كانت الآثار والحضارة المصرية دوماً محل جدل قديماً وحديثاً. فكما طالها الانبهار طالها التشويه. وكان لها محبين لما أنجزوا ولحضارتنا. فلها مشوهين وموتورين. وعلى مدار العصور والأزمنة كانت لحضارة مصر النصيب الأكبر من الخرافات والخزعبلات.
إلى أن بدأت مؤخرا في عصور قريبة موجة مختلفة تماماً. وهي ظهور خرافات يتبناها حتى المصريون أنفسهم بشأن حضارتهم. ومن أشهر هذه الخرافات هو الزعم بأن المصريون ليسوا بناة الأهرام. وإنما ما اصطلحوا على تسميتهم “قوم عاد”.
الفراعنة لصوص حضارة!
كان هذا هو عنوان كتاباً تم إصداره في منتصف التسعينيات يزعم كاتبه بأن الحضارة المصرية ماهي إلا تجمعات سكنية. قامت على أنقاض حضارة أقدم منها وهي حضارة “قوم عاد. وأن هؤلاء كانوا من العمالقة حجماً وليس مجازاً وأن أطوالهم تتجاوز العشرة أو الخمسة عشر متراً.
يقرن صاحب هذا الطرح نفسه بلقب (باحث) ويقول إنه يتبع لمدرسة (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) وطبقا لكلامه فإنه يستند إلى القرآن الكريم فيما طرح. ويتمحور ما طرحه حول نقاط مهمة وأساسية:
أولها: ان بناة الأهرام الحقيقيون هم قوم عاد وليس المصريون القدماء الذين أطلق عليهم (الفراعنة) واتهمهم بسرقة حضارة وآثار قوم عاد الذين سبقوهم في سكن مصر.
ثانيا: أنه (من وجهة نظره) لا توجد نظرية مقبولة لكيفية بناء الهرم. أو حتى نقل الحجارة وصقلها وأن كل عجائب الدنيا معروف كيفية بنائها إلا الاهرامات. فإذا كان المصريون هم بناة الأهرام إذن فقد توصلوا لتكنولوجيا لا نعلمها. وإن كان هذا حقيقي (امتلاكهم لتكنولوجيا متطورة) فلماذا دخلوا حروباً وانتصروا في بعضها وخسروا بعضها؟
ثالثا: الحضارة المصرية حضارة البناء بالطين استنادا إلى قصة فرعون وهامان عندما طلب منه إن يوقد له على الطين ليبني صرحاً.
رابعاً: هناك جداريات تصور المصريين القدماء بأحجام متفاوتة. فهناك من هو ذو حجم كبير جدا، يقف بجواره رجالاً صغاراً. إذن نحن نتحدث هنا عن عمالقة عاصروا المصريين القدماء. ثم استشهد بقوله تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال). الآية 45 سورة إبراهيم.
خامساً: كل علوم الآثار مزيفة وما يرد بها مشكوك فيه ومنتقد ثم منقوض. بل أن الموضوع تطرق لبعض العلوم الأخرى كالحفريات مثلا. وأن كل شيء قابل للتفسير عن طريق نظرية المؤامرة. والمؤامرة هنا هي أن العلوم نفسها مزورة بالكامل.
قوم عاد في ثوب آخر
منذ أن تم هذا الطرح وبدأ هذا الموضوع في الانتشار بين بعض الناس حتى تحول لهوس لدى البعض. فمنهم من تقبله كما هو ولا يزالوا يرددونه على منصات التواصل الاجتماعي بشكل دوري.
بل أنه أصبح في تواريخ محفوظة والتي تظهر عندما ينبهم موقع التواصل الاجتماعي لذكرى منشور سابق في نفس الوقت من العام. فيقومون بإعادة نشره حتى أصبح هذا المعترك عادة سنوية.
بينما تقبله البعض الآخر وكان عليه ملاحظات لم يراها منطقية، فتركوا فرضية البشر العمالقة في الحجم. لأنها غير مثبتة علمياً ولكنهم تمسكوا بمبدأ آخر.
ألا وهو وجود حضارة خفية سبقت المصريين القدماء.
وأشاروا لها بإنها “إرم ذات العماد”، ومنهم من يطرح هذا الطرح مباشرة. ومنهم من يطرحه بشكل غير مباشر. ولا يذكره خوفاً من النقد بل يترك الاستنتاج للقارئ في النهاية.
