“بحيرة قارون” هي واحدة من أكثر الأماكن التي نالت شهرة واسعة في الوجدان المصري وكذلك وجدان متحدثي العربية, فلطالما ربطو بينها وبين قصة “قارون” المذكورة في القرآن وبالتالي لدي هؤلاء فتلك البقعة لها أهمية قصوي في التاريخ اليدين باعتبارها مكان حدوث معجزة ربانية, ما حقيقة ربط تلك البحيرة بقارون وهلي تم تسميتها علي إسمه بالفعل؟ سنحاول تتبع تلك القصة في هذا المقال.
كيف تكونت بحيرة قارون؟
يرجع سبب تكوين تلك البحيرة طبقاً للجيولوجيين إلى تدفق ماء النيل في هذا المنخفض في العصر الحجري الحديث في أعقاب أحد الفيضانات العالية جداً, وذلك عبر ذلك الفرع الطبيعي المسمي الآن “بحر يوسف” والذي بدوره إسم حديث لا يعكس ماضيه القديم.
تاريخ بحيرة قارون
كانت مياه تلك البحيرة في عصر الدولة القديمة – عصر بناة الأهرام- تملأ الجزء الأكبر من منخفض الفيوم, كما كانت المستنقعات والأحراش تملأ جزءا آخر منه, وقد قامت بعد البلاد فوق المرتفعات التي ترتفع لأكثر من عشرون متراً فوق سطح البحر, وقد كانت قريبة للغاية من الحدائق والحقول مما جعلها منطقة صالحة للمعيشة والصيد وقد قسمها المصري القديم إدارياً إلى قسمين الأول: البحيرة الشمالية, الثاني: البحيرة الجنوبية.
الفيوم: مشروع قومي مصري
في عصر الدولة الوسطي شهدت البحيرة والمنخفض بأكمله أكثر الفترات إزدهاراً علي الإطلاق, فقد كانت السياسة الواضحة لملوك أسراتها – الحادية عشر والثانية عشر- إلى سياسة إستصلاح الأراضي والمشاريع الزراعية العملاقة, فقد أقاموا العديد من الجسور والسدود في أماكن حول البحيرة وأنشأوا عدداً من المدن حولها, فازدهرت المنطقة إزدهاراً غير مسبوق وأقيمت العديد من المعابد الكبري في ذلك الوقت.
فنجد علي سبيل المثال اللاهون, هوارة, مدينة الفيوم “شدت” قديماً, أم البريجات وكذلك مدينة ماضي وقصر الصاغة, وقد كان أكثر الملوك الذين إهتموا بالفيوم في ذلك العصر هو الملك “أمنمحات الثالث” مشيد هرم هوارة, وقد إرتبط إسم أمنمحات الثالث أيضاً بأثر أورده هيرودوت وأطلق عليه “قصر التيه” أو اللابيرانت.
وعلي الأرجح فإن هذا الأثر هو المعبد الجنائزي الخاص بالملك والذي تحول إلى اسطورة لاحقاً في أذهان العالم القديم وأصابه من الشهرة نصيباً بعد رواية هيرودوت.
الفيوم في عصر البطالمة
مع بداية عصر البطالمة نالت مدينة الفيوم نصيباً من الإزدهار, في ذلك الوقت كانت البحيرة القديمة قد إنحسرت بشكل كبير عن العديد من الأراضي التي فقدت أهميتها الزراعية, وفي القرن الثالث ق.م قام بطلميوس الثاني باستخلاص جزء كبير من البحيرة وقام باصلاحات زراعية واسعة.
كما قام بإنشاء بلدان كثيرة في تلك المنطقة مثل: ديميه, سنورس, كوم أوشيم أو كرانيس, ترسا وقصر البنات وكذلك قصر أهريت وقصر البنات وقارون.
الفيوم في عصر الرومان والعرب
كان سكان تلك المنطقة يستخدمون مياه البحيرة للشرب وري الأراضي لانها كانت عذبة نسبياً وقتها, وكذلك إستخدموا شبكة الترع والقنوات التي كانت تمتد بطول البلاد وعرضها ومنها ترعتان كانتا تمران شرق غرب البحيرة والأخري جنوب غرب واللتان كانتا تتفرعان من بحر يوسف.
