لطالما كان للجيش المصري بطولات كثيرة على مدار التاريخ وخاصة التاريخ المصري القديم, والذي شهد ذروة عصر الإمبراطورية مع مجموعة من الملوك المحاربين الذين برعوا في فنون الجندية والقتال حتي أصبحوا مثالاً يحتذي به حتي يومنا هذا وعلى رأسهم الإمبراطور المصري المتوج “تحتمس الثالث” وخلفه “رمسيس الثاني”، إلا أن هناك قائداً آخر للجيش المصري أصبح ملكاً في ظروف حرجة من تاريخ مصر وكان أول ما قام به عندما تولي الحكم ليس حملات عسكرية ولا معارك حربية وإنما تشريعات.
حور إم حب: حورس في عيد
هو الملك الذي يطلق عليه اليوم “حور محب” والذي تسمعه آذان متحدثي العربية محباً من الحب إلا أن معني اسمه هو “حر إم حب” ويعني: الإله حورس في عيد.
ترجع أصول هذا الملك إلى أهناسيا بمحافظة بني سويف وهو الأصل الذي تتبعه بعض علماء المصريات وسنستعرضه في سطور لاحقة من هذا المقال، وقد بدأ حياته جندياً في الجيش المصري وتدرج في المناصب حتي أصبح قائداً أعلي للقوات في فترة حرجة من تاريخ مصر وهو عصر الملك توت عنخ آمون، ولكننا نحتاج أن نتتبع القصة من بدياتها لنعرف ظروف حياة وحكم هذا الملك.
إخناتون وتوت عنخ آمون
كانت نهاية فترة حكم إخناتون هي إجمال سبعة عشر عاماً من إهمال السياسات الخارجية والأوضاع الداخلية الحرجة التي وصلت في بعض الأحيان إلى الاقتتال الأهلي وتفشي الفساد وقد كانت تلك الفترة – حتي وقت قريب- يكتنفها الغموض تماماً ولكن مع المكتشفات الأثرية الجديدة استطاع العلماء كشف العديد من ألغاز تلك الفترة، ومن ضمنها القائد العام للجيش “حور محب”.
من اهم الأسئلة التي طرحت عن “حور محب” في عصر إخناتون, هل كان يشغل منصب قائد الجيش في تلك الفترة أم لا؟ وهو السؤال المنطقي حيث أن العديد من الشخصيات التي عاصرت فترة حكم إخناتون قد غيرت اسماؤها وحتي ولائها الديني بعد وفاة إخناتون وعلى رأسهم ابنه ” توت عنخ آمون” نفسه فلم يكن حور محب باستثناء هو الآخر.
وقد رجح العلماء قديماً أن القائد العسكري “با إتن إم حب” – واسمه يعني الإله آتن في عيد – هو نفسه “حور محب” وقد غير اسمه بعد عصر إخناتون ! وظل هذا الافتراض شائعاً حتي فترة قريبة.
إلا أن المكتشفات الأثرية قد غيرت ذلك الافتراض مع العثور على أدلة بدور “حور محب” في فترة الملك توت عنخ آمون فآثار تلك الفترة أخبرتنا أن أقدم ذكر لحور محب وقتها كان في منصب المتحدث الرسمي لشئون الملك الخارجية، أي انه كان بمثابة سفير لمصر في الدول الأجنبية وهو على عكس “با إتن إم حب” الذي كان قائداً لجيش إخناتون.
وقد وثقت تلك المعلومات بشكل تفصيلي في مقبرة “حور محب” نفسه في سقارة والتي صورت مناظر فريدة لمعارك ومواكب الجيش المصري والتي يعتبرها الكثير من الدارسين بمثابة أرشيف لأي مهتم بتاريخ العسكرية المصرية.
عودة إلى “حور محب” نفسه فإن أغلب الظن أن نجم “حور محب” قد بزغ في عصر الملك “توت عنخ آمون” مع توليه منصب السفير وقد سجلت مقبرة حور محب في سقارة بجانب ذلك حصوله على لقب “إري بعت” وهو الذي يعنى حرفياً أنه من طبقة “بعت” وهي صفوة المجتمع المصري وهذا اللقب في تلك الفترة التاريخية تعني أنه خليفة الملك علي عرش مصر, كما حاز حور محب على لقب آخر وهو إدنو ويعني نائب الملك.
