“مصر هبة النيل” تلك المقولة التي ينسبها البعض للمؤرخ الإغريقي “هيرودوت” أصبحت شعاراً مرتبطاً بنهر النيل أبد الدهر في مخيلة الكثيرين وأولهم المصريين، إلا تلك المقولة ليست بتلك الدقة لأي متفحص لأن النيل يمر قبل وصوله بمصر بدول عديدة آخرها مصر، لم تقم في تلك الدول أي حضارة مضاهية لما أنجزته مصر وحضارتها فإن كان النيل وحده ما يمنح الحضارة فلم منحها لمصر فقط؟
وبالتأكيد لا خلاف أن نهر النيل كان واحداً من أهم مقومات قيام الحضارة المصرية وأحد أكبر العوامل المؤثرة فيها على مدار التاريخ.
كيف رأى المصريون النيل؟
لم يطلق المصريون القدماء مسمى النيل على النهر الخالد، وإنما عرفوه بأنه: نا إترو عا , وكلمة نا هى آداة تعريف فى اللغة المصرية القديمة ومن ثم إترو عا وتعنى “النهر العظيم” أى ان المصريين أشاروا للنيل بانه النهر العظيم، ولفظة إترو عا هى التى جائت منها كلمة ترعة التي نستخدمها اليوم، اما فروع النيل والتي بلغ عددها في مصر القديمة سبعة فكان المصريون يطلقون عليها إترو إن كمت وتعنى فروع (أنهار) أرض كمت (وهو أحد أشهر اسماء مصر قديماً.
ومنذ العصور القديمة كان نهر النيل هو عنصر الجذب الذي تجمع حوله الإنسان في عصور ما قبل التاريخ وقبل تأسيس عصر الأسرات على يد مينا موحد القطرين حوالي 3200 ق.م.
منذ أقدم العصور نجد تصويراً للمراكب التي أبحر بها الإنسان المبكر في مصر بين ضفتي النيل، واعتماده عليه باعتبار حضارة مصر حضارة زراعية خالصة ارتبطت ارتباطا وثيقاً بالنهر وفيضانه وجفافه وتقلباته.
أما مسمى النيل فلربما هو مشتق من كلمة :نا إترو عا المصرية القديمة، والتي تحولت في عصر الدولة الحديثة إلى نارو ثم نيلوس ثم النيل، بينما هناك رؤية أخرى لمسمى النيل وهي أنه تم تسميته على اسم الإله “نيلوس” وهو واحد من ثلاثة آلاف إله للأنهار عند الإغريق ولا يمنع هذا الأصل في أن الإغريق قد إشتقوا إسم إلههم ثم النيل من كلمة “نارو” المصرية القديمة.
المصريون القدماء والفيضان
كان للمصرين تصوراً فريداً عن الفيضان ففي عقيدتهم الدينية كان الفيضان هو دموع الإلهة “إيزيس” حزناً على زوجها المغدور “أوزيرس”، وقد كان لدى المصريون تصورات لمنابع نهر النيل كان أهمها هو انه ينبع من كهف في جزيرة إلفنتين فى أسوان.
ولذلك كان أهم آلهة الفيضان هو الإله “خنوم” سيد جزيرة الفنتين وواحد من أعضاء الثالوث المقدس لجزيرة الفنتين التي كان ثالوثها يضمه مع زوجته “ساتت” وإبنتهما “عنقت”, فكان خنوم هو سيد الفيضان والمتحكم فيه بينما زوجته ساتت هي أحد آلهات الحماية في جنوب مصر وكذلك هي تمثيل الفيضان كما كانت ربة للحروب والصيد، بينما ابنتهما “عنقت” كانت إلهة جنادل (شلالات النيل).
ومن المثير للاهتمام فى هذا الثالوث الإلهي المرتبط بالنيل أنه ليس كالمعتاد مكوناً من زوج وزوجة وابن بل هو زوج وزوجة وابنة في لفتة فريدة قلما تكررت طوال التاريخ المصري القديم.
استكشاف منابع النيل
نظرا لتصور المصريون القدماء عن فيضان ومنابع النيل فلم تكن لرحلاتهم للجنوب أثراً فى تشكيل مفهومهم عن منابع النيل ولكنها في نفس الوقت ساعدتهم على فهم الطبيعة الجغرافية لتلك المناطق بل وتوثيقها من خلال رحلاتهم لها منذ أقدم العصور.