أما الفريق الثالث فكان الرافض تماما لما تم طرحه لتعارضه مع العلم والمنطق حتى البسيط منه، بل أن الهيئات الرسمية المتمثلة فى اساتذة الآثار بالجامعات المصرية كان لهم ردوداً لاذعة فى منتصف التسعينيات وقد وصفها عالم الآثار المصري زاهى حواس بتخاريف العامة الغير متخصصين.
رأى علم الآثار
هناك فجوة كبيرة بين علماء الآثار وبين الجمهور العادي، فما يبدو للمتخصص ترهات لربما يكون لها صدى لدى الإنسان العادي، وفى هذه الحالة ما نتحدث بشأنه يراه علم الآثار محض هراء. لا حقيقة فيه ولا بيان بل هو باطل بالكامل، ولكن المشكلة تكمن في تقبل غير المتخصصين لهذا الكلام. وهنا تبدأ رحلة البحث عن رد، فيترفع العلماء عن الترهات فيظن أصحاب الخرافات أنهم انتصروا. بمبدأ (لم يجرؤ أحدهم على الرد)!
وحقيقة الأمر أن لهذا جانب سلبي وجانب إيجابي، الجانب الإيجابي هو أن علم المصريات. علم ثابت راسخ معترف به من قبل المجامع الأكاديمية العالمية. ويتم تدريسه في أعرق جامعات العالم وأقدمها داخل وخارج مصر.
فيظن المتخصصون أن مجرد الاطلاع والقراءة ستدحض الخرافات تلقائيا بدون أي مجهود يذكر وهو حقيقة بالفعل. ولكن المشكلة الأكبر أننا في عصر التكنولوجيا وسهولة تداول المعلومات. فما يراه الناس متداولاً يقرون بأصالته فورا بدون تفكير بسبب تراجع الاعتماد المعرفي على الكتب والقراءة.
أما الجانب السلبي فالطبع هو مع صمت المتخصصين يظن الطرف الآخر أنه انتصر فتبدأ كرة الثلج في الدوران حتى تصبح جبلاً شاهقاً كما حدث مع تلك الفرضية على مدار السنوات.
خلاصة القول فأن علم الآثار يعتمد على ما يسمى بالمصادر العلمية وهى مصادر يمكن تلخيصها فى الآثار التي تركها المصريون القدماء من آثار ثابتة ومنقولة، قوائم الملوك ونصوص الأنساب وهي قوائم دونت في عصور مختلفة لترتيب حكام مصر وبعض العائلات المشهورة من السلك الكهنوتي والموظفين كبار الشأن.
مصادر الحضارات الاخرى وما كتبته عن مصر، الرحالة الكلاسيكيين والأجانب، وكذلك الكتب السماوية وتلك المصادر يراعى علماء الآثار الحذر والدقة فى إستقاء المعلومات منها ويفضلوا الإعتماد على المصادر المصرية التى يمكن أن تثبت أى فرضية بادلة مادية بعيداً عن الروايات.
خلاصة كل هذا مع عمليات البحث والتنقيب ينتج عنه ما يطلق عليه مرجع علمى وهو ما يكتبه المتخصص ويقدمه للجميع كخلاصة بحث فى مسألة معينة، أى أن السؤال الشهير: ماهو مصدرك هو مغالطة أخرى.
فما نعرفه من مجموع هذه المراجع هو بناء المصريين للأهرامات بشكل عام وأهرامات الجيزة بشكل خاص، وهناك العديد من المراجع العلمية التى فندت ذلك بالتفصيل ومنها الكتاب الأشهر ل د.احمد فخرى: الأهرامات المصرية وكذلك كتاب The Complete Pyramids لعالم الآثار الأميركى Mark Lehner، وهذه المراجع للذكر وليس للحصر حيث أن الكتب التى تحدثت عن الأهرامات المصرية تبلغ عدداً مهولاً.
من الثابت أيضا مما نعرفه عن التاريخ المصري أن عدد الأهرامات المصرية يتجاوز المائة أو مائة وعشرون هرم معروفين إلينا حتى الآن، أولها هو الهرم المدرج (المصطبة المدرجة للملك زوسر) وآخرها هو هرم الملك أحمس قاهر الهكسوس، أي أن بناء الأهرامات ظل مستمرا على أرض مصر كتقليد متبع ما يزيد عن 1500 عام.
كما أن كتابات الرحالة الكلاسيكيين قد نسبت أهرامات الجيزة للملوك الذين شيدوها (خوفو، خفرع،من كاوو رع)، وتعددت الأقاويل حول كيفية بنائها.
