قرية العمال بناة الأهرام
بداية من عام 1988 بدأت الحفائر فى هضبة الجيزة بقيادة عالم الآثار الأميركى “مارك لينر” (Mark Lehner) وزاهى حواس فى الكشف عن قرية للعمال من الأسرة الرابعة من بناة أهرامات الجيزة، ومع توالى مواسم الحفائر تم التيقن من أن هذا الكشف عبارة عن مجتمع متكامل للعمال به أماكن سكن وبقايا أطعمة ومشروبات وسجلات تتضمن سير العمال وألقاب العمال والحرفيين وحتى مقابرهم، كما أثبتت الحفائر عن تلقى هؤلاء العمال رعاية طبية على أعلى مستوى من معالجة كسور العظام وغيرها. وقم تم توثيق ذلك فى العديد من الكتاب نذكر منها The Complete Pyramids – Mark Lehner وكذلك عائلة الملك خوفو – زاهى حواس، وقد جاء هذا الكشف متوافقاً مع كشوفات أخرى سابقة فعلى سبيل المثال فإن العمال مشيدى مقابر وادى الملوك كانت لهم قرية بالقرب من الوادى وهى قرية دير المدينة، هرم اللاهون فى الفيوم كانت له قرية عمال بدوره وهى قرية “كاهون” وغيرها من المجتمعات التى تكونت خصيصاً للقيام للعاملين فى مشاريع البناء العملاقة فى مصر القديمة، وبالنسبة لقرية العمال بناة الأهرام فى هضبة الجيزة متاحة للزيارة وتذاكرها متاحة للجمهور.
محاجر الأهرامات
لأهرامات هضية الجيزة محاجر معروف موقعها بالتحديد، فعلى سبيل المثال تتكون الأهرامات من ثلاثة أحجار رئيسية: حجر جيرى، حجر جيرى أبيض، جرانيت، الجميل فى الأمر أن محاجر الحجر الجيرى موجودة فى هضبة الجيزة نفسها بجوار هرم “خوفو” ومكان إقتطاع الحجارة واضح للعيان بتطابق تام مع الكتل المستخدمة فى بناء الأهرامات وهذه الأحجار كانت تستخدم فى الكتلة الرئيسية لجسد الهرم، بعد ذلك كان يتم وضع كسوة من الحجر الجيرى الأبيض فائق الجوده من محاجر طرة وقد ذكر ذلك بوضوح برديات وادى الجرف التى سنتحدث عنها لاحقاً، أما الجرانيت فكان يجلب من أسوان وقد كان يتم إستخدامه فى الغرف الدخلية للهرم فى حالة الهرم الأكبر على سبيل المثال،وفى حالة الهرم الأصغر كان الجرانيت مستخدماً فى كسوة ذلك الهرم.
بشكل عام فإن المحاجر التى إستخدمها المصريون القدماء معروف معظمها حتى الآن من خلال النصوص التى ذكرتها وتم التعرف على تلك المواقع وتحديدها ومنها: الشلال وسهيل وإلفنتين، وادى الحمامات، حتنوب، طرة،الجبل الأحمر، السلسلة، ودان الفرس، قفط، أبو رواش وغيرها من المواقع ألتى تم توثيقها فى العديد من الكتب نذكر منها : Stones and Quarries in Ancient Egypt: Dietrich D. Klemm and Rosemarie Klemm.
قد كانت عملية نقل الحجارة لموقع البناء تتم بمراكب مختلفة الحجم حسب كمية الأحجار ونوعها وهو ما ذكرته أيضا برديات وادى الجرف التى ذكرت سير العمل فى محاجر طرة، أما الجرانيت فكان يتم نقله على مراكب عملاقة مجهزة خصيصاً لذلك عرفنا بها من جداريات المعابد مثل معبد الدير البحرى اذلى أظهر منظرا يمثل نقل مسلة جرانيتية، بينما فى هضبة الجيزة عثر بجوار هرم خوفو على ثلاثة مراكب ملكية يبلغ طول الواحدة منها ما يقارب 52 متراً، أى أن تشييد السفن العملاقة والملاحة فى مصر القديمة كان متطوراً بشكل كبير فى تلك الفترة.