أي أن حور محب في عصر الملك توت عنخ آمون قد أصبح قائدا للجيش, سفير, نائب الملك, خليفته.
وهي المناصب التي كانت توحي بأن حور محب واحد من أقوي شخصيات بلاط الملك توت عنخ آمون، إلا أن ذلك قد أتضح أنه ليس دقيق بشكل تام مع وفاة الملك توت عنخ آمون وتولي شخص آخر للعرش ، شخص غير متوقع على الإطلاق.
الملك آى
وهو واحد من أكثر الشخصيات غموضاً وتأثيرا في التاريخ المصري القديم، فهو الرجل الذي عاصر فترة العمارنة وخدم الملك إخناتون في آخت إتن (تل العمارنة) بل أنه كان له مقبرة هناك، إلا أنه مع وفاة إخناتون عاد “آى” إلي طيبة واحتفظ بمنصبه ونفوذه فى العهد الجديد في فترة حكم الملك “توت عنخ آمون” , وآى هذا كان قائدأ عسكرياً وكاهناً ومن المرجح أنه ترطبه صلة قرابة بعائلة الملك إخناتون فهو على ما يبدو حماه ووالد نفرتيتي كما أنه أيضا لربما أخو الملكة “تي” أم إخناتون.
بعد وفاة الملك “توت عنخ آمون” نجد أن من قام بالإشراف على جنازته هو “آى” نفسه وهو ما يعني بالتعبية طبقاً للتقاليد المصرية القديمة أن “آى” هو من سيخلف الملك “توت”, وهو ما حدث فعلاً بدون وجود أدلة تخبرنا انه كان هناك إعتراضاً من حور محب.
وأغلب الظن أن الأمر كان طبيعياً ولم تكن هناك نزاعات على العرش مابين آى وحور محب في تلك الفترة, بل أن ما يزيد الأمور إثارة أن “حور محب” قد تزوج من اميرة تدعي “موت نجمت (او موت بنرت؟) وهي إحدى بنات أي أنها أخت نفرتيتي.
فعلي ما يبدو أن تلك الفترة كانت لها من التعقيدات والروابط الأسرية ما لا يمكننا حسمه وبشكل نهائي, إلا أن هذا وعلى جانب آخر ينفي افتراضات أصحاب نظريات المؤامرة التي تزعم أن “حور محب” قد إغتال الملك “توت” وهو الافتراض الغير منطقي مع معرفتنا بان من خلف “توت” هو آى!
حور محب ملكاً
في أثناء فترة حكم آى والتي لم تتجاوز أربع سنوات نعلم أن “حور محب” كان مشغولاً بالجيش المصري وحملاته ومحاولة صد الإعتداءات الخارجية ومحاولة ممالك العالم القديم التوسع علي حساب مصر بل وتهديدها هي الأخرى.
ومع وفاة “آى” نجد أن ما حدث هو أن من تولي الحكم كان هو “حور محب” وهو التسلسل الغير منطقي الذي يضرب نظريات المؤامرة لتلك الفترة كما أنه يزيد من غموض تلك الفترة من وجهة نظر علم المصريات.
إلا أن ما حدث علي الأرجح انه وبناء على الروابط الأسرية وعدم وجود وريث للملك “آى”- فلا نعلم له أولادأ- فإن المرشح الأول للمنصب كان “حور محب” ، وهو ما حدث مع “آى” نفسه مع وفاة “توت عنخ آمون” والذي لم يكن له وريث هو الآخر.
أما بخصوص الأدلة الأثرية فنحن على شبه يقين أن “حور محب” لم يكن من طموحاته الإستيلاء علي عرش مصر، فعلي سبيل المثال نجد أن له مقبرة في منطقة سقارة قد قام بتشييدها وإكمال الجزء الأكبر منها بما فيه آبار الدفن وهي تصوره في مناظر متعددة كقائد للجيش المصري، أي أن حور محب أعد مثواه الأخير كقائد للجيش وليس ملكاً.
ومع تولي حور محب لعرش مصر نجد أنه قام بتشييد مقبرة له في وادي الملوك والتي تحمل حالياً رقم 57 ، أما مقبرة سقارة فلم يدفن بها وإن قام الفنانون بتعديل بعض المناظر ووضع الكوبرا الحامية علي جبين حور محب والتي تشير لكونه ملكاً إلا أن المناظر القديمة بقيت كما هي!
