ما زلنا مع حكايات بردية وستكار المثيرة والتي بدأناه بقصة معجزة شق البحر والتي لم تكن فقط هي القصة الوحيدة بتلك البردية احتوت على قصص أخرى أكثر إثارة.
نهب الآثار المصرية
أشرت سابقاً لتلك البردية الغامضة والتي كانت قصة استقرارها في المتحف المصري ببرلين أغرب وأغرب، ففي عام 1823 أتى المغامر البريطاني “هنري وستكار” إلى مصر وتذكر المصادر حصوله على البردية وقتها، كان مجيء “وستكار” إلى مصر خلال العصر الذهبي لكل باحث عن فرصة أو شهرة أو ثراء سريع في مصر التي كانت قبلة الأوربيين طوال فترة حكم “محمد علي”.
ففي تلك الأثناء تكررت لقطة “مغامر” العديد من المرات لوصف كل أوروبي أتى لمصر كسائح أو باحث عن الشهرة لينهب من كنوزها ما استطاعت يداه أن تصل إليه، ففي ذلك العصر كان الباشا يريد أن يجعل مصر تلحق بركب الأمم المتحضرة واتخذ كل السب لضمان ذلك من تواصل مع الغرب وتحديدا فرنسا وإنجلترا، أراد محمد علي أن يستعين بخبرات تلك الدول وغيرها لبناء مصر الحديثة وفي المقابل لاحظ هوسهم بالآثار المصرية والذي بدأ مع غزو نابليون لمصر.
مع تصاعد الهوس بالمصريات في تلك الدول مع توالى أخبار الحملة الفرنسية رسخ الفرنسيون أقدامهم أولا في ذلك المجال ومن ثم زاحمهم البريطانيون حتى أصبحتا الدولتان المسيطرتان علي مافيا التنقيب وتهريب الآثار في مصر وقتها، في ذلك العصر لم يكن الشرق يعرف شيئاً عن حضارة مصر وانحسرت معرفته في خرافات شعبية وقصص خرافية, بينما كان الغرب بدأ بالفعل البحث في أسرار تلك الحضارة والتي لم يعرف عنها شيئاً هو الآخر بسبب اندثار اللغة المصرية القديمة ولكنهم سبقوا الجميع بخطوة وهى ضرورة انتشال الآثار ووضعها في بلادهم وجعلوا لذلك أهمية قصوى.
مع الجهل بقيمة الآثار المصرية في عصر محمد علي وحتى من محمد نفسه فلم يجد ضيراً من إطلاق يد الأوروبيين في مصر وقتها في مقابل أن يستفيد من خبراتهم ويخلق علاقات جيدة مع دولهم، وهنا أصبح قناصل الدول الأوربية أنفسهم مقاولين للآثار من الباطن يستأجرون الأفاقين للبحث عن الكنوز التي ستباع بأضعاف ما أنفقوه عليها ومن ثم يتم نقلها للعرض بمتاحف أوروبا لاحقاً، وهو ما يعنى بالتعبية أن تلك الآثار خرجت بموافقة السلطات المصرية وقتها وهو الذى لا زالت تعانى منه مصر حتى الآن فلا تستطيع المطالبة بتلك الآثار حتى يومنا هذا لأنها طبقاً للأعراف المستحدثة (خرجت بشكل قانوني).
لوحة لسرقة ونثل تمثال رمسيس الثانى من معبد الرامسيوم.في تلك الفترة حصل “هنري وستكار” على البردية التي ستحمل اسمه والتي تحكى لنا تلك القصص المثيرة، وتسمية البرديات باسم شخص أوروبي كان شيئاً شائعاً وقتها، فهناك العديد من البرديات التي تمت تسميتها بأسماء من حصلوا عليها كبردية ريند, وإدوين سميث وهاريس وغيرها.
ما هي بردية وستكار؟
مع حلول عام 1938 حصل عالم المصريات الألماني الشهير “كارل لبسيوس” على البردية من أحد أقرباء “وستكار” وبدأت أولى المحاولات لفك غموض تلك البردية وعن طريق الخراطيش التي احتوت أسماء مثل “خوفو” و “سنفرو” قام لبسيوس بتأريخ البردية لعصر الدولة القديمة وبناة الأهرام، إلا أن بعد وفاة لبسيوس تعالت الأصوات بأنه لم يحصل عليها هو الآخر بطريقة شرعية بل أنه سرقها خاصة مع عدم وجود اسمه في أي سجلات، وقد كانت حالة السخط السبب الرئيسى فيها هو أن “لبسيوس” لم يجعل النص متاحاً للدارسين وقتها لترجمته وتحليله.