برديات وادى الجرف
وصف العديد من علماء الآثار أن إكتشاف “برديات وادى الجرف” هو أهم الكشوف الأثرية على الإطلاق بل أنه يفوق فى أهميته إكتشاف مقبرة توت عنح آمون نفسها، وادى الجرف هو أحد المناطق الساحلية على البحر الأحمر على الشاطى الغربى لخليج السويس، وقد بدأت البعثة الفرنسية المشتركة مع المعهد العلمى الفرنسى للآثار الشرقية وجامعة أسيوط العمل بتلك المنطقة فى عام 2011 بقيادة عالم الآثار الفرنسى “بيير تالييه”.
كشف البعثة عن أقدم ميناء فى تاريخ الملاحة البحرية فى العالم ويعود لعصر الملك “خوفو” مشيد الهرم الأكبر فى الجيزة، وقد تم التعرف على المنطقة بعد العثور على آثار تؤكد ذلك من أختام، ونقوش وبرديات وحتى مواد مستخدمة فى صناعة السفن والملاحة، وقد توالت كشوف البعثة حتى كان أهمها فى عام 2013 وهو مجموعة من البرديات إتضح أنها أقدم برديات فى مصر على الإطلاق.
بالموقع العديد من المغارات المغلقة إستخدم المصريون كتل حجرية لإغلاق مداخلها وبين تلك الأحجار عثر على مجموعة البرديات التى أكدت أن هذا الموقع كان مستخدماً فى عصر الملك خوفو بل أن العاملين بهذا الموقع قد شاركوا فى بناء المجموعة الهرمية للملك خوفو.
لم تقتصر مكتشفات وادى الجرف على هذا فحسب ففى عام 2016 عثرت بعثة وزارة الآثار على حوالى 21 مرساة كانت تستخدم لرسو السفن والعديد من المقتنيات منها الفخار تعود لعصر الملك “خوفو” نفسه.
محتويات برديات وادى الجرف تنسف الخرافات
برديات وادى اجرف هى عبارة عن مئات قطع البردى يخص الملك “خوفو” منها عدد كبير ، ذكرت بعض برديات وادى الجرف في بدايتها ما يسمى تعداد الماشية فى مصر القديمة القديمة وهى عملية إحصائية لرؤؤس الماشية كانت تتم كل سنتين، وهذا التعداد كان مهما جداً فى توثيق الأحداث التاريخية لدى علماء الآثار، حيث أن التعداد المذكور هو رقم 13 مما يعنى بالتبعية أن العام 26 من حكم الملك “خوفو”، الذى ذكر بإسمه الكامل “خنوم خو ف وى”.
ذكرت برديات وادى الجرف توزيع الجراية اليومية للعمال موضوعة فى جداول توضح المنطقة المجلوب منها السلعة وكمياتها.
آخر تاريخ مذكور فى برديات وادى الجرف هو العام 27 من حكم الملك “خوفو” وهو على الأرجح الوقت الذى توقف فيه العمل بمشروع الهرم الأكبر، وهو أيضا تاريخ إفلاق تلك الكهوف بالأحجار.
يوميات الريس مرر
أما أهم محتويات برديات وادى الجرف فكان يوميات لرئيس عمال يدعى “مرر”، وقد قسمت البرديات عمل “مرر” وفريقه على مدار الأشهر وكل شهر له خانات يومية توضح سير العمل فى هذا اليوم تحديداً، أى أنه توثيق كامل يومى لسير العمل ولكن ماذا كان عمل “مرر” وفريقه تحديدا؟
عمل “مرر” فى نقل الأحجار الجيرية التى كانت تستخدم فى كسوة الهرم من شرق النيل من محاجر “را ستاو” الجنوبية والشمالية إلى موقع مشروع الهرم الأكبر عن طريق المراكب، وهو ما يؤكد أن البيئة المحيطة بمشروع الهرم كانت مهيئة لوجستيا على أعلى مستوى وذكرت البردية نقطة لوجستية مهمة تدعى مرسى “را شى خوفو” وهى نقطة كانت تتوقف عندها فرق الإمداد لفترة قبل التوزيع فى الموقع نفسه الذى أشارت له البردية بنفس الإسم الذى نعرف به هرم خوفو من النصوص وهو “آخت خوفو”.