أقم العدل تنم ليلاً
“شاور جلالته قلبه ليبسط حمايته على البلاد بأسرها، ليصد الشر ويقضي على الكذب. إن أعماله ملاذ فعال لطرد العنف، كان يسهر ليل نهار متفحصًا ما يمكن أن يفيد البلد المحبوب باحثًا عن الأفعال عظيمة الفائدة، وأحضر كاتب صاحب الجلالة وأمسك لوح الكتابة ولفافة بردي، وشرع يكتب ناسخًا كل كلمات الملك الذي قام بإملاء المرسوم شخصيًّا والذي تم بختمه بجوار صاحب الجلالة لوضع حد لأعمال السلب والنهب التي (ترتكب) في البلد”.
على الرغم من خلفية “حور محب” العسكرية وخوضه غمار الحرب وسفارته لمصر في الدول الاجنبية إلا أننا نجد أنه إستهل عصره بأصعب مهمة يمكن أن يتولاها في تلك الفترة وهي القضاء علي الفساد الغداري الذي إستشري في الفترة السابقة له.
فنجد أن أول ما فعله “حور محب” هو إستعادة الأمن في البلاد وكذلك صياغة مجموعة من القوانين والتشريعات والتي كانت أول قوانين مكتوبة في التاريخ المصري القديم ولم يسبقها في العالم القديم سوي تشريعات “حمورابي” ملك بابل.
كانت قوانين “حور محب” صارمة فيما يتعلق بالمذنبين فنجد أنه يلزم من سرف برد ما سرقه كاملاً أو حتي أضعافه فى بعض الحالات، كما أنه عاقب المذنبين فى أجسادهم ببتر أحد اعضائهم أو إحداث جروحاً دامية باجسادهم وعلى أقل تقدير كان النفي هو إحدي العقوبات المخففة.
“وفيما يتعلق بأي شخص ينتمي للجيش سمع عنه أنه غادر بالجلود (أخذها عنوة من الفلاحين) منذ اليوم يطبق عليه القانون بجلده مائة جلدة وخمسة جروح دامية (في جسده) مع استرداد الجلود التي أخذها، وأمر جلالته باعتبار الفلاح معفى بسبب نواياه الطيبة”.
جائت تشريعات حور محب صارمة حتي تجاه جنود الجيش المصري الذي كان هو على رأسه قبل توليه العرش فنجد أنه إتخذ جانب الفلاح المصري وقضي علي ظاهرة فرض الجبايات عليهم من بعض الجند الفاسدين بل وإعتبار مبدأ حسن النية لدي الفلاح في المقام الأول
وقد ضع حور محب نسخاً من قوانينه فى اماكن عدة منها معبدي الكرنك وأبيدوس وهو ما عكس رغبة قوية منه علي إعلام الجميع بتلك القوانين والحرص علي تطبيقها علي نطاق واسع فى جميع أنحاء مصر.
الإعدام للفاسدين
لم تكن تشريعات حور محب تحمل فقط إدانة للمذنبين فحسب، فعلي صعيد التشجيع والكافئات نجد أنه قام بإعطاء الفرصة لكل مجتهد ليترقي فى منصبه كما أنه أعاد سلطة المجالس القضائية لضمان فض النزاعات بكفاءة وعدالة ناجزة، أما عن حاشيته فنعلم أن حور محب كان يجتمع بهم بشكل دوري ويقيم لهم الولائم ويغدق عليهم من ماله الخاص لذلك كان عقوبات مقربيه أشد من عقوبات الآخرين ففي حالة الفساد مع كل تلك الإمتيازات كانت العقوبة تصل للإعدام.
“لقد بحثت عن رجال ولجأت إلى زعماء من عاداتهم، النطق بكلمة موفقة والتحلي بخلق نابه وعلى دراية بسرائر الناس، كما يلتزمون بأوامر القصر، لقد رقيتهم ليصبحوا قضاة القطرين، وعند حسن ظن المقيمين في القصر، لقد أقمتهم في مدينتي الجنوب والشمال (طيبة ومنف)، وفي هاتين المدينتين يستطيع كل شخص دون استثناءات أن يلجأ إلى المحاكم، لقد وضعت أمامهم الحسابات والقوانين في سجلاتهم اليومين وأرشدتهم إلى طريق الحياة؛ لأنني أود السير بهم نحو العدالة، وكانت تعليماتي لهم: لا تصادقوا الآخرين، ولا تقبلوا هدية من أحد (رشوة)، من منكم إذن هو الذي يعرض نفسه للشبهات على الآخرين أو يقترف جرمًا في حق العدالة.. أما أن يقال عن أي موظف كبير أو أي كاهن: إنه يتخذ مكانه في المحكمة ليؤدي واجبه لإقامة العدل بين الناس ولكنه يرتكب جرمًا في حق العدالة (يظلم)، فلسوف تحسب عليه جريرة وكأنها ذنب خطير يستوجب عقوبة الإعدام”.
