالًا حتى وصل إلى شمال غرب “قادش”، ونصب المعسكر هناك، وجلس جلالته على عرشه المصنوع من الذهب شمال “قادش” غرب نهر العاصي، وهنا جاء كشاف استطلاع لجلالته ومعه جاسوسان تابعان لـ”خاتي” اللذان أحضرا لجلالته فقال لهما: من أنتما؟ فردا: نحن من أتباع زعيم “خاتي” الذي أرسلنا لمعرفة مكانكم، فقال جلالته: أين هو؟ لقد سمعت أنه في حلب شمال تونب! فقالوا لجلالته: انتبه، إن الخسيس زعيم “خاتي” جاء ومعه بلدان كثيرة حلفاء له “، كلهم مجهزون بمشاتهم وعجلاتهم الحربية وأسلحتهم وعددهم أكثر من حبات الرمل، انتبه إنهم مستعدون خلف “قادش” القديمة
وهنا يعلم رمسيس بالفاجعة عندما يسمع بإذنيه ذلك الإعتراف المرعب، موتالي موجود بكامل قواته خلف النهر ، ما يقارب من أربعون ألف مقاتل وألفان وخمسمائة عجلة حربية حيثية فى مقابل كتيبة مصرية قوامها خمسة آلاف، الوضع كارثي وستحدث مذبحة لا محالة.
تم إعلان حالة الطواري فى المعسكر المصري فوراً وبدأ رمسيس فى إعطاء أوامر مرتجلة لقواته كان أهمها أنه أمر الوزير بالذهاب بنفسه لاستعجال كتيبة بتاح ، كان رمسيس يعرف أن كتيبة رع ستصل في أى لحظة بينما كتيبة ست بالتأكيد لن تستطيع الوصول في الوقت المناسب.
كلف رمسيس إبنه الأمير “با رع حر ونم إف” بأن يبتعد بأفراد الحاشية والحريم الملكي بعيداً عن أرض المعركة وبعدها ينضم للوزير فى إستعجال كتيبة بتاح، وبعدها إستكمل رمسيس أوامره لكبار ضباطه حتي قطع حديثهم صوت الأمير آمون حر خبش إف الإبن البكري لرمسيس الثاني وهو يعلن عن غختراق المعسكر المصري وبدأ هجوم الحيثيين.
فلتبدأ المعركة
بدأ الهجوم الحيثي علي المعسكر المصري الذي وعلى الرغم من محاولة رمسيس وقادته لإنقاذه كان قد تم إختراقه بالفعل وبدأت قوات الحيثيين تفرض سيطرتها علي الوضع وأثناء الهجوم يري جنود مصر بأعينهم كتيبة رع وهي تصل إلى قادش وتبدأ بالفعل في الإنضمام إلي بقية القوات المصرية وهنا يهاجمهم الحيثيون اثناء عبورهم للنهر، أخذوهم على حين غرة وإنشطرت كتيبة رع إلي شطرين في هجوم ساحق للحيثيين نجحوا من خلاله في إبادة وتشتيت قطاع كبير من كتيبة رع ومن ثم بدأوا يطاردون من تبقي منها متجهين نحو المعسكر المصري.
وهنا يفقد “مننا” قائد عجلة رمسيس الثاني الحربية أعصابه فيصرخ في رمسيس بأن المشاة والعجلات الحربية تركوهم ولم يعد هناك ما يمكن إنقاذه ومن ثم يختم كلماته بجملته الشهيرة
فلنكن واقعيين، إنقذني وأنقذ نفسك يا وسر ماعت رع
النصر أو الموت كالرجال
تمالك “رمسيس” رباط جأشه وهو يري ذلك الوضع الصعب فأمسك بتلابيب مننا مخاطباً إياه
اثبت مكانك! وثبت قلبك يا حامل درعي
سأواجههم مثل الصقر، وسأعمل فيهم القتل والتذبيح وألقيهم أرضًا
لم تخاف من هؤلاء الضعفاء الذين لا يهمني كثرتهم؟
واندفع جلالته إلى الأمام والتحم بقوات العدو لست مرات“
لربما ظن “مننا” أن “رمسيس” قد أصابه الذهول فلم يدرك حقيقة الوضع، لربما ظنه حالماً، ولكن ما حدث هو أن رمسيس إعتلي عجلته الحربية وبدأ فى مناداة بقية قواته لينضموا له، كان من الواضح أن رمسيس حسم قراره، حتي وإن كانت الهزيمة والموت قادمين فليمت كالرجال.
بدأت صرخات رمسيس تعلو في أرض المعركة مخاطباً الجنود الذين إستجابوا له فتكونت ما يشبه بفرقة صغيرة منظمة حول رمسيس تصد هجوم الحيثيين وبالفعل نجحوا فى إختراق جبهة الحيثيين ست مرات متتالية.
ولكن المثرة لا تغلب الشجاعة، وبدأ الحيثيين بالفعل في محاصرة البقية المتبقية من الجيش المصري ووسطهم رمسيس ليكتبوا آخر سطور المعركة التي ظنوا وبلا شك أنها ستكون نهايتها النصر ومقتل رمسيس.
الأمل
“ما هذا يا أبي “آمون”؟
هل من الحق أن يتجاهل الأب ابنه؟
ألم أتحرك وأسكن وفقًا لكلماتك؟
لم أعصِ أمرًا لك!
