المقابر المصرية هى واحدة من الموضوعات التي لطالما أثير حولها الجدل والخيال علي مر العصور والثقافات, فتارة هى بيوت الأبدية للمتوفين الذين يتمنون النعيم الأبدي وجنات الخلود , وتارة اخري هى هدف اللصوص والنهب والسرقات وحتي الباحثين عن الكنوز، وفى أحيان أخري هي مساكن للجن والعفاريت التي يظنون أنها تحرسها, وفي جميع الأحوال كان الدافع الرئيسي لكل تلك الأفكار هي إيمان المصري القديم بالبعث والخلود وكذلك المثتنيات المذهلة التي تحتويها المقابر المصرية،لكي نعرف الأمر منذ البداية لا بد أن نعرف كيف إحتوت المقابر المصرية علي هذا الكم من المقتنيات ومتي بدأت سرقات المقابر في العصور القديمة في مصر؟
رحلة الخلود
كان للمصريين القدماء تصور عن الحياة ما بعد الموت وقد تطور هذا التطور عبر العصور حتي وصل إلى الدفنات المذهلة لوادي الملوك وغيرها, في بداية الأمر رأي المصري القديم أن كل شيء في الكون له دورة لا نهائية فالشمس تشرق وتغرب كل يوم وتعود لتشرق من جديد في اليوم التالي, كذلك الفيضان الذي يفيض ثم يغيض ويعود للفيضان مرة أخري, الأرض تنتج المحاصيل وتموت ثم تعود للحياة مجداد فلم يكون الإنسان إستثناء؟
رأي المصري القديم بناء على كل تلك المعطيات وغيرها أنه لا بد للإنسان من أن يمر بدائرة مماثلة لا نهائية لذلك لم ير أن الموت هو نهاية المطاف فهو مجرد شيء مؤقت سيستكمل الحياة بعده ومن هنا بدأ التفكير في الإعداد لتلك الحياة، وعلي الرغم من ذلك نجد ان المصري القديم كان يخاف من الموت خوفاً شديداً ويعمل له ألف حساب وبعد كل شيء لا يضمن أن ينعم بحياة أخري أبدية.
في البداية كانت الدفنات المصرية عبارة عن دفنات بسيطة يوضع فيها الجسد وحوله مقتنيات بسيطة جدا وأحيانا رمزية لها وظائف طقسية تخدم كلها فكرة البعث والخلود، وقد بدأت تلك الدفنات منذ عصور مبكرة في التاريخ المصري تسبق توحيد القطرين فيما عرف بحضارات ما قبل الأسرات.
مع توحيد القطرين وجلوس الملك “نعرمر” أو “مينا” علي عرش مصر كأول ملك لمملكة مصر بقطريها الشمالي والجنوبي أصبح لدي المصريون وقتاً يمضونه في الإبداع والفنون ووضع اللبنات الأساسية للحضارة المصرية التى ستسمر مع عصر الأسرات حوال ثلاثة آلاف عام.
مع تطور الفكر الديني توسع المصريون في بناء المقابر وأصبحت أحجامها أكبر علي الرغم من تلك العصور المبكرة, فنجد دفنات غاية في الضخامة لملوك مثل الملك مينا نفسه وكذلك الملك “حور عحا” من الأسرة الأولي, وهى المنطقة المعروفة بام الجعاب في أبيدوس بمحافظة سوهاج، كذلك فقد إحتوت تلك المنطقة علي بناء طقسي غاية في الضخامة يخص الملك “خع سخموى” من الأسرة الثانية, وعلي الرغم من ضخامة تلك المقابر والمباني إلا أنها قد نهبت كلها عن بكرة أبيها ولم يتبق منها شيء باستثناء بعض الأشياء البسيطة جدا غير ذات الأهمية للصوص ولكنها لا تقدر بثمن بالنسبة لعلماء الآثار, وإلى هذه اللحظة فنحن لا نعلم ماذا حل بتلك المقابر بعد إكمال عملية الدفن إلا ان فراغها من محتوياتها كان مؤشرا لأن عمليات سرقات المقابر قد بدأت منذ عصور مبكرة ع تشييد المقابر نفسها.