بعد مرور ما يقرب من خمسون عاماً من حصول لبسيوس على البردية وخفوت بريقها والضجة التي أثيرت حولها، يحصل عالم الآثار الألماني “أدولف إرمان” على البردية من إبن لبسيوس لتستقر في مكانها في المتحف المصري ببرلين والتي لا تزال موجودة به حتى الآن، وفى عصر إرمان بدأت المحاولات لفك أسرار تلك البردية وقراءتها, وهى تلك المهمة الصعبة وقتها لأن البردية كانت مكتوبة بالخط الهيراطيقى والذى لا يزال علماء الآثار يعلمون عنه القليل في وقتها، وبداية من عصر إرمان وحتى يومنا هذا وبعد ترجمة البردية تعددت الآراء بشأنها وطريقة تأويل وفهم القصص المكتوبة بداخلها.
وهنا سنترك لبسيوس وعلماء الآثار وحيرتهم ونعود مؤقتاً إلى البردية لنعرف المزيد من أسرارها في الوقت الحالي، وكالعادة سيكون السرد بما يقرب المعنى للنص الأصلي للبردية.
رجل اسمه جِدى
نعود إلى بلاط الملك خوفو وسط أبناؤه الذين يقصون عليه معجزات الكهنة المرتلين، وهنا يأتي دور الأمير “جدف حور” في الكلام فيقوم قائلاً: لقد استمع جلالتك إلى قصص لأناس عاشوا قبلنا في الماضي، ولأشياء فعلوها بفضل علومهم ومعارفهم ولكنها لا يمكن للإنسان أن يميز منها ما هو حقيقي وماهوا باطل، ولكن هناك رجل لا تعرفه يعيش في عهد وزمن جلالتك، وعلى الرغم من أنه ساحر يعرف الكثير ومطلع على الكثير فإن جلالتك لا تعرفه.
وهنا يثار فضول الملك “خوفو”، فيجيب ابنه: من يكون يا بنى “جدف حور”؟
وهنا تبدأ تفاصيل القصة المثيرة للأمير: يوجد رجل طاعن في السن يدعى “جدي” يعيش في منطقة “جد سنفرو” (ميدوم حالياً في بنى سويف) , هذا الرجل يبلغ من العمر مائة وعشر سنة ويأكل يومياً خمسمائة رغيف من الخبز ونصف ثور ويشرب مائة إبريق من الجعة (البيرة)، هذا الرجل يعيد الرؤوس المقطوعة لأماكنها، يروض الوحوش ويعرف كيف يجعل الأسد يسير خلفه، هذا الرجل يعلم الغرف السرية لمعبد الإله “جحوتى” والتي يبحث جلالتك عنها لتصنع شيئاً مماثلا لها في هرمك والذي ستغرب منه مثلما يغرب الإله رع في أفقه الغربي.
وهنا وبعد ما بلغ فضول خوفو مبلغه يأمر الأمير “جدف حور” بأن يذهب بنفسه ويحضر “جدي” إلى القصر.
رحلة إلى ميدوم
تم تجهيز السفينة للأمير الذي ركب النهر متجهاً إلى جدي، وما أن يصل الأمير إلى هناك حتى يجد الرجل الذي كان جالساً على الأرض امام عتبة بيته فيبدأ الأمير بالكلام قائلاً له إن هيئتك هي هيئة رجل يحيا على التقدم في العمر (هيئة رجل صغير في السن)، كمن ينام إلى الفجر بدون آلام، التحيات لك التحيات لك أيها الممدوح، جئتك أستعديك إلى قصر أبى جلالة “خوفو” لتطعم من أطايبه طعام رفاقه ليمنحك البركة أنت وأسلافك.
فيجيبه جدي: التحيات لك حور جدف أيها الأمير محبوب أبيك، فليحيا أبيك خوفو وليمدحك فتعلو مراتبك بين العظماء، فيمد له الأمير يده ليقوم من مكانه ويذهب معه ليمشوا على ضفة النهر حتى يصلوا إلى السفينة ويصعد جدي معه متجهان سوياً إلى قصر الملك خوفو.
أحضروه ليفعل المعجزات أمامي
ما أن يمثل جدي بين يدي خوفو فيبادره بالقول: لم أرك إلى الآن؟ فيرد جدي: أتيت عندما استدعيتني فلا تعرف سوى من استدعيت.
