منذ أقدم العصور ومصر دولة مركزية ذات حكومة ونظام وهيكل إداري, بل أن مصر هي أقدم دولة مركزية في العالم منذ توحيد القطرين علي يد الملك “نعرمر” (مينا) حوالي 3200ق.م , وكان من الطبيعي والمحتم أن تستكشف مصر البلدان من حولها وعلي رأسها جيرانها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً, وكان من أهم المناطق التي أراد المصري القديم السيطرة عليها وتنظيم التجارة معها بل ومد جسور العلاقات بينها هي بالتأكيد إمتدادها الإفريقي فخاض المصريون المغامرات في مجاهل إفريقيا الواحدة تلو الأخري وسطروا لنا مغامراتهم وحكاياتهم العجيبة في تلك البلاد البكر, ومن أشهر تلك المغامرات هي التي الحملات التي خاضها الموظف المصري “حرخوف”.
كيف إستطاع المصري القديم إستكشاف أفريقيا؟
منذ العصور القديمة والمصريون القدماء يقومون بالحملات علي الجنوب لأغراض متعددة وأشهر تلك الحملات التي قام بها الملك سنفرو أول ملوك الأسرة الرابعة حوالي 2589 ق. والمدونة علي حجر باليرمو وعاد منها بالعديد من الأسلاب والغنائم, إلا أن السيطرة الحقيقة علي تلك المناطق قد تمت في عصر الأسرة السادسة وتحديداً في عصر رابع ملوكها “مر إن رع الأول” رابع ملوك الأسرة السادسة, ويرجع الفضل في ذلك إلى النشاط الفائق للقائد العسكري “وني” الذي قام بالعديد من الحملات في جميع الأنحاء الحدودية المصرية.
وقد كان “وني” عظيم التأثير في الجنوب حيث قام بالحملات والأهم من ذلك قيامه بحفر خمس قنوات للمياه لتسهيل التجارة وجلب المنتجات من أفريقيا إلى أسوان بسهولة بل أنه جعل السكان المحليين للنوبة القديمة تحت تصرفته ورهن إشارته في خدمة الدولة المصرية, وقد قام “وني” بإتمام عمله في خلال سنة واحدة غيرت تماماً سياسية وجغرافية حدود مصر جنوباً فأصبحت التجارة أسهل وأصبح حتي جلب الأحجار سهلاً ولا يتطلب الكثير من الأيدي العاملة.
وقد أرسلني جلالته لحفر خمس ترع في الجنوب، ولأصنع ثلاث ناقلات وأربعة مراكب تجر بالحبال من خشب السنط من بلاد “واوات” وكان زعماء أراضي “إرثت” و”وواوت” و”يام” و”مجا” يقدمون الأخشاب, وقد أتممت الأعمال كلها في سنة, ومنها الإستكشاف وتحميل الجرانيت بكمية لبناء هرم “مرنرع” المسمي” خع نفر مرنرع”, ولقد أنجزت في الوقت بفضل الترع الخمسة معاً, كل هذا بسبب أهميتي وصفاتي الحميدة والإحترام الذي أكنه لسلطان ملك الوجه القبلي والبحري “مرنرع” فليحيا إلى الأبد أكثر من كل الآلهة, لأن كل شيء قد تم وفقاً للأوامر التي أصدرها لي الملك.
إنني محبوب أبيه والممدوح من أمه وزينة أخوته, أنا الامير حاكم الصعيد , المبجل من الإله “اوزير” : “وني”.
من نصوص القائد “وني”
ومع إنجازات “وني” أصبح البعد الأفريقي لمصر أسهل في الإستكشاف, بل أن الملك “مرنرع” تم تصويره عند الشلال الأول متكئاً علي عصا ومعه الإله “خنوم” ومعه نص يقول: ملك الوجه القبلي والبحري, مرنرع محبوب الإله خنوم رب الشلال , العام الخامس الشهر الثاني من الفصل الثالث, اليوم الثامن والعشرون. بينما يظهر زعماء القبائل يقدمون فروض الولاء والطاعة لملك مصر, وكان ذلك الوضع بيئة خصبة للمصريين لإرسال حملات أخري كان علي رأسها حملات “حرخوف”.
من هو حرخوف؟
لقد أعطيت الخبز للجائع وكسوت العاري وأعطيت قارباً لمن لا قارب له
من نصوص مقبرة حرخوف
إسمه بالمصري القديم هو “حِر-خْو.اف” ويعني الإله حورس يحميه, هو أحد مواليد “إالفنتين” (في أسوان حالياً) وواحد من أعظم حكامها في التاريخ المصري, خدم “حرخوف” في عصر الملوك “مرنرع الأول” و”ببي الثاني” آخر ملوك الأسرة السادسة والدولة القديمة, كان ذلك المنصب الذي شغله “حرخوف” ليس محلياً فحسب , بل كان يعني أن صاحبه نائب الملك للشئون الأفريقية, وقد دفن حرخوف في مقبرته التي دون علي جدرانها سيرته الذاتية وحملاته ومغامراته وتقع الآن من ضمن مقابر “قبة الهوا” في غرب أسوان وتحمل رقم 34.