خلاصة القول أن نسب بناء الأهرامات المصرية للمصريين القدماء ثابت منذ القدم، منذ عصر المصريين القدماء أنفسهم.
أدلة أثرية
لربما تبدو السطور السابقة مجرد كلام مجازى أو مقالي، ولكنه لا بد منه لوضع الأمور في إطار محدد يمكن للإنسان العادي استقصاءه والبحث فيه بنفسه.
أما عن الأدلة المادية المتوفرة لدينا التى تدحض هذه الخرافات فيمكن أن نذكر منها التالى:
عرف المصريين القدماء تحنيط الموتى لحفظ الأجساد أملاً في حياة اخرى هانئة وأبدية، وقد نتج عن هذه الممارسة العثور على آلاف الأجساد المحنطة على مدار أكثر من 6 آلاف عام بدئاً من عصور ما قبل الأسرات وحتى العصور الرومانية، ويقدر علماء الآثار أن المصريين القدماء قاموا بتحنيط ما يقارب المليون جسد، هذه الأجساد موجودة ومتاحة للعرض فى جميع متاحف العالم وخضعت لعمليات بحث مكثفة عبر عشرات السنين ليخرج العلماء بالآتي.
إن متوسط طول الإنسان المصري حوالى 160 سم للرجال و 150 سم للنساء، أي أنهم على غير المتوقع قصار القامة في الغالب. وأن متوسط عمر الإنسان العادي يتجاوز الثلاثون بقليل. بينما الملوك وعلية القوم يمكن أن يتجاوزوا الستون عاماً. لتلقيهم رعاية أفضل، فلا يوجد منهم من هو عملاقاً ولا من هو فارع الطول بشكل لافت للنظر. فما بالك برقم 15 متر الذي يذكره صاحب الفرضية؟
لربما يخرج البعض قائلاً ولكن هؤلاء المصريون فماذا عن قوم عاد؟
صحيح ولكن ما ذكرت يدحض نقطة في غاية الأهمية وهى تباين الأحجام في المناظر والجداريات. فلنتخذ معبد الأقصر كمثال، هذا المعبد الذى شيد في عصر عدة ملوك كان أشهرهم رمسيس الثاني. وجدارياته وتماثيله العملاقة تملأ المكان، وهو مصور دوما بحجم أكبر من الأشخاص العاديين.
في حالة رمسيس الثاني فإن النقوش المصاحبة للمنظر تخبرنا بشخصيته وأنه رمسيس الثاني. وعلى صعيد آخر فإن جسد هذا الملك موجود حالياً بالمتحف القومي للحضارة المصرية. وطوله كان 170 سم وهو رقم استثنائي بالنسبة لمتوسط طول المصريين القدماء.
الخلاصة أن صاحب الجدارية لدينا جسده بالفعل الذي لا يقول أبداً بانه كان عملاقاً. وإذا طبقنا هذا المثال على كل الملوك وحتى العامة الذين لدينا مومياؤهم فسنجد نفس الشيء، متوسط طول طبيعي.
أعلم أن السؤال سيتكرر مرة أخرى، فسيكرر البعض أن هؤلاء هم المصريون ولكن هذا لا يعنى أن قوم عاد لم يكونوا عمالقة!
سأتماشى مع هذا المنطق عزيزي القارئ ولكن لا بد من طرح سؤال مهم، كيف وثق صاحب الطرح وجود أجساد عملاقة بالفعل؟
سنجد أن طيات ما يسميه بحثاً تحتوي على صور هياكل عظمية عملاقة، والملفت للنظر أنها كلها مفبركة بل أن موقع Youtube الشهير به فيديو يخبرك كيف تفبرك هيكلاً عملاقاً بنفسك، كما أنه لم يتم العثور على هيكل واحد عملاق فى أى مكان بالعالم لإنسان يتجاوز طوله أكثر من المترات فما بالك بخمسة عشر متراً؟!!
يعول صاحب الطرح على نظرية المؤامرة فى خلق مصداقية حول ما يقول، ولكنه تناسى أن مسؤلية إثبات وجود عمالقة تقع على عاتقه وليس على عاتق الطرف الآخر وإن كان هناك ما يثبت وجود هؤلاء العمالقة على أرض مصر فليرفق بذلك دليلاً وسكون العلماء له من الشاكرين، لا تعفيه نظرية المؤامرة من عبء إثبات ما يقول بدليل مادى وهو شرط منطقى لأنه يتحدث عن آثاراً مادية كالأهرامات فيتطلب معها آثاراً مادية لإثبات ما يقول.