لا شك أن أقوى حكام مصر قاطبة في تاريخها وأعظمهم سيرة هو الإمبراطوري المصري “تحتمس الثالث” الذي توج جهود جده الملك “تحتمس الاول” وحول مصر إلى إمبراطورية مترامية الأطراف يمتد سلطانها لأفريقيا وآسيا, ومع وفاة تحتمس كان عرش مصر تحدياً لمن سيأتي بعده وهو ما حدث بالفعل مع خليفة تحتمس وولده الملك “امنحتب الثاني” الذي أغلفته كتب التاريخ عن غير عمد نظراً لعظمة والده إلا ان أمنحتب لم يكن ليقل عن والده عظمة وإنجازات.
فليحيا حورس الثور القوى, عظيم القوة ملك مصر العليا والسفلي ذو السلطان الذي ظهر ملكاً في طيب, حورس الذهبي الذي يتغلب بصلوجانه في كل الأراضي ملك مصر العليا والسفلي “عا خبرو رع” إبن رع أمحتب حاكم هليوبوليس إبن آمون وخليفته.
من نص لوحة أبو الهول للملك أمنحتب الثانى
النشأة
الإمبراطور أمنحتب الثاني هو إبن الإمبراطور المصري “تحتمس الثالث” أقوي ملوك مصر قاطبة وأحد أشهر أباطرة العالم القديم, لم يكن الأمير أمنحتب هو ولي عهد أبيه منذ البداية فقد كان ولي العهد هو أمير يدعي “أمنمحات” من الزوجة الرئيسية لتحتمس الثالث والتي كانت تدعي ” سات إيعح”, ولكن ما بين الاعوام 24 و 35 من حكم تحتمس الثالث توفي امنمحات وأمه هنا تزوج تحتمس الثالث من زوجة ثانوية تدعي “حتشبسوت-ميريت رع” وهي التي أنجبت له الأمير “أمنحتب” الذي سيصبح الملك أمنحتب الثاني لاحقاً.
أمنحتب يتعلم في مدينة منف
تم إرسال الأمير “امنحتب” إلى مدينة “منف” العريقة ليتلقى تعليمه وتربيته هناك, وهناك تعلم أصول الفروسية وأصبح مقاتلاً لا يشق له غبار, وهناك في منف ترقي في المناصب حتي أصبح الكاهن الأكبر لمصر العليا, وشغل العديد من المناصب الإدارية, وفي نهاية فترة بقائه في منف أصبح أمنحتب هو القائد الأعلي للجيش المصري ولطالما تفاخر أمنحتب الثاني بمهارته القتالية في الفروسية والرماية والقتال وسرد ذلك في العديد من الآثار حول مصر.
الإمبراطور أمنحتب الثاني
«لقد أتمَّ الملك حياته الحافلة بالسنين بشجاعةٍ وسلطانٍ ونصرٍ من السنة الأولى إلى السنة الرابعة والخمسين؛ في اليوم الثلاثين من الشهر الثالث من الفصل الثاني، وهو حكم الملك «من خبرو رع»، ثم صعد إلى السماء واتحد مع الشمس، واندمجت الأعضاء المقدسة مع بارئها، وعندما انفلق الصبح وأشرقت الشمس وأضاءت السماء، تربَّعَ «أمنحتب» الثاني على عرش والده وتلقَّب بالألقاب الملكية.»
من نصوص القائد:آمون إم حب
والآن فقد ظهر جلالته ملكاً شاباً عفياً, بعدما تمت تنشأته وأكمل الثمانية عشر عاماً من القوة والشجاعة
لوحة أبو الهول
بعد تنشأة ناجحة في مدينة منف نجد أن النقوش المصرية قد أخبرتنا أن “أمنحتب” قد تم تتويجه في حياة والده وهو ما يعني بالتبعية أنه كان مشاركاً في الحكم مع والده “تحتمس الثالث” ويرجح علماء المصريات أن تلك المشاركة في الحكم قد إستمرت علي الأقل ما يزيد علي السنتين بأربعة أشهر, وفور توليه العرش نجد أم أمنحتب قد إختار زوجته الملكية الكبري والتي كان إسمها “تيا” والتي ستنجب له إبنا أطلق عليه “تحتمس” سيصبح بعد ذلك ه تحتمس الرابع الإمبراطور القادم خلفاً لأبيه أمنحتب الثاني.