في العصور الرومانية طالت البلاد حالة تدهور واضح وإمتد ذلك في بداية العصور الإسلامية وعلي الرغم من ذلك فقد ظلت تلك البلاد مليئة بالسكان وعثر فيها علي الكثير من البرديات والآثار , وقد كان خراب الفيوم مقترناً بإهمال تطهير القنوات والترع والتي أفقدتها أهميتها الإستراتيجية.
إلا أننا نجد بجوار إستمرار سكني تلك المناطق فإن الأهالي إستمروا في زراعة بعض الأراضي مستخدمين مياه البحيرة وكذلك السواقي, وبمرور الزمن زاد إنحسار مياه البحيرة حتي أصبح مستواها 45 متراً تحت سطح البحر.
أصل تسمية الفيوم
في العصور المصرية القديمة ومع تأسيس المدينة أطلق عليها المصري القديم إسم “شدت” وبمرور الوقت وتعمير تلك المنطقة إختلفت أسمائها بمرور الزمن حتي وصلت في القبطية إلى “بيوم” والتي تعني البحيرة في إشارة لبحيرة قارون, ومن ثم تم تحوير ذلك الإسم ليصبح الفيوم بعد ذلك وهو الإسم الحالي لتلك المنطقة اتي أصبحت محافظة بنفس الإسم.
أما بعض الخرافات المحلية المنتشرة فتعزي إسم المحافظة إلى لفظ “ألف يوم” نظراً لأسطورة شعبية تقول بأنها بنيت في ألف يوم, وذلك التفسير ليس لها أصل ولا نصيب من الصحة ويستمد قوته فقط من تداوله وترديده.
بحر يوسف وأصل التسمية
وهي الفرع الذي يصل محافظة الفيوم بالماء, وينبع من ترعة الإبراهيمية من ديروك بمحافظة أسيوط تشق طريقها مروراً بالمنيا ثم بني سويف حتي تصل إلى الفيوم, وهي المصدر الرئيسي الذي يمد محافظة الفيوم بالمياه العذبة.
وقد كان بداية العصر الذهبي للمنطقة في عصر أمنمحات الثاني الذي قام بتحويل قناة من المجري النيلي لتلك المنطقة وإنتهت ببحيرة قارون.
أما عن تسمية القناة بإسم “بحر يوسف” فتزعم رواية شائعة أنها تمت تسميتها تيمناً بالنبي يوسف, إلا أنه ومع البحث وراء ذلك الإفتراض نجد انه لا أصل له ولا مصدر معتمد يمكننا من إعتماد هذا الإفتراض, وعلي الرغم من ذلك فإن الكثيرين الآن يعتقدون إعتقاداً يشبه اليقين أن للنبي “يوسف” يداً في ذلك المشروع وقدماً في محافظة الفيوم وهو ما ليس عليه أي دليل سواء ديني أو أثري بأي شكل من الأشكال.
وأحد اهم المعطيات التي تنفي تلك المزاعم هو أن إسم ذلك الفرع من النيل كان إسمه حتي القرن الرابع الميلادي هو “بحر المنهي” وذلك واضحاً في المصادر العربية نفسها.
والآن, إن كان إسم ذلك الفرع هو بحر المنهي فمن إين أتي إسم “بحر يوسف” إن لم يكن تيمناً بالنبي “يوسف”؟
بحر يوسف وصلاح الدين الأيوبي
حتي العصر الأيوبي إحتفظ فرع “بحر يوسف”بإسم “بحر المنهي” , وفي العصر الأوبي حمل ذلك الإسم: بحر يوسف وذلك تيمناً بصلاح الدين الأيوبي نفسه وإسمه: يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي.
قارون والفيوم
أما أشهر الأسماء التي إرتبطت بمدينة الفيوم هو بالطبع قارون, فيعتقد الكثيرون أن للمدينة صلة بقصة قارون المذكورة في القرآن, بل أن هناك معبداً يحمل إسم قصر قارون, وتمضي الرواية بأن ذلك المعبد كان مكان إقامة “قارون” وآثار التهدم بالمعبد هي آثار الخسف, أما كنوز قارون فتقع أسفل البحيرة التي تم تسميتها بإسم “ٌقارون” نفسه, وكالعادة يعتقد معتنقي تلك الرواية أنها حقيقة لا تقبل الجدال.