من المثير للإهتمام ذكر شخصية أخرى من عصر “خوفو” قام بالإشراف على نقطة “را شى خوفو” وهو “عنخاف” الاخ غير الشقيق للملك خوفو والذى يعتقد أنه كان مهندس هرم خفرع وكذلك تمثال أبو الهول، ومما نعمله سابقاً أن مهندس الهرم الأكبر هو إبن أخى الملك خوفو وهو الأمير :حم أون، فكيف تتسق تلك المعلومتان؟
يذكر د.زاهى حواس أنه على مايبدو فإن حم أون قد توفى فى المراحل الأخيرة لإتمام البناء وتولى مكانه عمه “عنخاف” وهو ما يتسق مع أن البرديات كانت دونت سير العمل فى المراحل الأخيرة من المشروع بالفعل.
أظهرت لنا برديات وادى الجرف عبقرية إدارية مذهلة للمصريين القدماء حيث أنه من الواضح جلياً أن الحكومة المركزية المصرية كانت على أعلى مستوى وأن الأعمال التنظيمية والتقارير الرسيمة بلغت حداً مذهلاً من المهنية والتعقيد لدرجة أن فريق العمل الذى عمل بمشروع الهرم الأكبر كان يعمل بعضه فى مشروعات إدارية أخرى فى وادى الجرف وهو ما يفسر وجود تلك الوثائق هناك، وهو ما يؤكد أن الهرم كان مشروعاً قوميا مصرياً خالصاً.
ثغرات العلم وخيالات المخرفين
إن ظهور الخرافات ورواجها لدى الناس لا يحتاج إلى متخصص فى أى علم لتفنيد تلك الخرافات ولكنه يحتاج إلى تحليل لميول البشر بشكل عام، فإذا أخذنا من الفرضية المزعومة (قوم عاد) مثالاً لذلك فسنجد أن الأمر فى غاية البساطة، العلم معقد وصعب الحصول عليه، العلم لم يقدم إجابات لكل شىء، إذن هناك مشكلة متعلقة بالعلم وهيا ننتقل إلى الإستنتاجات ونضع البدائل على الفور مع تنجية العلم جانباً.
والفكرة هنا بسطة وسهلة: الهرم مبنى عملاق، لا نعرف كيفية تشييده فيبدو أن الحل الوحيد نسبه إلى عمالقة وهميين وهى فكرة بسيطة تحل كل المشاكل دفعة واحدة بدون اللجوء إلى الاسلوب العلمى المعقد فى بعض الاحيان.
تعود نزاهة العلم إلى عامل مهم يمثل نقطة قوة واضحة وهو أن العمل يكون بطيئاً جدا معتمداً على الأدلة المادية بشكل واضح فى البداية مع وضع الإستنتاجات الشخصية كحل مطروح مع الإشارة إلى أنها إستنتاجات شخصية، والعلم لديه من النزاهة ما لا يمنع القائمين عليه من الخروج وبكل شجاعة الخروج قائلين :لا نعلم لعدم توفر أدلة حتى الآن، وفى حالة الهرم الأكبر كانت الإجابة قبل عام 2013 لا نعلم بخصوص سير العمل بمشروع الهرم وتحولت إلى معلومات بأدلة موثقة كبرديات وادى الجرف، ما أريد أن أشير إليه إلى ان عملية البحث العلمي مستمرة ومتطورة دوماً والبعثات العلمية تبحث وتدقق فى كل شىء لتكشف كل يوم المزيد من الأسرار بدلاً من اللجوء للتكهنات والإستنتاجات المباشرة السهلة والمخرفة فى بعض الأحيان، لذلك لا يعنى عدم توفر إجابة في الوقت الحالي على بعض المسائل فى الهرم الأكبر أن الباب مفتوح للخرافات والخزعبلات، الحل يمكن فى الصبر والعلم حتى لو كانت نتائجه بطيئة.