الأمير, الرفيق الأوحد, الكاهن المرتل, نائب الملك في “نخن”, حامل الختم الملكي, مدير القوافل, رئيس اسرار أوامر الحدودة الجنوبية, محبوب الملك “حرخوف” الذي يحمل كل خيرات البلاد الأجنبيه لسيده, والذي يأتي بالجزية المستحقة لإقامة المراسيم الملكية, زعيم كل البلاد الأجنبية في الحدود الجنوبية, الذي ينشر سلطان الإله “حورس” بين البلاد الأجنبيه والذي ينفذ كل ما يريده سيده “حرخوف”.
من نصوص مقبرة حرخوف
مغامرات حرخوف في إفريقيا
قام “حرخوف” بثلاث حملات علي الجنوب دونها كلها علي جدران مقبرته وأخبرنا بها بنفسه, وكانت كل تلك الحملات علي الجنوب ومن المرجح أن “حرخوف” قد وصل إلى نقطة إلتقاء النيل الأبيض بالأزرق والأماكن المذكورة بالمصرية القديمة هي نقاط قديمة في طريق الحملات.
الحملة الأولي: أن الملك “مرنرع” قد أرسله كما أرسل “إري” من قبله – إري هو والد حرخوف- إلى بلاد “يام” ليكشف الطريق الذي يؤدي إلى البلاد الأجنبية, وقد اتم “حرخوف” تلك الحملة في ستة أشهر ويذكر بعدها ثناء الملك ومديحه له.
الحملة الثانية: أرسله الملك مرة ثانية سائراً علي طريف إلفنتين ليمر ب “إرثت” و”مجر” و”ترس” وأستغرقت الحملة ثمان أشهر عاد منها بالكثير من المنتجات , ويذكر حرخوف بعدخا أن لم يحدث قط أن فعل من شغلوا منصبه ما فعله.
الحملة الثالثة : أرسله الملك هذه المرة إلى بلاد “يام” وقد أنطلق حرخوف من طريق الواحات علي الأرجح ليجد زعيم “يام” يحارب الليبيين القدماء , فأخضعه “حرخوف” ومضي قدما ليخضع الليبيين القدامي بدورهم لينهي كل تلك الإضرابات ويعود بقائمة من المنتجات ذكرها بالتفصيل فيقول لنا بعودته ب: ثلاثمائة حماؤ محملين بالبخور والأبنوس والزيوت وجلود الفهود وكذلك العاج وغيرها.
وقد كانت حملات حرخوف من التأثير لدرجة أنه أصبح من رواد أفريقيا والخبراء بها لدي الحكومة المصرية وقتها, وقد أرسل له الملك نائباً عنه ليكون في إستقباله لدي عودته, وقد كانت تلك الحملات نهاية خدمة “حرخوف” في عصر الملك “مرنرع” ,إلا أن وفاة الملك لم تحد من طموحات “حرخوف” الذي كان متشوقاً لإستكمال خدمته في عصر الملك الجديد وهو “ببي الثاني”
ببي الثاني وحرخوف
بعد وفاة الملك “مرنرع الأول” خلفه علي العرش “ببي الثاني” والذي كان طفلاً صغيرا عندما تولي الحكم, ولم يمنع صغر سن الملك إدارة مفاصل الدولة, فكان التقليد أن يكون هناك وصي علي العرش لحين بلوغ الملك سناً يستطيع معه حكم البلاد وقد كان الوصي علي العرش وقتها هي امه الملكة “عنخ إس إن ببي”, وكذلك كان أخاها المدعو “جاو” واحداً من أكفاً موظفي عصر “ببي” والذي شغل منصب الوزير ( يعادل رئيس وزراء حالياً) في حكومة الملك إبن أخته.
وقد إستمرت السياسة المصرية تجاه الجنوب ثابتة, وقد ظهر “حرخوف” ليلبي النداء فقام بحملته الرابعة في عصر الملك “ببي الثاني” وهي الحملة التي إعتبرها هو تتويجاً لإجازات حياته وظل يتفاخر بها طوال عمره لانه بلغ فيها مدي لم يبلغه هو نفسه من قبل.
حرخوف والقزم الإفريقي
من أغرب الأشياء التي ذكرتها لنا نصوص مقبرة حرخوف هو الحملة التي قام بها في العام الثاني من حكم الملك “ببي الثاني” وعاد منها بالكثير من الأشياء وعلي رأسها قزم, تجاهل الملك ببي كل ما ذكره حرخوف بشان الحملة وظل يذكر القزم الذي علي ما يبدو كان يمثل أهمية فائقة للملك “ببي الثاني” وقتها , وسنعرف لماذا في السطور القادمة.