أمنحتب الثاني: البطل الخارق للعادة
كان أمنحتب الثاني مولعاً بالرماية منذ نعومة أظافره, في المقبرة رقم 109 غرب طيبة والخاصة ب “مين” عمدة طيبة وقت تحتمس الثالث وأحد جنوده في شبابه منظراً له وهو يحمل الأمير أمنحتب الثاني وهو لا يزال طفل صغير جداً وهو ما تدعمه النصوص بان تنشأة أمنحتب كانت موكلة لهذا المحارب العتيد ونجد في المقبرة منظراً آخر لمين هو يدرب الأمير أمنحتب علي الرماية فنراه يقف خلفه يوجهه وهو يصوب سهامه إلى هدف يظهره المنظر قد أصباه الأمير بدقة شديدة أربعة مرات سابقة وتقول نقوش المقبرة أن “مين” قد لقن الأمير الصغير القواعد الأولية في تعليم الرماية قائلا: شد القوس حتي أذنك, إستعمل كل قوة ذراعيم وثبت السهم يا أيها الأمير أمنحتب.
تصف نصوص شباب الأمير أمنحتب الثاني بعض قدراته ومهاراته الإستثنائية فنجد اللوحة الشهيرة بلوحة “أبو الهول” التي أقامها الملك أمنحتب الثاني تخبرنا ببعض مهارات ذلك المقاتل الفتي, فتصفه بانه كان منقطع النظير في الميدان وماهراً في معرفة الخيل وأنه تفوق علي كل أقرانه في الميدان فلم يستطع احد أن يشد القوس مثله ولا يسبقه في الجري.
ثم تمضي اللوحة وتذكر مهارات الأمير في التجديف وتصف أنه كان يجدف في حؤخرة سفينة علي متنها مائتان من المجدفين أصابهم الملل والتعب إلا فهو فأكمل للنهاية, أما عن الرماية فقد إستطاع إختراق أربعة أهدف من النحاس الآسيوي ما بين كل واحد والآخر عشرون ذراعاً وإخترقهم جميعاً بسهامه, وهو المنظر الذي سيتكرر لاحقاً في مناظر مشابهة لملوك آخرن استلهموا تلك الفكرة من أمنحتب الثاني، اما عن غرامه بالخيول فحدث ولا حرج فكان يعرف طبائعها وماهراً في تدريبها وتطويعها
ثم تنتهي اللوحة بفقرة ختامية لتعلن جاهزية الأمير الشجاع لتولي عرش البلاد
ولما وصل خبر ذلك من القصر إلى سامع والده «حور» الثور القوي الذي يشرق في «طيبة»، كان له أثر طيِّب في قلب جلالته عند سماعه، وفرح بما قيل عن ولده البكر، وقال في قلبه: إنه هو الذي سيكون سيد البلاد قاطبة، ولن يوجد مَن ينازله؛ لأنه يضحي بنفسه لإحراز الشجاعة، وينعم بالنصر، وإنه لا يزال طفلًا رقيقًا، ولم يصل بعدُ السنَّ التي يأتي فيها بعمل «منتو»، ولكن تأمَّلْ! فإنه قد تغاضى عن شهوات الجسم، وأحَبَّ الشجاعة؛ لأن الإله هو الذي وضع في لبِّه أن يفعل هكذا حتى يستطيع أن تصبح مصر محميةً به، وتنحني إجلالًا له.
النص واللوحة كلها عبارة عن جزئين:
- الأول هو مديح أمنحتب الثاني.
- والثاني عبارة عن شجاعته وبسالته وأعماله الخارقة للعادة.
- إلا أن تلك اللوحة كانت مثار جدل بين علماء المصريات الذين رأوا في المذكر مبالغة واضحة لإمكانيات وقدرات أمنحتب الثاني.