ومن المدهش أنه فى المجتمعات المتحدثة بالعربية إقران الدين فى غير موضعه مع أية فرضية خالية مع مزجهما بنظرية المؤامرة يضفى هالة من القدسية على الموضوع وسأستعرض مثالاً بسيطأ من البحث المزعوم:
سبب المشكلة ان اعداء الاسلام من اليهود وغيرهم يطمرون حضارة عمالقة عاد عمدا لانها وردة بالتفصيل فى القران الكريم وحده دون سواه من التوراه والانجيل فينسبون حضارة قوم عاد الى الفراعنه .. ف مره يقولو ان قوم عاد فى السعودية ومره يقولو انها باليمن وهدفهم ان يصرفوا نظرنا عن مصر واثارها التي لم يخلق مثلها في البلاد. قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( 6 ) إرم ذات العماد ( 7 ) التي لم يخلق مثلها في البلاد)
بكل بساطة هناك مؤامرة على الإسلام وهذه الفرضية دون سواها تدافع عنه، وهنا يتحول الموضوع من نقاش إلى وضع الدين فى المواجهة وبالتالى ما يخالف هذا الكلام سيعتبر ضد الدين بالنسبة لمتبنى هذه الطريقة العجيبة من التفكير.
وعلى الرغم من أن القائل بأن “عاد” و”ثمود” منتمين بشكل أو بآخر إلى الجزيرة العربية لم يكونوا غير مسلمين ولا حتى غير عرب، بل أقر بذلك المسلمون والعرب أنفسهم ولا أحد سواهم قبل غيرهم، لذلك لم يكن هناك بد من تبنى الشاذ من القول والافتراض لطرح مثل تلك الفرضيات.
فى النهاية يتبنى ذلك (البحث) المزعوم نقطة تبدو فى غاية الوجاهة وهى أن تلك الفرضية تعنى أن قوم عاد كانوا مصريين وهو ما يعنى بالتالى أن الحضارة المصرية القديمة ممتدة لأكثر من 12 أو 15 أو حتى 20 ألف عام، وهو حق يراد به باطل، فالحضارة المصرية بالفعل ضاربة فى القدم تتبع العلماء منشأها وأصولها منذ عشرات الآلاف من السنين ولم تظهر فجأة فيكفى البحث عن فترة ما قبل الاسرات المصرية لتعطينا نتائج البحث حضارات مثل (الفيوم, حلوان, البدارى، دير تاسا، نقادة وغيرها)، وهى مراحل حضارية تظهر تطور صنيعة الإنسان المصري على مر العصور وتنسف فكرة ظهور الحضارة من العدم بل هى تجربة إنسانية أخذت حقها من الزمن والمحاولات حتى وصلت لأعلى قمة الهرم الحضارى.
مارك لينر: معتنق الخرافات الذي هجرها وتحول إلى عالم آثار
فى النهاية لا يحضرنى سوى مثال حي متمثل فى البروفسيور الأميركى مارك لينر الذى أتى إلى مصر من المنبهرين بالعراف اليهودى إدجار كيسى وفرضيات نسب الحضارة المصرية إلى حضارة أطلانتس المزعومة ومن ثم مع زيارته لأهرامات الجيزة بدأت شكوكه فى تلك الخرافات تزيد حتى قرر دراسة المصريات فى الولايات المتحدة وتخصص فيها وعاد إلى مصر ليبدأ حفائره هناك ويكشتف قرية العمال ويصبح واحد من المدافعين عن الحضارة المصرية وناسفى تلك الخرافات ولا ينفك أن يذكر تلك القصة فى كتبه ومؤلفاته، ولم أجد منه خير مثال على إنسان إعتنق وصدق الخرافات لفترة ولكنه مع صمود ومصداقية العلم تحول إلى أحد رجاله وناشريه.
مراجع علمية منتقاة للإستزادة:
- الأهرامات المصرية – أحمد فخرى.
- عائلة الملك خوفو – زاهى حواس.
- بناة الأهرام – زاهى حواس
- The Complete Pyramids – Mark Lehner
- Stones and Quarries in Ancient Egypt: Dietrich D. Klemm and Rosemarie Klemm.