وقد قام عالم الآار المصري باهور لبيب ومعه أستاذ القانون والرئيس الأسبق “صوفي أبو طالب” بتأليف كتاب بعنوان “تشريع حور محب” عام 1972 من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب حمل نص قوانين حور محب كاملاً.
إحترم تراث الأجداد
لم يكتف حور محب بمجموعة التشريعات داخلياً وإنما بدأ فى مشروعات موسعة لإستعادة النظام داخلي البلاد فنجد انه اعاد هيكلة الجيش المصري والسلطات القضائية كما انه أدخل وجوه جديدة للسلطة الدينية في مصر وعلى رأسها مجمع معابدها الأكبر “الكرنك”, كما أنه قام بإعادة تعيين إثنان فى منصب الوزير – وهو منصب يعادل رئيس وزراء حالياً- واحداً قائم علي شئون الجنوب والآخر للشمال.
وعلى صعيد الآثار فقد قام حور محب بإستكمال مشروع الملك “توت عنخ آمون” لترميم الآثار المصرية وإستعادتها مرة أخري بعد الدمار الذي لحق بها في فترة إخناتون, وقام ببناء ثلاثة صروح بمعبد الكرنك بالإضافة إلي مقبرتيه اللذان ذكرناهما سابقاً
وفاة حور محب
إختلف علماء الآثار حول فترة حكم الملك “حور محب” وذلك لان المصادر المصرية تغفل فترة حكم الملوك منذ إخناتون وحتي حور محب بإعتبارها فترات فوضي لم يحبها المصري القديم لذلك فالمصادر المصرية تنسب فترات حكم ملوك تلك الفترة لحور محب, وببعض العمليات الحسابية نجد أن أقصي فترة لحكم الملك حور محب كانت حوالي من 26 ل27 عام علي أقصي تقدير.
وتشاء الأقدار أن يتوفي “حور محب” وليس له وريث من صلبه، وهو ما حدث مع سلفيه آى وتوت عنخ آمون، إلا أن “حور محب” كان ذكياً بما يكفي أن يجنب مصر ويلات الفوضي مرة أخري فنجد أنه قام بمنح ولاية العهد إلي رفيق سلاحه والذي كان يدعي “با رعمسو” والذي تولي قيادة الجيش المصري في عصر حور محب وتولي كل مناصبه التي كان يشغلها في فترة حكم الملك “توت”، وقد وقع الإختيار علي “بارعمسو” باعتباره له إبن يدعي سيتي كان جندياً في الجيش المصري هو الآخر بل أن سيتي له إبن بدوره يدعي رمسيس، أي أن ولاية العهد في ايدي تلك الأسرة مضمونة ولفترة طويلة.
لم يكن با رعمسو هذا سوي “رمسيس الأول” وسيتي إبنه هو سيتي الأول وحفيده هو رمسيس الثاني والذين سيصبحون جميعهم ملوك بالتتابع خلفاً لحور محب وينجحون في إستعادة امجاد الإمبراطورية المصرية مرة أخري.
أما عن آخر ألغاز تلك الفترة فكان عدم العثور علي مومياء الملك “حور محب” حتي هذه اللحظةـ، فلم توجد لا بمقبرته ولا بواحدة من خبايا المومياوات الملكية التي تم العثور عليها بوادي الملوك.
إبن أهناسيا
بقي فقط أن نذكر لماذا نسب علماء الآثار حور محب لمدينة أهنسيا الواقعة حالياً فى بني سويف؟
حقيقة الأمر أن علي كثير من آثاره نجد أن حور محب ينسب نفسه للإله حورس المنتمي لمدينة “نن نسو”، وهي المدينة التي عرفت في مصر القديمة بإسم “حوت نن نسو” وتعني مستقر الطفل الملكي وهو الإسم المصري القديم لتلك المدينة والذي تحور بعد ذلك ليصبح أهناسيا.