من يكون هؤلاء الآسيويون بالنسبة إليك يا “آمون”؟
البائسون الذين لا يعرفون الإله؟
إني أناجيك يا أبي “آمون”.
أنا في وسط جمع غفير من أعداء لا أعرفهم
كل البلاد احتشدت ضدي
أنا وحيد وليس معي أحد”
كان آخر ما تبادر إلى ذهن رمسيس هو الإله آمون يناجيه، لم يتوقع مطلقاً ان تجري الأمور بهذا الشكل ولكنه ظل يقاتل حتي آخر نفس فيه وأثناء إستكمال الحيثيين لإطباق (كماشة) محكمة حول القوات المصرية فإذا رمسيس يري بعينه صفوف الحيثيين وهي تتساقط.
وفجأة تنقلب الأمور رأساص على عقب!
تصل فرقة النعرن إلى أرض المعركة ، أتوا في الموعد والمكان المناسب كما أعطيت لهم الأوامر منذ فترة قليلة, ويا له من توقيت.
بدأت قوات النعرن بمهاجمة الحيثيين حتي أصبحوا هم بين شقي الرحي فالنعرن من خلفهم ورمسيس وما تبقي من قواته امامهم, فأين المفر؟
يدرك رمسيس الوضع فوراً فلا يضيع ثانية واحدة ويبدأ في الهجوم هو الآخر لإطباق الفخ علي قوات الحيثيين من الجانبين، ومما زاد الأمرو سوءً بالنسبة للحيثيين أن قوات المدد التي أرسلها موتالي إي أرض المعركة لم تتمكن من المشاركة بسبب إعاقة قواتهم المتواجدة لطريقهم لعبور النهر.
أرسل موتالي المدد في أسوأ وقت ممكن فتخبطت قوات المدد مع زملاؤهم علي أرض المعركة وبدأ الجيش المصري في تطويقهم ودفعهم عبر النهر ليعبروه عائدين إلي الحصن مرة أخري.
النصر
بمرور وقت قصير بدأ الجيش المصري يفرض سيطرته التامة علي أرض المعركة، فقوات الحيثيين بدأت في التراجع النهائي وتعثر منهم في الطين من تعثر حتي أصبح المشهد أشبه بالهزل، جنود الشردانا المرتزقة تقوم بقطع أيدي قتيل الحيثيين لإحصائهم بينما كتيبة بتاح تصل إلي أرض المعركة في فصولها الأخيرة.
وعلي الجانب الآخر من النهر يري موتالي الذي جبن أن يقود القوات علي أرض المعركة ذلك المشهد فاغراً فاه، لم يتوقع تلك الهزيمة لصيطدم بمشهدان أكثر إيلاماص فجثة أخوه “با تجار” طافية على سطح مياه نهر العاصي, بينما إبن عمه أمير حلب “تالمي ساروما” عبر النهر بالفعل ولكن الجنود قد قلبوه علي عقبيه لإفراغ المياه من جوه فبدا أشبه بالقربة.
وهنا لم يجد موتالي مفرأ من اللجوء للقلعة ومع النفير المصري الذي أعلن النصر كان الحيثييون يرفعون جسور القلعة ليحتموا بها.
يبدو أن صلوات رمسيس قد أستجابت.
ما بعد قادش
لم تكن معركة قادش هي نهاية فصول الصراع المصري الحيثي، فما حدث بعد قادش كان الكثير والكثير من صراع دام لمدة ستة عشر عاماً، يوم قادش عرض موتالي الصلح علي رمسيس الذي رفض ذلك العرض وتوجه بقواته عائداً إلى مصر معلناً النصر.
يعلم الجميع اليوم أن هناك معاهدة سلام تمت بين الطرفان، بل أنها كانت أول معاهدة سلام موثقة في التاريخ البشري علي الإطلاق، ولكن لربما لا يعلم الغالبية العظمي أن تلك المعاهدة لم تكن نتيجة مباشرة لمعركة قادش!
نعم, فمعاهدة السلام حدثت بعد ستة عشر عاماص من قادش ، بل أن الطرف الحيثي الذي وقعها لم يكن “موتالي” وإنما أخوه “خاتوسيل” (خاتوشيليش) الثالث والذي تولي العرش بعد وفاة أخيه.
وحقيقة الأمر انه لا يمكن تاويل تلك المعاهدة بانها كانت نتيجة لمعركة قادش, فقد حدث بعد قادش الكثير والكثير من المعارك بل والخطط السياسية والدبلوماسية التي ادت في النهاية لتوقيع المعاهدة.
أعلن المصريون النصر ووثقوا معركة قادش بكامل تفاصيلها حتي الصغير منها، وعلي الجانب الآخر فنجد أن الحيثيين لم يذكروا قادش اللهم إلا فى إشارة بعيدة جدا في قصة ملخصها أن صراع مصر والحيثيين كان في أمورو وللسيطرة على أمورو وفي هذا أعلن الحيثيين النصر، فعن أي مصادر حيثية نتحدث التي أعلنت النصر في قادش؟
بل أن وقائع الأمور بعد قادش تثبت أن مصر لم تنتصر في قادش فحسب وإنما كانت لها اليد العليا في النهاية بعد توقيع معاهدة السلام.
ولهذا حديث آخر.