في 1954 أعلنت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية خبر اكتشاف مركب ضخمة للملك خوفو، وعلى الرغم من انتشار اخبار ذلك الكشف في العالم أجمع وقتها وحتى الآن إلا أن ما حدث وقتها ان فريق العمل اكتشف مركبان وليس مركب واحدة، فما هي قصة تلك المراكب؟
مراكب خوفو
خرجت مركب الملك خوفو إلى النور بعد سنوات من اكتشافها مع تشييد متحف مركب خوفو في بداية الثمانينات لتعرض للجمهور ولأول مرة ليروا تلك المركب الضخمة التي شيدت من اجل الملك خوفو وقتها، وفى 2021 عادت للظهور مرة اخرى مع نقلها للمتحف المصري الكبير لتستقر به ويتم ازالة متحف مركب خوفو.
إلا ان الاضواء التي تم تسليطها على تلك المركب تزامنت مع انزواء كشف آخر مهم في الظل، ففي حفرة بجوار الحفرة التي تم اكتشاف المركب الأولى بها كانت تقبع مركب اخرى مغطاة بمجاديل حجرية مثل المركب الأولى، وكان يعلم فريق العمل وقتها أن تلك الحفرة بالفعل تحتوي على مركب أخرى ولكن المركب الأولى اخذت لك الأضواء لفترة.
مركب خوفو الثانية
في عام 1987 منحت الحكومة المصرية تصريحاً لمؤسسة ناشونال جيوجرافيك لعمل فتحة في أحد المجاديل الحجرية التي تغطى حفرة المركب الثانية ليتم إدخال كاميرا من خلالها لتصوير محتوى تلك الحفرة.
ومع إتمام العملية لم تكن الأخبار جيدة على الاطلاق، فالقطع الخشبية موجودة بالحفرة بالفعل ولكنها بحالة سيئة مقارنة بالمركب الأولى.
بل أن المشروع مر بتوقفات ما بين 1992 و2008, 2011, 2021, 2020 وهو ما أثر وبشكل كبير على انقاذ تلك المركب، ففي عام 2008 بدأ مشروع بالتعاون ما بين المجلس الأعلى للآثار في مصر وما بين جامعة واسادا اليابانية بتمويل من مؤسسة JIKA لانتشال المركب الثانية وترميمها.
وبدأت الدراسات المكثفة لموقع العمل حتى حانت لحظة رفع المجاديل الحجرية في 2011 عقب أحداث الثورة لتخرج مركب خوفو الثانية إلى النور.
خطوات إنقاذ مركب خوفو الثانية
مر انتشال مركب خوفو الأولى بعدة مراحل تم توثيقها كلها في النشر العلمي الخاص بالكشف، وهو ما ساعد فريق إنقاذ المركب الثانية على توفير الكثير من الوقت.
أولا تم إحاطة منطقة العمر بعنبر كبير ملحق به محطة ترميم وذلك للحفاظ على بيئة وخصوصية العمل بهذا الكشف، أعقب ذلك تحريك سور المجموعة الهرمية الذي يغطى جزء من الحفرة وذلك لسهولة العمل بها، ومن ثم تم رفع المجاديل الحجرية التي تغطى الحفرة ومن ثم نقلها بقضبان تشيه قضبان السكك الحديدة لخارج العنبر.
ومع الكشف عن الأخشاب القديمة كان لا بد من حمايتها، فتم تغطية الحفرة بخشب معالج كيميائيا ومن ثم طبقة عازلة لتبدأ رحلة توثيق المركب الثانية.
تميز فريق العمل هذه المرة بتقنيات لم تتوفر للفريق الأول قديماً، فمع انتشال القطع الخشبية هذه المرة قاموا بعمل مسح ثلاثي الأبعاد لكل قطعة لسهولة دراستها والبدء في ترميمها.
لماذا كانت حالة المركب الثانية سيئة؟
كان من الواضح أن المهندس كمال الملاخ قام بفتح تلك الحفرة عام 1954 ومن ثم أغلقها مرة أخرى، وقد ظهرت دلائل على وجود محارة حديثة بالكتلة الرئيسية التي تسد الحفرة استخدمت في غلقها مرة أخرى.