ففي عصر الدولة القديمة نجد أن ملوكها قاموا برحلات استكشافية من أشهرها رحلات القائد العسكري “ونى” وكذلك موظف يدعى “حرخوف” والذى كان نبيلاً من أسوان وعمدة للجنوب, فقام برحلة أربعة مرات جنوباً ما بين عصور الملوك: مرنرع الأول وببى الثاني , وفى رحلاته قد وصل إلى أرض أطلق عليها المصريون القدماء أرض “يام” جنوب (الخرطوم) حالياً والتي يتحد فيها النيل الأبيض مع الأزرق, ومن أطرف المواقف التي وثقها حرخوف في رحلاته هو عودته بقزم لأغراض الرقصات الطقسية فى بلاط الملك ببى الثاني واهتمام الملك “ببى” وقتها بالقزم دوناً عن أي شيء آخر أحضره حرخوف نظرا لان الملك وقتها كان طفلاً صغيراً وقت تلك الرحلة.
ذكر المصريون بلادا أخرى ففي الجنوب في قلب القارة الأفريقية مثل “كوش” والتي تقع فى السودان حالياً، إلا أن أهم رحلاتهم لإفريقيا كانت بلاد بونت.
بلاد بونت
من أشهر البلاد الافريقية في العالم القديم التي ذكرها المصريون القماء كانت “بلاد بونت” التى أرسلت الملكة حتشسبوت بعثتها الشهيرة إلى هناك في عصر الدولة الحديثة، وأغلب الظن أن بلاد بونت هي الصومال حاليا؟
لم تكن بعثة الملكة حتشبسوت هي الأولى لتلك الأراضي بل أن المصريون قد عرفوا ذلك في عصور قديمة جداً وتحديداً منذ عصر الدولة القديمة وبناة الأهرام، فيسجل لنا التاريخ المصري حتى الآن بما لدينا من أدلة أن أول رحلة لبلاد بونت كانت في عصر الملك “ساحو رع” من الأسرة الخامسة وهو ما يرجح وصول المصريين لتلك الأرض في زمن يسبق ساحو رع نفسه.
سنوسرت الثالث والجنوب
عصر الملك سنوسرت الثالث هو بلا شك العصر الذي فرضت فيه مصر سيطرة تامة على حدودها الجنوبية ونظمت حتى الملاحة بنهر النيل القادمة من الجنوب من وراء مدينة الخرطوم، فقد أنشأ سنوسرت ما بين جبل السلسلة في أسوان وما بين الشلال (الجندل الثاني للنيل) ما يقرب من 17 حصناً وأقام في سمنة لوحته الشهيرة والتي دون عليها النص الشهير:
والآن بالنسبة لكل ابن من أبنائي الذي سيحافظ على هذه الحدود التي وصل إليها جلالتي , فهو بنى من صلبي (مولود لي) وكأنه بطل لوالده الذي يحافظ على حدوده والذي أتى من صلبه، .. والآن بالنسبة لمن يهمل الحدود ولا يحارب من أجلها فهو ليس بنى ولم يولد لي. (أتبرأ منه).
وقد كانت تلك الحصون نتيجة استراتيجية واضحة لسنوسرت يامن فيها الحدود الجنوبية ويسيطر على الملاحة بنهر النيل ليضمن الحصول على الموارد بسهولة من تلك المناطق مع عملها كنقطة اتصال بين شعوب الوادي، كما تضمنت نصوص سنوسرت خطاباً شديد اللهجة لسكان المناطق الافريقية تمنعهم بشكل نهائي من عبور الحدود إلا بغرض التجارة وفى السلم فقط، ليضمن سيطرة كاملة ونهائية على الجنوب والنيل في تلك الفترة.
مقياس النيل
نظراً للأهمية القصوى لنهر النيل فى حياة المصريين الزراعية فكان مقياس النيل هو أحد أهم الادوات التي ساعدتهم على معرفة ما سيسفر عنه موسم الزراعة، فقد قسم المصريون القدماء السنة إلى ثلاثة فصول وهم آخت وبرت وشمو وهي فصول (الفيضان، الإنبات، الحصاد)، وقد احتوت كل المعابد المصرية تقريباً على مقياس للنيل ليمكنهم من معرفة منسوب المياه كل عام، وقد عرف المصريون مقياس النيل وأقاموه منذ عصور مبكرة تعود للعصر العتيق والأسرات الأولى والثانية.