سرقات المقابر
مع تطور سرقات المقابر نجد أن المصريون القدماء قد لجأوا لتعقيد دفناتهم أكثر فأكثر, فعلي سبيل المثال وحتي في مقابر الأفراد نجد أن الطراز الذي كان متبعاً فيما عرف بالعصر العتيق والدولة القديمة (عصر بناة الأهرام) هو ما سمي بالمصطبة, وهو بناء فوق الأرض يحتوي علي غرف منقوشة بمناظر الحياة اليومية والتي تحمل كلها رموزاً ورسائل دينية, كما يتم تقديم القرابين في تلك لغرف علي روح المتوفي نفسه, بينما تقبع الدفنة في بئر عميق أسفل تلك المقبرة, وقد أثبتت الفحصو الأثرية أن طريقة الدفن كانت تتم في تلك الأبنية بان يتم إنزال التابوت والمقتنيات إلي البئر الذي يؤدي لغرفة أو اكثر تحت الأرض ومن ثم يتم ردم ذلك البئر باستخدام الحصوات أو مواد مشابهة ومن ثم يتم إغلاق ذلك البئر إلي الأبد بطبقة من الملاط وتخبئته ببناء المصطبة فوقه، إلا انه وعلي الرغم من ذلك فغالبية تلك المقابر التي كانت من ذلك الطراز قد نهبت جميعها عن بكرة أبيها .
ولكن طبيعة الدفن نفسها قد قدمت شيئاً في غاية الأهمية وهي أنه ومع تعدد المقتنيات التي تدفن مع المتوفي نجد أن اللصوص كاناو انتقائيين فقد قاموا بسرقة الأشياء النفيسة في بعض الحالات وتركوا ما هو لا قيمة لهم بالنسبةة إليهم كجسد المتوفي بعد تجريده من لفائف الكتان لسرقة التمائم التي توضع بين تلك الطبقات, كذلك فإن بعض المقتنيات قد تبقت مثل الصناديق الخشبية والأدوات وحتي التمائم المصنوعة من مواد غير نفيسة فلم تكن هذه هدفاً للصوص بأي حال الذين كان جل إهتمامهم هو الذهب والفضة أولاً يليها أى شيء ذو قيمة، وعلي الرغم من وضوح عمليات السرقة الممنهجة التي حدثت لتلك المقابر إلا أنه لم يكن تحت أيدينا في معظم الاحوال أدلة تخبرنا بما حدث بل وكيف إستطاع هؤلاء اللصوص تجاوز تلك التعقديات الأمنية والنجاة بفعلتهم, ولربما يرجع ذلك إلى أن مقابر الأفراد لم تحظ بذات الأهمية التي حظيت بها مقابر الملوك والتي فتح من أجلهم تحقيقات بشان سرقات مقابرهم سنعرف عنها لاحقاً.
إيمحوتب
مع ظهور المهندس الشهير إيمحوتب في بداية الأسرة الثالثة نجد أن الأبنية والدفنات الملكية قد إنتقلت لمرحلة أخري متميزة من الإحترافية والتعقيد, فقد كان البناء من الحجر وعلي نطاق واسع وهو السمة التي ستتكرر بعد إيمحوتب وحتي نهاية الحضارة المصرية, وإذا إتخذنا هرم الملك “زورس” كمثال فنجد أن إذا قمنا بمد جميع الأنفاق والغرب التي بنيت تحته فيمكنها أن تمتد لمسافة ثلاثة كيلومترات كاملة, بل أن المصريون تجاوزوا ذلك إلى صنع ما يشبه بمدينة كاملة تحت الأرض خصصت للملك والأسرة المالكة يؤدى إليها أنفاق غاية في العق والتعقيد, وعلي الرغم من ذلك أيضاً فقد نهب هرم الملك “زوسر” بل أنه تم فتحه وترميمه بعد بناءه بأكثر من ألف وخمسمائة عام في فترة عرفت بالعصر الصاوي حيث قاموا بعمل مدخل جديد للهرم ومن ثم تدعيمه وتدعيم حتي غرفة الدفن مما يوحي بان الهرم علي الأقل كان في حالة جيدة حتي ذلك العصر, أما في العصر الحديث فلكي يستيع المرء زيارة الهرم قامت السلطات المصرية بإزالة حوالي ستمائة طن من الرديم والحطام من داخل الهرم وأنفاقه لكي نتمكن من زيارته, وما تم العثور عليه كان بعض المقتنيات البسيطة وأجزاء صغيرة من مومياء يعتقد أنها للملك “زوسر” مؤسس الأسرة الثالثة ومشيد الهرم المدرج، فيمكننا وبقليل من الخيال محاولة معرفة ماذا كان يحوي ذلك الهرم من الداخل من كنوز ومقتنيات وكذلك تابوته المهول الذي يبلغ 170 طن.