إلا أن حقيقة الأمر مختلفة تماماً, فعلي سبيل المثال وبداية القول فإن بحيرة قارون لا تعرف بذلك الإسم إلا في العربية, فاللغات الأخري تطلق عليها lake moeris بحيرة مورس فلم ذلك الإختلاف؟
الموضوع بسيط فقد كان إسم البحيرة في ذلك الوقت هو “مر ور” وكذلك بحر يوسف حمل نفس الإسم ويعني : البحيرة العظيمة, وقد تطور الإسم في اليونانية ليصبح “مورس” وهو الذي ورثته اللغات الاجنبية لاحقاً وعلي رأسها الإنجليزية.
أما في العربية فالبحيرة تحمل إسم “قارون” , ولذلك قصة مختلفة تماماً عن قصة قارون, في العصور العربية كانت البحيرة تسمي “قرون” لكثرة قرونها وخلجانها, ومع مرور الزمن تطور الإسم إلى “قارون” ومن ثم تم ربطه بقصة قارون وتم نسج الأساطير بهذا الشان حتي تحولت إلى ما يشبه الحقيقة الواقعة, وقد ساعد علي دعم تلك التسمية الخرافية هو مكان آخر بالقرب من البحيرة يسمي قصر قارون, فماهو؟
حقيقة قصر قارون
يقع قصر قارون بالقرب من مركز بمحافظة الفيوم يسمي “يوسف الصديق”, وعلي ما يبدو بالفعل أن تلك المنطقة قد سميت تيمناص بالنبي يوسف, أما القصر نفسه فعبارة عن معبد من العصور اليونانية والرومانية, وقد خصص ذلك المعبد للإلهين “دونيسيوس” إله الخمر لدي الإغريق وكذلك الإله التمساح المصري “سوبك”, اى أن ذلك المبني عبارة عن معبد وليس قصر, وعلي الرغم من زايدة الوعي بذلك الإسم إلا أنه إحتفظ باسمه القديم “معبد قصر قارون”, إلا أن زيادة الوعي لم تنفي الربط الخرافي بين ذلك المعبد وبين قصة قارون.
ولربما ترجع تسمية قصر إلى الإعتقاد العربي ان الآثار المصرية كالمعابد هي عبارة عن قصور , وهو ما حدث بشكل مشابه في مدينة الأقصر العامرة بالمعابد والتي تم تسميتها الأقصر إعتقادا ان معابدها قصوراً.
الفيوم مدينة التمساح
إرتبطت مدينة الفيوم باكملها بالمعبود التمساح المصري القديم “سوبك”, وهو أحد أكثر الآلهة المصرية القديمة صموداص طوال التاريخ المصري القديم فقد عرفه المصري القديم وقدسه بداية من عصر الدولة القديمة وحتي العصور الرومانية, وقد حاز “سوبك” علي مكانة عليا في مصر القديمة في عصر الدولة الوسطي مع توجه ملوكها للفيوم فأصبح “لسوبك” مكانة عليا في تلك المنطقة مع تبني ملوك الدولة الوسطي له والتيمن به, وقد تعددت صور وتحولات سوبك بمحافظة الفيوم وتم ربطه لاحقاً بالإلهين رع وحورس.
ختام
في نهاية تلك الرحلة الشيقة التي خضناها عبر الزمان والمكان فلا مفر سوي التوقف عند هذا التحليل نظراً لوجود تيمة مكررة متعلقة باماكن كثيرة في مصر, تلك التيمة تتمحور حول إطلاق أسماء عربية علي بعض المناطق ومن ثم ربطها بالباطل بشخصيات دينية لها قدسية لدي الناس مما يطمس التاريخ الحقيقي لتلك المناطق, فعلي سبيل المثال نجد تلك التيمة مكررة في مكان مثل “البدرشين” والتي يزعم البعض أنها كانت مقر سجن يوسف الصديق ويتعاملوا مع تلك القصة وكأنها حقيقة أخري لا تقبل الجدال, أما عن صوامع الغلال فحدث ولا حرج فما أن تذكر وجود صوامع غلال أثرية في أى مكان في مصر فستجد أحد ما ينسبها للنبي يوسف عليه السلام بدوره, وبالطبع مفهوم أن التبرك بالأنبياء عادة مشهورة يتبعها البعض لنيل البركات وهو شيء محمود لا غبار عليه, ولكن ما أن يحدث ذلك فتتم نسج قصص بتفاصيل كثيرة متعلقة بالتسمية المغلوطة حتي تتحول في أذهان البسطاء لوقائع تاريخية ينسي امامها التاريخ الحقيق.