توغل “حرخوف” في بلاد النوبة القديمة هذه المرة حتي وصل إلى أواسط أفريقيا التي كان يسكن مناطق منها قبيلة من الأقزام, وقد نجح “حرخوف” فيإقناع واحداً منهم بالعودة معه إلى مصر, وقد عرفنا ذلك من خطاب أرسله له الملك “ببي الثاني” أناء حملته عندما أخبره “حرخوف” بما جري.
مرسوم ملكي للرفيق الأوحد والكاهن المرتل رئيس القوافل “حرخوف”: لقد فهمت ما قصدته من خطابك الذي أرسلته إلى الملك في القصر لتخبره أنك عدت سالماً من بلاد “يام” ومعك جنود الجيش, ذكرت أنك أحضرت كل الخيرات …… ذكرت في الخطاب أنك أحضرت “دنج” (كلمة مصرية قديمة تعني قزم) ليرقص رقصاً مقدساً من أرض الأرواح “تا -إخو” مثل القزم الذى أحضره من قبل حامل الأختام “با-ور-جد” من بلاد “بونت” في عصر الملك “إسسي” وقد قلت لجلالتي لم يحدث قط من قبل أن واحداً مثله قد تم جلبه ممن زاروا بلاد “يام”
الأقزام في مصر القديمة
لربما يتوقف المرء قليلاً عند هذا الجزء من الخطاب, فالنص يذكر أن القزم :يرقص رقصاً مقدساً, وهو ما نعلمه من وظائف الأقزام في مصر القديمة, والتي راها المصري القديم بشراً ذوي قدرات خارقة, فهيئتهم المختلفة عن البشر تمكنهم من فعل ما لا يستطيعه غيرهم وأوكل لهم مهاماً مقدسة مثل الرقصات الطقسية للإله “رع” عند شروق الشمس وغروبها , وقد كان الأقزام في مصر القديمة ينقسمون إلى نوعين: النوع الأول: الأقزام الأجنبية المجلوبة من إفريقياً علي الأرجح والتي كانت تشارك في الرقصات الطقسية, والنوع الثاني هو الأقزام المحلية (المصريون) وهؤلاء كانوا يعملون بالرقصات الطقسية أيضاً وكان لهم تخصص آخر وهو صناعة الذهب وذلك لأن أطرافهم وأصابعهم صغيرة تمكنهم من تشكيل الذهب بسهولة, وكذلك كان منهم من يسلك الحياة الطبيعية ويتدرج في المناصب حتي يصل إلى أرفعها وأشهرها العائلة الشهيرة من الأقزام التي خدمت في عصر الدولة القديمة والأسرة الرابعة والتي كان منها النبلاء “سنب” و “بر ني عنخو” والذين كانوا مشرفي الأقزام في القصر الملكي وكانوا من ذوي الأملاك والضياع بل أن “سنب” تمكن من الزواج من إمرأة طبيعية من النبيلات.
ويذكر النص أن جلب الأقزام كان عادة مصرية قديمة أقدم من “حرخوف” نفسه فيذكر لنا جلب واحداً عن طريق قاد يدعي “با-ور-جد” خدم في عصر الملك “جد كا رع – إسسي” ثامن ملوك الأسرة الخامسة.
الملك الطفل
عودة إلى خطاب الملك “ببي” والذي كان الجزء الأخير منه منصباً علي الإهتمام الشديد بذلك القزم, ولا عجب في ذلك فقد كان الملك “ببي” وقتها طفلاً صغيراً يبلغ من العمر ثمانية أعوام فقط لا غير!
عد إلى البلاد عبر النهر وأترك كل شيء, أحضر معك ذلك القزم الذي جلبته من حياً وسليماً معافي حتي يقوم بالرقص المقدس ويسعد فؤاد ملك مصر العليا والسفلي “نفر كا رع” (ببي الثاني) فليحيا للأبد, عندما ينزل معك علي السفينة فليحرسه رجالك من حوله علي جانبي السفينة ولتحرص علي ألا يسقط في الماء, وعندما ينام في غرفته فلينم رجالك حوله ولتتفقده عشر مرات كلة ليلة لأن جلالتي يريد هذا القزم أكثر من الخيرات والكنوز.
وإذا وصلت وبصحبتك ذلك القزم سليماً معافي علي قيد الحياة, فإن جلالتي سيفعل لك من الأشياء ما يفوق الذي حصل عليه “با-ور-جد” في عصر الملك “إسسي”.
ببساطة نجد الملك “ببي” الطفل يطلب من حرخوف ترك كل شيء والعودة سريعاً لإحضار القزم, بل أنه يطلب منه أن يحيطه بفائق الإهتمام والحراسة بطريقة طفولية تعكس سن الملك وقتها.
وقد ختم حرخوف سيرته الذاتية بتلك الحملة التي علي كانت آخر حملاته ليتوقف بعدها عن مغامراته التي أصبحت مثلاً أعلي لكل من أتي بعده في المنصب.
رحل “حرخوف” ولم تتوقف المغامرات والامجاد المصرية.