فيبدره خوفو بالسؤال هل تستطيع إعادة الرؤوس المقطوعة، ما أن يجيب جدي بالإيجاب حتى يأمر خوفو بإحضار أحد السجناء ليقطعوا رأسه، وهنا يرفض جدي ذلك لأنه لا يستطيع فعل ذلك لبشرى.
وهنا أحضروا ل جدي حيوانات ليفعل معجزاته عليها فأتوا أولا بأوزة فقطعوا رأسها ووضعوها شرق القاعة، وجسدها غربها، فتلى جدي تعاويذه فبدأ الجسد والرقبة فى الحركة تجاه بعضهما البعض حتى التصقا وعادت الأوزة للحياة بل خرجت من القاعة وهي تصيح وترفرف بأجنحتها! فأحضروا له طائرا آخر ففعل المثل، ثم ثور فقام الثور من مرقده، بل أنه جعل الأسد يمشى ورائه!
أسرار الغرف السرية لمعبد جحوتى
وهنا بلغ خوفو من الحماسة مبلغاً كبيراً، فسأله أهم سؤال بالنسبة إليه: هل تعرف الغرف السرية لمعبد جحوتى؟
فيجيبه جدى مخيباً أمله أنه لا يعلم ولكنه يعلم من يعلم، إن الأسراء توجد في صندوق بحجرة الإحصاء في معبد مجدينة عين شمس، ولكن جدي لا يستطيع إحضاره فمن سيحضره هو أكبر أبناء امرأة تدعى “رودت جدت”, هذه المرأة لا تزال جاملاً في هؤلاء الأطفال ولا يزالون داخل بطنها وهي زوجي كاهن يدعى “مري رع” يعمل في خدمة الإله “رع”, وقد تنبأ الإله رع لهؤلاء الأطفال بأنهم سيحكمون البلاد واحداً تلو الآخر وأن أكبرهم سيصبح كبير الرائين (كبير كهنة الإله رع).
وهنا يحزن الملك “خوفو” لأن تلك المعلومة تعنى تهديد عرشه هو شخصياً، فيبادره “جدى” بالقول بأن ابنه سيحكم من بعده ثم ابنه ثم أحد ابناء رودت جدي، أي أن عرش خوفو غير مهدد وسيحدث ذلك التغيير بعد جيلين، وتنباً له جدى بالميعاد الذي ستضع فيه تلك المرأة حملها.
وهنا يأمر الملك خوفو بأن يعيش جدى في معية الأمير “حور جدف” وأن يطعم ويلبس ويشرب ويزود بكل ما هو طيب.
سر قصة جدى
تناولت البردية كالعادة شخصية خيالية لم يكن كاهناً هذه المرة ولكنه كان أحد العارفين, وهو جدى الذى أعطته البردية مائة وعشر عام من العمر , وهو بالمناسبة سن الحكمة في مصر القديمة الذى بعده يكون لصاحبه حكمة الأسلاف والمبرأين, وتمضى القصة في العادة لتسرد معجزات وأعمال جدى, إلا ان الحبكة الرئيسية للقصة لم تكن عن إحياء الموتى ولكن الرسالة التي أوردتها البردية هي تلك النبوءة بخصوص المرأة “رود جدت” وابنائها الذين سيصبحون ملوكاً، كما أشارت البردية بشكل واضح أن الملك “خوفو” يريد أن يصنع مثل الحجرات السرية بمعبد تحوت لهرمه (الهرم الأكبر) وعلى الرغم من علمنا الآن اختلاف تخطيط المعابد المخصصة للآلهة عن المعابد الملحقة بالأهرامات إلا أن تلك البردية قد ربطت وبشكل غير مباشر بني خوفو والهرم الأكبر ليضاف لسجل الأدلة.
لربما ظهرت شخصية الملك “خوفو” قاسية في نص البردية فنجده يطلب أن يتم إزهاق روح إنسان لفعل تلك المعجزة التي لم يكن يعلم قبل وقوعها إن كانت ستحدث أم لا، بينما يظهر جدي أكثر حكمة من الملك ويرفض إزهاق روح بشرية وهي صورة فريدة لم ترد إلا نادراً عن ملوك مصر.
مع تعدد الآراء عن قصص بردية وستكار، ومحاولة تأويلها وفهم معانيها، إلا ان أولى ترجمت تلك البردية لربما حسمت الأمور منذ زمن بعيد عندما ترجمها إرمان وأطلق عليها: القصص الخيالية لبردية وستكار، وذلك على الرغم من رسالة سياسية واضحة لربما توضح سبب كتابة تلك البردية
ولكن هذا حديث آخر.