هرم الجيزة الأكبر الذي شيده الملك “خوفو” هو آخر ما تبقى من عجائب الدنيا السبع القديمة. ولطالما كان هذا الهرم تحديداً ملهم لكل من زاره أو رآه أو حتى سمع به.
فهو ذلك البناء الشامخ الذي يبلغ عمره أكثر من 4600 عام هزم فيها الزمن نفسه. وحتى في العصور الحديثة ومع التكنولوجيا المتطورة التي امتلكها الإنسان لا تزال الأسئلة بشأن الهرم في ازدياد.
البداية: سنفرو أبو الأهرامات
مع بداية الأسرة الرابعة جلس على عرش مصر واحد من أعظم الملوك البنائين في تاريخ مصر على الإطلاق وهو الملك “ٍسنفرو” الذي لقب نفسه بسيد العدالة ولقبه المؤرخون بأعظم البنائين.
حمل سنفرو ذلك اللقب في حياته وعرفنا بعد آلاف السنين من وفاته صدق هذا اللقب نظراً لكثرة ترديده بعد آلاف السنين من موت “سنفرو” نفسه على يد المصريين القدماء أنفسهم، أما أعظم البنائين فقد حمله لأنه شيد وحده أربع أهرامات في ثلاثة أماكن مختلفة. وكان له العديد من الأبناء سيبزغ نجمهم فى إنجازات خلدت إسمهم طوال التاريخ المصري.
قام الملك “سنفرو” بتشييد أربع أهرامات دفعة واحدة وهي هرم ميدوم (ويقع فى ميدوم, بنى سويف حالياً)، الهرم الأحمر والهرم المنجنى (يقعان فى دهشور)، هرم سيلا (الفيوم).
وقد ارتبطت قصة إنجازات سنفرو في حياته باثنان من أبنائه سيكونان طرف الخيط لتتبع “حم ايونو” مهندس الهرم الأكبر.
نفرماعت: ميدوم
في ميدوم قام الملك “سنفرو” بتشييد هرم على ما يبدو أنه كان مقدراً له أن يكون هرم مدرج ولكن في مرحلة ما من العمل تم تغيير الخطط ليصبح هرم حقيقي. أى أن العمل بدأ بتشييد درجات فوق بعضها البعض على غرار هرم زوسر في سقارة ومن ثم تم تغيير تلك الخطة ليتم تشييده كهرم حقيقي أملس الجوانب.
بجوار ذلك الهرم تم العثور على مقبرتين (مصطبتين) في غاية الأهمية لإثنين من أبناء الملك “سنفرو” الأول كان قائد القوات (قائد الجيش) وهو الأمير “رع حتب” والثاني هو الوزير “نفرماعت”، وتعود أهمية “نفرماعت” إلى أنه والد “حم ايونو” مهندس الهرم الأكبر.
تخبرنا مقبرة “نفر ماعت” بأن كان له زوجة تدعى “إتت” وقد حمل بجانب لقب الوزير “الإبن الأكبر للملك”، “حامل الأختام الملكية”، ولقب كهنوتي آخر ككاهن للإلهة القطة “باستت”.
ولقب الوزير في مصر القديمة “ثاتى” يعادل منصب رئيس وزراء حالياً فهو المنصب الأهم بعد الملك مباشرة وصلاحياته واسعة وتنفيذية، ومن أهم الآثار التي تم استنقاذها من تلك المصطبة التي حملت رقم 16 في ميدوم هي جدارية عرفت باسم “أوز ميدوم” ومعروضة بالمتحف المصري بالتحرير.
وقد كانت حالة المقبرة السيئة تحول بين ترك ما تبقى منها على حاله فيفنى إلى الأبد أو استنقاذ ما يمكن حفظه في المتاحف ومن هنا تم نقل تلك الجدارية الثمينة التي تمثل 6 أوزات صوروا بشكل مذهل لتصبح من درر المتحف المصري.
أخبرتنا مقبرة “نفرماعت” أيضا أنه أنجب العديد من الأبناء والبنات بلغ عدد المدونين منهم على جدران مقبرته 15!