حابى: روح النيل
من أكثر المغالطات الشاعة حول نهر النيل حالياً هو اعتقاد البعض أن فيضان النيل او أن النيل نفسه يجسده الإله “حابى” ( حعبى بالمصرية القديمة) وحقيقة الأمر ان الإله حعبى يمثل روح النيل وليس النهر نفسه.
وقد صور “حعبى” طوال التاريخ المصري القديم في هيئة رجل ذو بطن مترهلة معبراً عن خيرات النيل، يقف مقدماً خيراته من أسماك وخضروات وخيرات يأتي بها النهر وفيضانه لمصر كل عام.
خرافات حول النيل: بلو تارخ وهيرودوت وعروس النيل
لطالما ارتبط نهر النيل بالخرافات طوال التاريخ, ونظرا لعدم معرفة حتى الإغريق بمنابع النيل فتعددت خرافاتهم حول ذلك الأمر وامتد ذلك للطقوس المرتبطة به فنجد على سبيل المثال في كتاب معنون باسم about rivers and mountains and things found in them ( عن الأنهار والجبال والأشياء التي عثر عليها بهم) نجد قصة لربما تشابه قصة عروس النيل.
والكتاب بشكل عام يتحدث عن الأنهار والجبال فى العالم القديم وقصصهم وأصل تسميتهم, ومما ورد عن نهر النيل أنه نهر يقع بالقرب من مدينة الإسكندرية وليبيا ( في ذلك الزمن كانت الصحراء الغربية لمصر تسمى ليبيا) وأن ذلك النهر كان يدعى ففي البداية “ميلاس” تيمناً بأحد أبناء الإله بوسيدون إله البحار والمحيطات الإغريقى.
وبعد ذلك تم تسمية النهر أيجوبتس, وذلك بعد قصة لملك مصر الأسطوري أيجوبتس الذي حدث في عهده صراع وحروب واقتتال أهلي كان سببه انخفاض منسوب النيل، وهنا وكعادة القصص الإغريقية تأتى ال “بيثيا” (عرافة دلفى) بالإجابة، لا بد أن يضحى أيجبوتس بابنته في النهر لكي يفيض، وبالفعل يقوم ايجوبتس بالتضيحة بالفتاة المسكينة ويفيض النهر وتحل جميع مشاكل أهل مصر.
إلا ان ذلك لم ينهى القصة فنجد أن ايجبوتس قد حزن حزناً شديداً على ابنته فألقى نفسه في النهر ليجمل النهر اسما جديداً وهو اسم الملك “أيجوبتس”، وتستمر القصة بان يلقى شخص آخر بنفسه في النهر ويدعى “نيلوس” فيتم تسمية النهر باسمه هو الآخر ليستقر الاسم في النهاية ويصبح النهر هو “نيلوس” والذي يعرف بالنيل الآن.
وتلك القصة كما هو واضح هي خرافة من أولها لآخرها كعادة العالم القديم في روايات الرحالة والمؤرخين في معظم الأوقات، والتي كان هذا الكتاب واحداً منها وهو منسوب للمؤرخ الإغريقي “بلوتارخ”.
أما أشهر القصص الخرافات التي نسجت حول النيل فكانت بلا شك هي أسطورة عروس النيل.
إذا أنخفض منسوب النيل فليهرع جنود الفرعون؟
من أشهر الخرافات المرتبطة بنهر النيل في العصر الحديث هي بلا شك المقولة المنتشرة ” «إذا انخفض منسوب النهر فليهرع كل جنود الفرعون، ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه»”.
وهي مقولة نسبها مؤلفوها أولاً لمقياس النيل بمنيل الروضة وهو المقياس الذي لا يعود لمصر القديمة ولا يوجد به أي نقوش، ومن ثم قاموا بتعديل روايتهم ليقولوا بان ذلك النص منقوش على جدران مقياس النيل بمعبد إدفو، وهو الأمر الذي يخلو من أي صحة هو الآخر.
فحقيقة الأمر ان التاريخ المصري القديم لا يوجد به هذه الجملة في أي من نصوصه وآثاره، كما أن إنكار تلك الرواية المكذوبة لا يعنى بالتبعية تخلي المصريين عن النيل، فهذا أيضاَ غير صحيح وهو ما يشهد عليه هذا المقال.