- وهو ما أتفق معه شخصياً ولكن الأحداث التي تلت تولي امنحتب الثاني لعرش الإمبراطورية المصرية أثبتت أنه كان أهلا للسمعة التي أطلقها علي نفسه.
- فقد أصبح أمنحتب الثاني واحد من أشرس ملوك مصر المقاتلين. والأسد الكاسر الذي كان يخشاه أعداؤه ويعملون له ألف حساب.
- وهو ما يوضح إيمانه التام بقدراته. والتي أثبت فيها جدارته بالملكية. وبوصفه أشجع مقاتلي الجيش المصري وقائده.
- أما عن حرب وحملات أمنحتب الثاني وبطولاته في المعارك فسنفرد لها مقالاً في وقت لاحق.
سر حتشبسوت
كما ذكرنا في مقال سابق فإن فترة الحكم المشتركة ما بين “تحتمس الثالث” و”حتشبسوت” كان دوماُ مثار لغط قديماً وحديثاً, فحتي مع قبول “تحتمس الثالث” في شبابه لذلك الوضع وعلي الرغم من الروابط الأسرية بين الإثنين باعتبار أن حتشبسوت هى عمته وزوجة أبيه إلا أن تولي إمرأة لعرش مصر منفردة قد يشكل مشكلة مستقبلية للملوك الذين سيلون تحتمس الثالث علي العرش, وتلك المشكلة لم تكن حتي مطروحة طوال سنوات حكم تحتمس الثالث المنفردة ولكن لسبب ما نجد أن ذلك قد تغير لاحقاً.
طمس فترة حتشبسوت
فالمدقق في الأمر يجد أنه مع السنوات الأخيرة لحكم الملك تحتمس الثالث وبداية سنوات حكم الملك أمنحتب الثاني أن ذلك الوضع قد تغير تدريجياً وظهر إتجاه قوي لمحاولة طمس فترة حتشبسوت فنجد أن بعض من تماثيل الدير البحري من معبد الملكة قد تم تهشيمها وإعادة إستخدام أحجارها كحشوات في معبد الكرنك, بل أنه يعتقد أنه كانت هناك محاولة لإحاطة مسلتها الشهيرة بالكرنك أيضاُ بحائط !
فما تظهره الأدلة أمامنا أنه كانت هناك محاولة لإعادة كتابة تاريخ حتشبسوت مرة أخري, وأن ذلك لربما حدث مع نهاية عصر الملك “تحتمس الثالث” هو ما يشمل فترة الحكم المشترك بينه بين إبنه “امنحتب الثاني”, وقد توجهت أصابع الإتهام ناحية امنحتب الثاني نفسه باعتباره المشرف علي تلك العملية منذ ان كان ولياً للعهد شريكاً في الحكم.
نظريات علماء المصريات
- في البداية كانت علماء المصريات الأوائل يتبنون نظرية أن تحتمس الثالث هو من قام بذلك منفرداً. باعتباره عمل إنتقامي من حتشبسوت لأنها حيدته جانباً واستولت علي العرش.
- إلا ان الاتجاه الحديث بناء علي ادلة أحدث ينبئ بعكس ذلك. فمناظر حتشبسوت مع تحتمس الثالث لا تزال باقية حتي الآن. وتظهرهما في تناغم سوياً.