أما القطع الخشبية فقد تركت انطباعاً على الجدران يظهر هبوطها بمقدار 70 سم، فمع فتح الحفرة تغيرت البيئة التي كانت محفوظة بها تلك القطع وبالتالي ألحق بها ضرر كبير أثر كثيرا على حالة حفظها.
أظهرت الجدران وجود آثار للمياه والرطوبة عليها وكان ذلك بسبب عملية انشاء وتشييد متحف مركب خوفو وملحقاته من دورة مياه وصرف صحي.
لماذا تم نقل مركب خوفو الأولى من منطقة الأهرامات؟
كان اكتشاف مركب خوفو الأولى بالصدفة أثناء عملية تنظيف للمنطقة الأثرية، فالرديم والحطام سيطروا على المشهد في المنطقة الأثرية وكانت أعمال التنظيف غرضها المحافظة على المنطقة الأثرية وشكلها الجمالي.
إلا ان تلك المعطيات قد تغيرت مع العثور على مركب خوفو الأولى والتي بدأ معها سيناريو مختلف تماماً، فمع اكتمال انتشالها تم اتخاذ قرار بترميمها ومع اكتمال ذلك الترميم تم اتخاذ قرار بأنشاء متحف لها في مكان الكشف.
بقدر ما حمله ذلك القرار من صورة رومانسية ستعرض فيه مركب خوفو في مكان اكتشافها إلا ان ذلك كان له أضرار مدمرة في المستقبل، فإن كان السبب في اكتشاف مركب الملك خوفو هو اعمال تنظيف المنطقة الاثرية فما حدث في النهاية انه تم استبدال تلال الرديم والحطام بمبنى حديث وهو متحف مركب خوفو.
كما أن اعمال انشاء وتشييد المتحف وتوصيل الصرف الصحي له كان له آثاره المدمرة على التربة نفسها وهو ما حدث ما وصول المياه والرطوبة لحفرة مركب خوفو الثانية.
كذلك فإن وجود المبنى بالقرب من الهرم خلق ما يشبه بنفق اعطى مساحة للرياح لتؤثر على الأحجار بالنحر وتتسبب في تآكلها.
وحقيقة الأمر ان قرار نقل مركب خوفو الأولى واغلاق المتحف قد تم اتخاذه منذ زمن بعيد إلا انه وضع في حيز التنفيذ أخيرا في 2021 لتتنفس المنطقة الأثرية الصعداء وتعود لحالتها الأولى على الأقل في ذلك الجانب من الهرم كما تركها المصريون القدماء.
أسرار مركب خوفو الثانية
أمدتنا حفريات تلك المراكب بمعلومات غاية في الأهمية، فعلى سبيل المثال كانت الأحجار التي تسد المركب الأولى تحتوي على مخربشات ارشادية وتأريخية قام بعملها عمال المشروع على الأحجار وحتى على القطع الخشبية.
وكان من ضمنها 18 خرطوش (الخرطوش هو شكل بيضاوي يمثل الأبدية يكتب بداخله أسماء الملوك والملكات) للملك جدف رع إبن وخليفة الملك خوفو.
أما الحفرة الثانية فقد احتوت على مخربشات فريدة من نوعها، فعلى سبيل المثال هذه المرة عثر على خمسة خراطيش للملك “خوفو” بينما كان اسم جدف رع موجودا ولكنه حمل ما يسمى باللقب الحوري.
باختصار هذا يعنى شيء واحد!
أن المركب الثانية قد تم دفنها في حياة وفترة حكم الملك خوفو ولذلك وضع اسمه بداخل خرطوش، بينما كان جدف رع لا يزال أميراً فاتخذ اللقب الحوري.
أما المركب الأولى فقد دفنت بعد وفاة الملك خوفو ولذلك حملت خراطيش الملك جدف رع الملك الفعلي للبلاد وقتها.
كما أن فحوص المركب الثانية قد أسفرت عن معلومة أخرى غاية في الأهمية، فلأول مرة من تلك العصور تم العثور على كلابات معدنية استخدمت في توصيل بعض القطع الخشبية وهو ما لم يكن موجوداً بالمركب الأولى.
مركب خوفو الثانية تكشف أسرار الهرم الأكبر
بما أن دفن المراكب كان جزءاً من الطقوس التي اكتمل بها مشروع الهرم الأكبر لذلك فإن مكتشفات تلك الحفر ساعدت على فهم الكثير من الأمور المتعلقة بالهرم الأكبر.