كان البنات منهم “جفاتسن، اسيسو، باجتى، والبنين إيسو، تيتا، خنتيمرش، إيتيسن،إينكايف، سرفكا، وحمكا، شبسسكا، كاخنت، عنخ حر شرتف، عنخ حر فنجف، بونب، شبسسنب، نبخنت وأخيراً حم أون (حم إيونو) الذى حمل لقب وزير هو الآخر لاحقاً مثل أبيه فتكون شبه يقين لدى علماء الآثار أننا نتحدث عن أب وإبنه.
وقد نسب العديد من علماء الآثار بناء أهرامات دهشور لنفر ماعت والد حم أيونو، أي أن الابن لم يرث منصب والده التنفيذي فقط وإنما ورث منه علماً معقداً وهو الهندسة.
كا نفر: دهشور
في دهشور قام الملك “سنفرو” بتشييد هرمين كان أولهم هو ما يعرف الآن بالهرم المنحنى والذي تم بناؤه بزاوية 54 في البداية ومع تقدم البناء قام المهندس بتغيير زاوية البناء إلى 43 بعد الوصول إلى ارتفاع 47 متر.
وذلك لظهور خطر على بنيان الهرم نفسه وعدم تحمل قاعدة الهرم لكتلته التي اتضح أنها ستكون أصخم مما ينبغي فقاموا بتغيير زاوية البناء، وقد ذهب رأى من الآراء يقول بان هرم ميدوم قد بنى بنفس الأسلوب ونفس الزاوية الأولية فانهار مما استدعى تغيير خطة بناء الهرم المنحنى.
لكيلا يلقى مصير هرم ميدوم، وهو ما يأخذنا إلى أن الملك “سنفرو” كانت مشاريعه في بناء الأهرام لربما متوازية زمنياً ولكننا لا نعرف ذلك على وجه اليقين، ويذهب عالم الآثار المصري زاهي حواس إلى أن بداية إنشاءات سنفرو كانت هرم ميدوم والذي تركه وبدأ فى إنشاءاته فى أهرام دهشور ثم عاد ليكمل هرم ميدوم!.
إلا أن محاولات سنفرو لبناء هرم كامل تكللت بالنجاح مع بناء أول هرم كامل في تاريخ الحضارة المصرية وهو الهرم الأحمر والواقع شمال الهرم المنحنى بصحراء دهشور.
ومثل ميدوم تم العثور على مقابر لأفراد ذوى شان فى حكومة الملك “سنفرو” وعلى رأسهم “كا نفر” أحد أبناء الملك والذى حمل لقب وزير هو الآخر مثل أخيه “نفرماعت”.
وحمل أيضا لقب ابن الملك وكذلك ألقاب عسكرية مثل “رع حتب” إبن سنفرو أيضاً، وقد ذهب بعض علماء الآثار إلى أن “كانفر” هو مهندس أهرامات الملك “سنفرو”، إلا أن هناك شكوكا حول ذلك فلا يوجد لدينا أى أدلة تربط “كانفر” بشكل واضح وتنسبه كابن لسنفرو باستثناء أن سمات مقبرته (مصطبته) المعمارية مشابهة لتلك المتبعة في عصر سنفرو (بداية الأسرة الرابعة).
لذلك أميل أنا الآخر إلى اعتبار أن “نفرماعت” كان هو العنصر الفاعل في تنفيذ مشروعات أبيه “سنفرو” وبالتالي كان هو مهندس أهراماته لاعتبارات كثيرة اهماه أبوته لحم أون وكذلك ضخامة حجم مقبرته في ميدوم.
يتبقى فقط أن نذكر ان للملك سنفرو هرماً آخر موجود فى سيلا بالفيوم وهو هرم مصمت من الداخل أي أنه لا يحتوي على أية حجرات أو غرف داخلية واغلب الظن أن هذا الهرم كان رمزيا طقسياً مجاور لضيعة او قصر شيده الملك “سنفرو” هناك.
