ما هي لغة المصريين القدماء؟ ومتى نشأت وكيف اخترعها بناة هذه الحضارة العظيمة؟ ككل شيء متعلق بحضارة مصر فإن لغتها تعود لعصور سحيقة من الزمن سبقت تأسيس تلك الحضارة بمفهومها الذي نعرفه اليوم، وككل شيء متعلق بحضارتهم كان المصريون القدماء يرون أن لغتهم هي شيء مقدس جاء من عند الآلهة ومن مفارقات ذلك التقديس أنه حتى في عصور الامبراطورية المصرية لم تكن لغة المراسلات الرسمية حتى بين مصر ورعاياها هي اللغة المصرية القديمة وذلك لأن المصريون اعتقدوا ان لغتهم لا يجب ان يدنسها اجانب فلجأوا لاستخدام البابلية.
ويعتقد الكثيرون حتى اليوم أن أول من كتب في التاريخ كانت حضارة سومر في العراق، وهذه المعلومة كانت صحيحة حتى زمن قريب إلا ان وكالعادة فإن العلم لا يغيره سوى علم مثله، والاكتشافات لا يغيرها سوى اكتشافات وهذا هو ما تم بالفعل في كشف مدوي لم يأخذ حقه قلب كل الموازين وأرخ الكتابة المصرية القديمة لتسبق حضارة سومر نفسها.
كيف تم اختراع اللغة المصرية القديمة؟
طبقاً لمعتقدات المصريون القدماء فإن الإله “جحووتى – تحوت” والذي مثل بطائر أبو منجل الأفريقي وأحيانا قرد البابون هو من اخترع اللغة وأول من خط بالقلم باعتباره إلهاً للكتابة والمعرفة، وقد رأوا أن “جحوتى” قد خلق الأصوات التي تكون الكلمات ومن ثم اللغة وكان أول من كتب على الإطلاق، بل أن المصريون ذهبوا لأبعد من ذلك ورأوا أن لغتهم هي أصل كل لغات العالم.
وحقيقة الأمر أن ذلك كان طبقاً لرؤية المصريون أنفسهم عن المسألة، أما عند استخدام اساليب البحث العلمي والتاريخي فنجد أن الكتابة ظهرت فى مصر منذ وقت مبكر جدا في تاريخها.
ففي عصور ما قبل التاريخ والتي انتهت بعصور ما قبل الأسرات تم العثور على مقتنيات وأوان فخارية عليها بعض العلامات التي أمكن تتبعها لاحقاً ومعرفة أنها كانت أصل لبعض العلامات في اللغة المصرية القديمة وخاصة خطها الهيروغليفى، ومن ثم تطورت اللغة المصرية القديمة واستمرت في التطور حتى يومنا هذا، نعم فاللغة المصرية القديمة لا تزال حية حتى الآن!
مصر عرفت الكتابة قبل سومر
في عام 1988 عثرت البعثة الألمانية بقيادة عالم الآثار الألماني “جونتر دراير” في منطقة أبيدوس على مجموعة من البطاقات الصغيرة والتي تحمل علامات واضحة مقروءة من الخط الهيروغليفي تعود لفترة ما قبل الأسرات، أي قبل الملك “مينا” موحد القطرين نفسه، وقد تم تأريخ هذا الاكتشاف ليعطى أسبقية للمصرين القدماء في اختراع الكتابة بما يتراوح بين 500-300 سنة قبل حضارة سومر فى العراق القديم.
وهذا الاكتشاف لا يعنى ذلك فحسب، بل أنه يشير إلى ان تاريخ استخدام المصريون للكتابة يسبق ذلك بالطبع تلك البطاقات العاجية لم تنشأ من فراغ بل سبقتها محاولات مبكرة لربما تكشف عنها مزيد من البعثات وأعمال الحفائر.
كيف نفهم اللغة المصرية القديمة؟
فى البداية تختلف اللغة المصرية القديمة عن مفهومنا الحالي عن اللغة – ولنأخذ العربية كمثال- فاللغة العربية عبارة عن حروف أبجدية يقابل كل حرف منها صوت، وتتشكل هذه الأحرف سويا لتكون كلمات إلا أن اللغة المصرية القديمة لم تكن بهذا المفهوم.