فالحفرة الثانية احتوت على خراطيش للملك خوفو وهي التي لو قمنا بمقارنتها بالخراطيش التي عثر عليها بداخل الهرم الأكبر سنجدها متطابقة من حيث طريقة وأسلوب الكتابة وحتى المواد المستخدمة.
كذلك فان الهرم الأكبر يحتوي على تأريخ يرجع للعام 17 من حكم الملك خوفو، وهو ما تطابق أيضا مع تأريخ على أحد المجاديل الحجرية التي أغلقت الحفرة الثانية وقد كان التاريخ كالتالي: اليوم التاسع عشر، الشهر الأولى، فصل الحصاد (فصل الشمو) من العام الرابع عشر لحكم الملك خوفو.
وهو ما يحسم دفن المركب الثانية في حياة وفترة حكم الملك خوفو، بينما الأولى قد دفنت بعد وفاته.
وهذا الدليل وغيره ينسف خرافات أصحاب خيالات قوم عاد بناة الأهرام، والفضائيين والحضارات المفقودة إلا أنهم يحلو لهم دوماً تجاهل مثل هذه الأدلة كغيرها من الأدلة الكثيرة التي توثق بناء الهرم الأكبر في فترة حكم الملك خوفو.
فهذه المخربشات أحد الأدلة الحاسمة لأنها قد تم كتابتها أثناء العمل بالمشروع الذي استغرق ما يزيد على عشرون عاماً، أي أنها كانت أحد خطوات العمل بالمشروع وليست لاحقة عليه كما أنها كتبت في أماكن يستحيل الوصول إليها الا عن طريق عمال مشروع بناء الهرم الأكبر وملحقاته.
وقد دفن المصريون المراكب مفككة لأن تلك الطريقة كانت شائعة في استخدام المعدات في مصر القديمة فعلى سبيل المثال وفى ميناء وادي الجرف عثر على بيوت منحوتة في الصخر استخدمت لتخزين المراكب، وقد كان حجمها مطابقاً لحجم مركب مثل مركب خوفو.
كما أن تلك الطريقة تكررت في دفن مقتنيات الملك توت عنخ آمون، فعثر على عجلاته الحربية مفككة وموضوع في المقبرة، كما حمل الجيش المصري معداته مفككة اثناء مروره من ممر عارونا في حملة الملك تحتمس الثالث على آسيا ومعركة مجدو.
هل سيتم عرض مركب خوفو الثانية؟
لم تعلن السلطات المصرية عن أي قرار بعد إلا ان المعلومات المتوفرة لدينا أن القطع الخشبية قد اكتمل نقلها جميعاً للمتحف المصري الكبير وأنها خضعت لعملية ترميم مكثفة بداخل المعامل الملحقة به.
وعلى أية حال فهناك سيناريوهات مقترحة لعرض تلك المركب كان أبرزها:
الأول: ترميم وعرض المركب كما هي بقطعها الخشبية الأصلية وهو الاحتمال الصعب بسبب أن حالة القطع الخشبية سيئة للغاية بل أن الأضرار الواقعة على القطع قد تسببت في فقدان حوالي 20% منها وقد حاول فريق العمل محاولات مكثفة ترميم تلك القطع باستخدام تقنيات متعددة لإعادتها إلى حالتها الأولى إلا انها لم تنج حتى الآن لذلك سيكون ذلك الاحتمال غاية في الصعوبة.
الثاني: ترميم وعرض المركب بالقطع الخشبية الأصلية مع إضافة قطع خشبية جديدة لتعويض القطع المفقودة والتالفة، وهو ما حدث بالفعل مع المركب الأولى اثناء عرضها في متحف مركب خوفو.
الثالث: هو عمل موديل من مادة الفايبر جلاس على شكل المركب ومن ثم وضع القطع الخشبية الأصلية بداخله ليتم عرضها بشكل كامل وبالقطع الأصلية.
وعلى أية حال كل ما علينا فعله هو الانتظار لما ستسفر عنه الأمور في المستقبل.
لا تنتهي رحلتنا مع مراكب خوفو عند هذا الحد فهناك بعض الأسئلة المهمة التي سنجيب عليها لاحقاً.
لماذا دفن المصريون القدماء المراكب؟ وفيم استخدمت مراكب الملك خوفو؟
وللحديث بقية.