حم أيونو: الجيزة
فى عام 1912 قام عالم الآثار الألمانى بكشف مثير للإهتمام بالجيزة بالقرب من هرم خوفو مع عثوره على مقبرة حملت رقم G4000 (حرف G يشير لمنطقة الجيزة ، وهو نظام الترقيم المتبع فى هضبة الجيزة)، كان صاحب تلك المقبرة يدعى “حم أون” (حم أيونو)، كانت المقبرة فى حالة سيئة كحال مقابر الجيزة بعد عصور طويلة من التدمير، ولكن ما تبقى من نصوص أخبرنا أن صاحب المقبرة حمل لقبين فى غاية الأهمية الأول هو : وزير والثانى المشرف على جميع أعمال الملك، بداخل المقبرة (وكعادة كثير من المقابر) تقع غرفة إضافية لها فتحات فى الجدار تطل على تمثال لصاحب المقبرة.
عثر يونكر على تمثال مهشم مقطوع الرأس لحم أون بداخل المقبرة وقد تم ترميمه ومعروض حالياً بمتحف بلازيوس، هلدسهايم، ألمانيا.
كانت بنوة “حم اون” لنفر ماعت، وكذلك حمله للقب الوزير خلفاً لأبيه وعمه “كانفر” وكذلك لقب المشرف على جميع أعمال الملك أكثر من كافى لعلماء الآثار لينسبوا بناء هرم الملك “خوفو” لحم أون بإعتباره المهندس الفعلى للمشروع، ليكون هو إمتداد لإنجازات أبيه ويعمل فى نفس منصبه فى حكومة عمه “خوفو”.
عنخاف: الجندى المجهول
وهو صاحب المقبرة التى حملت رقم G7510 بهضبة الجيزة وعثر بها على تمثال نصفى إعجازى له معروض حاليا بمتحف بوسطن للفنون، وقد كان عنخاف أحد أبناء الملك “سنفرو” أى أنه عم حم أون وأخ غير شقيق للملك خوفو، أما مصطبة عنخاف فهى واحدة من أكبر مصاطب هضبة الجيزة وقد حمل هو الآخر لقب الوزير وألقاب تكاد تتطابق مع ألقاب حم أون، ويرجع عصر دفن الأمير عنخاف إلى عصر الملك “خفرع” إبن أخيه،مما أشار لعلماء الآثار إلى أن عنخاف هو مهندس هرم خفرع وكذلك تمثال أبو الهول.
فى عام 2013 ومع العثور على برديات وادى الجرف ذكرت صراحة أن الأمير عنخاف كان المسئول عن النقطة اللوجستية “را شى خوفو” فى موقع بناء هرم الملك خوفو، أى أنه كان مهندساً مشاركا فى المشروع، ومع تأريخ ذكر إسمه بالعام 27 من حكم الملك “خوفو” ذهب علماء الآثار إلى ترجيح أن “حم أون” كان قد توفى وحمل الراية من بعده عمه الأمير والوزير “عنخاف”، أى ان الأمير “عنخاف” قد عاصر الملوك من “سنفرو” وحتى “خفرع”.
مع إكتشاف برديات وادى الجرف والتى تعد أقدم البرديات المكتشفة على أرض مصر على الإطلاق وجد علماء الآثار دليلاً قاطعاً حاسماً على إسم بعينه مرتبط بمشروع الهرم الأكبر وهو الأمير “عنخاف” والذى حمل صراحة لقب المشرف على “را شى خوفو” وهى منقطة لوجستية بموقع بناء الهرم الأكبر كانت تمثل على ما يبدو نقطة توزيع الوارد إلى الهضبة من أحجار مستخدمة فى البناء وفى حالة برديات وادى الجرف كانت الأحجار المذكورة هى الحجير الجيرى الأبيض المجلوب من طرة والذى تم إستخدامه فى كسوة الهرم الخارجية … فى نهاية رحلتنا مع تلك العائلة المثيرة للإعجاب لا نملك سوى الإشادة بجميع أفرادها وخاصة الأمير “عنخاف” .. الجندى المجهول.