ففي اللغة المصرية القديمة هناك علامات تمثل أصواتاً، وكانت علامات اللغة المصرية القديمة مستمدة من الطبيعة والبيئة المحيطة بالمصري القديم وحتى الأشياء التي عاصرها واستخدمها في حياته اليومية. وقد انقسمت تلك العلامات لأنواع مختلفة كان أولها:
العلامات الأحادية: وعددها 24 علامة سميت بالأحادية لأنها احادية الصوت كل علامة منها يقابلها صوت واحد، فمثلا طائر العقاب علامة احادية يقابلها الصوت آ، بينما طائر البومة علامة أحادية اخرى يقابلها الصوت م، وفم الإنسان يقابله ر وهكذا حتى نصل لعدد 24 علامة ب24 صوت أحادي.
العلامات الثنائية: وهي علامات تعطى صوتان وليس صوت واحد، فهناك العلامة التي تمثل مدخل المنزل وتنطق بر، طائر الأوزة وينطق سا، طائر الصقر وينطق حر، وهكذا
علامات ثلاثية: وهي العلامات التي تعطى ثلاثة أصوات مثل نتر, سجم, عنخ, نفر.
ويزيد على ذلك أيضاً علامات تعطى أكثر من ثلاثة أصوات بل أن هناك بعض العلامات فى بعض الأحيان تصل إلى ست أصوات.
وقد بلغ مجموع علامات اللغة المصرية القديمة في عصر مبكر مثل عصور بناة الأهرام والدولة القديمة إلى 400 علامة وتطور الأمور في العصور اللاحقة حتى وصل عدد العلامات إلى حوالي 800 علامة.
كان ترتيب هذه العلامات بشكل معين يعطى كلمات تختلف في المعنى عن بعضها البعض بل أن بعض الكلمات كانت تعطى أكثر من معنى لذلك استخدم المصريون القدماء علامات زائدة في نهاية الكلمة لتحديد المعنى المقصود بل وحتى علامات لتحديد طريقة نطقها.
ماهي اللغة المصرية القديمة؟ وكيف كُتبت؟
أطلق المصريون القدماء على لغتهم اسم “را ن كمت” ويعنى لسان “كمت” وكمت هو أحد أشهر اسماء مصر قديماً، وكمثل بقية اللغات قام المصريون بكتابتها بالعديد من الطرق والخطوط وكان أولها
الخط الهيروغليفى: وهي طريقة كتابة للغة المصرية القديمة أطلق عليها المصريون القدماء اسم “مدو نتر” وتعنى كلام الإله، وقد استخدم ذلك المصطلح لوصف الكتابات على جدران المعابد والمقابر ، أما مسمى هيروغليفى فكان سببه الاغريق والذين أطلقوا عليه “هيروجلوفوس” ويعنى الخط المقدس لكثرة استخدامه على جدران المعابد والمقابر.
والخط الهيروغليفى كان يكتب من اليمين لليسار أو من اليسار لليمين أو حتى من أعلى لأسفل وفى حالات نادرة يكتب من أسفل لأعلى وهي حالات التعاويذ السحرية والكتابات المطلسمة.
الخط الهيراطيقى: كانت الحاجة إلى تبسيط الكتابة هي الدافع الذي جعل المصريون يبسطون طريقة كتاباتهم للغتهم ونظراً لصعوبة وتكلفة الخط الهيروغليفى الذي كان يحافظ على شكل العلامات كاملة ومن ثم تلون وتصنع في أفضل صورة يستغرق وقتاً ومجهوداً كبيرا كما يتطلب الكثير من المال.
فما بالك بكاتب محلى في قرية يريد أن يدون محصولاً او عدد من رؤوس الماشية؟ بالطبع لن يستطيع استخدام الخط الهيروغليفى هنا لذلك لجأوا إلى التبسيط وظهر خط يسمى خط ” شعت أو شعيت” ويعنى خط المكاتبات أو المراسلات، الكلمة نفسها تعنى مكاتبة، رسالة إلخ .. وهذا الخط هو عبارة عن تبسيط لعلامات الخط الهيروغليفى فلا ترسم العلامة كاملة وانما يرسو القدر الكافي منها لمعرفة ماهي تلك العلامة المراد كتابتها.