- كما أن تحتمس الثالث قد حكم منفردأ. لما يربو علي عشرون عاماً. فلم انتظر كل تلك الفترة ليقوم بمحو اسم حتشبسوت (عمته وزوجة أبيه وأم زوجته!)؟
ومما يزيد من الأمر حيرة أن هناك مناظر كثيرة لحتشبوت لا تزال كاملة لم تمس سواء وجه الملكة أو حتي الخرطوش الذي يوضع إسمها به فإذا كانت تلك العملية إنتقامية فلم حدثت بشكل غير كامل في أشهره معابدها وهو الدير البحري؟! كما أن النصوص لم تخبرنا تحديداً عن أى سبب لمثل ذلك العمل ولم تغيرت السياسة المتسامحة المبجلة لحتشبسوت فجأة؟
لماذا محيت آثار حتشبسوت؟
وقد خرج بعض علماء المصريات بفرضية معقولة وهى أن الغرض من ذلك (أيا كان من فعله سواء تحتمس الثالث أو حتي أمنحتب الثاني) هو إعادة حتشبسوت لمكانتها الأصلية باعتباره وصية علي العرش كما كان مقدراً لها عندما تولت الوصاية علي عرش تحتمس الثالث عندما كان صغيراً, وهو المنصب الذي كانت تشغله النساء في مصر القديمة وكان يعطيها صلاحيات واسعة وسلطة فعلية فيخبرنا التاريخ بالملكة الباسلة “إيعح حتب” ام الملك أحمس قاهر الهكسوس والتي تولت الوصاية علي عرشه وهو طفل صغير وقامت بمهمتها علي أكمل وجه لتؤهل إبنها البطل أحمس ليحسم آخر فصول صراع مصر في حروب التحرير من الهكسوس.
عملية انتقائية للمحو
وبناء علي ذلك التفسير الجديد نجد أن عملية المحو كانت للآثار الواضحة جداً للاعين والملفتة للنظر لذلك كانت إنتقائية, ومما نعلمه من الثقافة المصرية القديمة أن المصري القديم آمن أن كل فرد في المجتمع وظيفته تجري طبقاً لنظام الماعت المصري القديم والذي يعني العدالة والإنتظام الكوني وقد كان تولي حتشبسوت للعرش خرقاً للماعت نفسها وحلقة مفقودة في النظام الملكي المصري العتيد المرتبط بالديانة المصرية القديمة فالملك هو حلقة الوصل بين أرض مصر قاطبة وبين عالم الآلهة, وهي الثقافة التي نجد له شبيهاً حتي في وقتنا الحاضر مثل أن المرأة لا يمكن أن تشغل منصب البابا أو شيخ الأزهر علي سبيل المثال بدون أن يكون هذا المنع مرتبطاً بالتقليل من شان المرأة او أجحافاً لحقوقها فهى قاعدة يتفق عليها الجميع النساء قبل الرجال فلم تكون مصر القديمة إستثناء؟
وعلي الرغم من كل هذا فإن الدارس لا يمكن أن ينكر أنه وعلي الرغم من عدم شرعية حتشبسوت في توليها لعرش مصر إلا أنها قد أدت المهمة بكفاءة تامة وتميزت فترتها بالرخاء والإزدهار الإقتصادي فادت مهمتها علي أكمل وجه مثلما أداها أسلافها العظماء من قبلها.
لماذا محيت أسماء ملوك بعينهم؟
والحالات الإستثنائية لمحو ملوك بعينهم في مصر القديمة قد تكررت مع أسماء مثل : إخناتون, توت عنخ آمون بل وأسرة العمارنة كلها, وقد كانت الأسباب منطقية كما هي في حالة حتشبسوت لان تلك الأسرة كانوا مخالفين للعقيدة المصرية القديمة مفسدون للملكية المصرية مهدرون لمقدرات مصر وحكومتها وبالتالي لم يفتخر بهم المصريون كثيراً, وفي العصر الحديث ومع تطور معرفتنا بالأمور إستطاع العلماء فك لغز الكثير من الفترات الغامضة في تاريخ مصر القديم بل أن أى محاولات محو أى حقبة تاريخية إستطاع العلماء معرفة أدق التفاصيل عنها وهو ما يعني أن تلك المحاولات قد فشلت جميعها وأصبح لدينا تاريخ مكتوب واضح مدعوم بالأدلة.
حالات استثنائية
وما نود قله أن تلك الحالات كانت إستثنائية ونادرة وليس كما يشيع البعض بان كل ملك مصري كان يمحو سيرة من سبقه علي العرش وهو الإفتراض الخالي من المنطق الذي يسطح الأمور ويعتمد علي قشور المعرفة ومهملاتها, فإن كانت تلك العادة شائعة (كما يزعم البعض) لدي كل الملوك فكيف عرفنا عن كل الملوك السابقين إذا كان خلفاؤهم قد محو أسمائهم؟!!