أهرامات الجيزة
أما عن أهرامات الجيزة فحدث ولا حرج, فالمعمار الجنائزي للمقابر المصرية كان يشير بشدة إلي عمليات سرقة المقابر حيث أن المصريون في أهرامات الجيزة قد قاموا بطمس جميع معالم مدخل الهرم, كذلك فالأنفاق الداخلية بعضاً منها لا يؤدي لشيء وكأنه فخاخ للصوص, علاوة علي ذلك فنجد أن المصريون القدماء عند غلقهم للهرم والدفنة بداخله انهم صنعوا نظاماً من الجلاميد الجرانيتية التي تغلق كل ممرة وغرفة وكأنها سدادات حجرية لمنع اللصوص وعلي الرغم من ذلك فقد سرقت أهرامات الجيزة كلها والسبب واضح أولا هو حجمها الهائل الذي كان يعتبر بمثابة دعوة لكل طامع فى الكنوز وكذلك الكنوز التي لا تقدر بثمن التي كانت بداخل الأهرامات، بل أننا لا يمكن أن نعرف علي وجه اليقين كم المقتنيات بداخل الأهرامات المصرية وذلك لانها وببساطة قد نهبت جميعها.
إلا أن هناك كشفاً يمكن أن يعطينا لمحة عن المقتنيات الجنائزية التي كانت بداخل الأهرامات المصرية هو مجوعة أخري من الآثار وعلي رأسها المركبان العملاقتان للملك “خوفو” والتي عثر عليهما في حالة جيدة في حفر بجوار الهرم الأكبر وكانتا مصنوعتان من خشب الأرز الذي يجلب من جبيل في لبنان حالياً، بالإضافة إلى كشف في غاية الأهمية حدث عام 1902 علي يد بعثة هارفارد ومتحف بوسطن عندما عثروا علي كنوز الملكة “حتب حرس” أم الملك “خوفو”, ففي بئر يقع شرق الهرم الأكبر تم العثور علي غرفة تحت الأرض بها مقتنيات الملكة من صناديق للحلي والأساور الفضية المطعمة بالأحجار الكريمة, وكذلك غرفة نوم يمكن فكها وإعادة تنصيبها من الخشب المطلي بالذهب بل أنه تم العثور علي تابوت غاية في الفخامة من الألباستر إلا أنه عندما فتحوه كان فارغاً!
ووما يزيد من الأمر حيرة هو العثور علي الأواني الكانوبية الأربعة التي كان يوضع بها أحشاء المتوفي وكانت أحشاء الملكة موجودة بها, معظم المقتنيات كانت موجودة بخلاف مومياء الملكة نفسها!
وقد طرح ذلك الكشف تساؤلاً في غاية الأهمية هل سرقتا مقبرة الملكة الأصلية ومن ثم تم إعادة دفنها مرة أخري بذلك البئر؟ وإن كان ذلك قد حدث فأين المومياء؟
وهو ما يشير مرة أخري إلي سرقات المقابر والتي أصبحت ورغم التعقيدات والإحتياطات التي إتخذها الملوك قد وصلت إلى مرحلة من التعقيد مكنها من إختراق كل تلك الأنظمة الأمنية
وعلي الرغم من كل تلك التساؤلات فإن تلك الدفنة أخبرتنا بمدي أهمية وفخامة المقتنيات التي كانت توضع في المقابر الملكية المصرية، فإذا كانت مقبرة الملكة “حتب حرس” أم الملك “خوفو” بها كل تلك المقتنيات المذهلة فماذا عن هرم “خوفو” نفسه, والذى وجد فارغا من محتوياته؟
بل والاهم من ذلك كيف تمكن اللصوص من تجاوز كل تلك الإحتياطات الامنية والوصول إلى غرفة دفن الملك ومن ثم سرقة محتويات مقبرته بل والتمكن من الخروج من الهرم بكل تلك الكنوز؟
كل هذل يقود إالي المزيد من التساؤلات وعلي رأسها إذا كانت ملوك مصر ينظر لها علي انها آلهة كما يري الكثيرون فكيف كان يراهم لصوص المقابر وكيف تجرؤا علي سرقتهم؟ وهل كان هؤلاء اللصوص أنفسهم يؤمنون بحياة ما بعد الموت؟
علي الرغم من صمت الآثار المصرية في عصور كثيرة عن إمدادنا بمعلومات عن سرقات المقابر إلا أنه ومع نهاية الدولة القديمة وعصر بناة الأهرامات ظهرت لنا وثيقة غاية في الأهمية تحكي عما حدث بعد نهاية تلك الفترة وعلي رأسها سرقات المقابر فيما عرف ببردية “إيب ور” والتي سنتطرق لها في مقالنا القادم لنكمل رحلتنا عبر المقابر المصرية وسرقاتها.