وقد كثر استخدام هذا الخط في الحياة اليومية نظراً لبساطته وكان أشهر المواد التي استخدمت لكتابته هي ورق البردي وفى اغلب الوقت كان ذلك الخط يكتب من اليمين لليسار.
أما تسمية هيراطيقى فقد جاءت من الكلمة اليونانية “هيراتيكوس” وهو مسمى أطلق الاغريق على ذلك الخط، ومعنى الكلمة الخط الكهنوتى نظراً لأن الإغريق ظنوا بالخطأ انه خط استخدمه الكهنة حصراً وهي المعلومة الخاطئة تماماً.
الخط الديموطيقى: مع تطور الزمن وشيوع استخدام خط “شعت” في الحياة اليومية أصبح ذلك الخط أكثر اختصاراً واصبحت العلامات فيه معقدة وغير واضحة نظرا لأنها مختصرة جدا، وقد أطلق الاغريق على تلك الطريقة في الكتابة “ديموتيكوس” وهي الكلمة التي جاءت منها ديموطيقى وعنوا بذلك “شعبى” نظراً لاعتقاد خاطئ آخر لديهم ان هذا الخط استخدمه العامة بينما حقيقة الأمر انه استخدم في مواضع كثيرة جدا، بل ان تعبير العامة غير واضح ومفهوم في تلك التسمية لأن العامة في مصر القديمة كان الكثير منهم لا يعرف القراءة والكتابة.
المسميات الإغريقية التي غزت حضارة مصر
ونظراً لشيوع معرفة الحضارة اليونانية الرومانية لاحقاً في العلوم الحديثة فقد بقيت المصطلحات التي استخدمها الاغريق في وصف الكثير من الاماكن والاشخاص، فالتصقت مسميات مثل هيروغليفى وهيراطيقى وديموطيقى ومعانيهم باللغة المصرية القديمة حتى وإن كانت تلك المصطلحات لا تعبر عن الأمر بشكل كافي، بل ان الموضوع وصل لأبعد من ذلك فيظن البعض ان لغة المصريون القدماء هي لغة تسمى “الهيروغليفية” وهذا كلام خاطئ تماماً فلغة المصريون القدماء لها اسم ” را ان كمت” كما ذكرنا والهيروغليفة ماهي الا وصف ومسمى إغريقي لأحد اشكال كتابتها.
القبطية وريثة اللغة المصرية القديمة
مع تزايد أعداد التجار والمرتزقة اليونانيين في فترة تاريخية تسمى “العصر المتأخر” كان المصريون في حاجة للتواصل مع هؤلاء ولو حتى بالكتابة، فاليونانيين لا يتحدثوا اللغة المصرية القديمة واغلب المصريون لا يتحدثون اليونانية فكيف يتم حل تلك المعضلة؟
وهنا نشا حل سحري وهو ابتكار طريقة كتابية جديدة ستسمى لاحقاً الخط القبطي، ببساطة قام المصريون بكتابة لغتهم ” را ان كمت” بحروف يونانية، ونشات مشكلة أخرى في هذا الابتكار وهو ان اللغة اليونانية لا يوجد بها حروف تعبر عن أصوات في اللغة المصرية القديمة، وهن أضاف المصريون سبع علامات من الخط الديموطيقى إلى تلك الابجدية ليظهر لدينا الخط القبطي، ولمزيد من التبسيط هذا الخط يشبه الآن ما يستخدمه البعض في غرف الدردشة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي فعلى سبيل المثال نجد احدهم يكتب اسمه “محمد” بهذا الشكل: M7md وهنا هو كتب اسمه العربي بحروف اللغة الانجليزية، واستعاض عن حرف ح برقم 7 ليشير اليه، وما كتبه هنا هو منطوق عربي بحروف انجليزية، وهذا هو ما حدث حرفياً مع الخط القبطي.
ونظراً لسهولة الخط القبطي وفوائده الاقتصادية شاع استخدام هذا الخط جنباً إلى جنب مع الخطوط الثلاثة القديمة وأصبحت مصر في مرحلة ما تكتب لغتها بأربع خطوط مختلفة.