كيف نشأت الحضارة المصرية القديمة وكيف تم توحيد القطرين؟
كيف نشأت الحضارة المصرية القديمة؟ وكيف تم توحيد القطرين؟

أحد أشهر أسماء التاريخ المصري القديم هو “مينا” الذي يعرفه أغلب متحدثي العربية وخاصة داخل مصر بالملك “مينا” موحد القطرين، إذا حاولنا استقاء أي معلومات إضافية عن مينا باستثناء تلك الجملة فلن نجد لدى قطاع كبير من الناس، فمن هو مينا؟ وماهم القطرين اللذان وحدهما؟

مصر ما قبل التاريخ، وما قبل التأريخ

كانت أرض مصر بيئة خصبة لاستقرار الإنسان على ضفاف نهرها العظيم نهر النيل، فمع جفاف وتصحر ما يعرف الآن بالصحراء الشرقية والغربية بدأت هجرات الإنسان إلى قلب وأدى النيل ومجرى النهر ليتحول الإنسان من الصيد وجمع الطعام إلى حياة الاستقرار شيئاً فشيئاً مع وجود البيئة التي تسمح بذلك على ضفاف النهر.

ومثل كل عصور تطور حياة البشر انقسم تاريخ مصر إلى عصور ما قبل التاريخ التي تعرف بالعصور الحجرية وهي العصر الحجري القديم، الوسيط، والحديث.

وقد شهدت نهاية العصر الحجري الحديث تطوراً واضحاً لدى البشر الذين سكنوا أرض مصر فى ذلك الوقت مع تأسيسهم لتجمعات بشرية متماسكة ومترابطة أصبحت تأخذ شكل ثقافات بمنتج بشرى وفكري واضح.

ويرجع سكنى الإنسان لضفاف الوادي عصورا سحيقة تتجاوز العشرون ألف عام يشهد عليها الهيكل العظمى الذى تم العثور عليه في وادي الكوبانية ويعرض حالياً بالمتحف القومي للحضارة المصرية، وغيره من الأمثلة التى تزامنت مع تصحر المناطق المحيطة بالوادى ليبدأ الإنسان فصلاً جديداً من الحضارة على أرض مصر.

هيكل وادى الكوبانية.
هيكل وادى الكوبانية.

إذا أردنا تحديد أكثر الفترات المبكرة لما يمكن أن نسميه تجمعات حضارية فسنجد لدينا شمال مصر حضارة الفيوم وهي أحد حضارات العصر الحجري الحديث التي كانت ما بين 9000 إلى 6000 ق.م، بينما في الجنوب لدينا موقع “نبتة بلايا” الذي يقع 100كم شمال غرب مدينة أسوان حالياً، ليشكلاً مثالاً واضحا على ثقافات ما قبل تأسيس الدولة والحضارة المصرية القديمة.

 

عصور ما قبل الأسرات

وهى عصور شهدت نهاية العصر الحجري الحديث، وقد اصطلح علماء الآثار تسميتها بعصور ما قبل الأسرات لأنها تسبق تأسيس الأسرات المصرية مباشرة بنظام الحكم والحدود الجغرافية المعروفة عن الحضارة المصرية، وهى تختلف عن عصور ما قبل التاريخ في عنصر مهم وهو ظهور الكتابة في أواخرها ليتم تصنيفها تصنيفاً جديدا، حيث أن عصور ما قبل التاريخ حملت ذلك الاسم لأنها كانت عصوراً لم يدون فيها الإنسان كتابة تمدنا بمعلومات عن حياته وظروف معيشته، بينما العصور التاريخية كان جل ما يميزها هو التدوين، وقد شهدت عصور ما قبل الأسرات اختراع المصريين للكتابة وهو ما ميزها عن غيرها من فترات العصر الحجري الحديث.

موقع نبتة بلايا، جنوب غرب أسوان.
موقع نبتة بلايا، جنوب غرب أسوان.

يطلق علماء الآثار على تلك التجمعات البشرية التي سبقت الأسرات مصطلح Cultures أي ثقافات وهو الذي تم ترجمته لحضارات، فنتائج البحث بالعربية تسمى تلك الفترات حضارات ما قبل التاريخ، وإن كان في رأيي الشخصي أن مصطلح حضارات يعتبر دقيقاً نوعاً ما عن ثقافات لأن تلك التجمعات البشرية قد أصبحت حضارات فاعلة في مراحلها الأخيرة بالفعل مع اكتشافات جديدة ومثيرة غيرت نظرتنا عن التاريخ المصري القديم بأكمله.

 

الحضارات التي نشأت على أرض مصر

انتشرت التجمعات البشرية بامتداد ضفاف الوادي شمالاً وجنوباً، وكان أكبر مميزاتها أنها لم تكن قبائل بدوية أو رحل، وإنما كانت مجتمعات بشرية يتكافل فيها البشر مع بعضهم البعض، وكانت أهم تلك الحضارات حضارة حلوان، المعادي، مرمدة بنى سلامة والتابعة حالياً لمركز إمبابة بمحافظة الجيزة، ثم حضارتي البداري ودير تاسا اللتان تقعان حاليا في محافظة أسيوط، إلا أن أهم حضارات ما قبل الأسرات هي المراحل الحضارية لنقادة والتي تنقسم إلى نقادة الأولى والثانية والثالثة، وقد تميزت تلك الحضارات ببناء الإنسان للمساكن والتي بدأت بأكواخ بسيطة ومن ثم تحولت إلى أبنية من الطوب اللبن، معرفتهم للزراعة وصناعة الفخار وحتى صناعات معقدة مثل رؤوس الأسهم والأسلحة البسيطة.

 

حضارات ما قبل الأسرات: حضارات محدودة؟

تقسيم تلك الفترة خادع بعض الشيء، فنقادة تقع حالياً بمحافظة قنا، وهو ما سيجعل القارئ يظن أن تلك الحضارة اقتصرت على منطقة نقادة فقط، ولكن مصطلحات مثل حضارة نقادة وغيرها تشير لمرحلة تاريخية ظهرت فيها سمات واضحة من أنواع معينة من الفخار والصناعات والأشياء التي تركها البشر تنتمي كلها للمنتج الإنساني الخاص بمرحلة حضارة نقادة على سبيل المثال، هذه المصطلحات لم تكن جغرافية محدودة فقط وإنما هي مصطلحات تاريخية تشمل مناطق جغرافية متعددة وإن حملت الحضارة نفسها اسم منطقة جغرافية بعينها.

أحد الأمثلة لفخار نقادة.
أحد الأمثلة لفخار نقادة.

فعلى سبيل المثال حضارة نقادة الأولى امتدت جغرافيا من مصر الوسطى وحتى الجندل الأول من النيل جنوباً، ونقادة الثانية عثر على آثار لها في جرزة، أبو صير الملق وكذلك طرخان وجنوباً حتى وادي السبوع وعمدا وعنيبة.

أي أنها كانت ذات انتشار واسع جغرافياً ولربما امتد إلى خارج حدود ما نعرفه بمصر الآن.

 

نقادة: مهد الملوك

تعتبر مراحل حضارات نقادة هي أهم مراحل عصور ما قبل الأسرات على الإطلاق، فهي تلك المراحل الحضارية التي تطورت فيها صناعة الفخار ولأول مرة تظهر كتابات يمكننا تتبعها لاحقاً حيث أنها اصبحت علامات في اللغة المصرية القديمة، كذلك مع قرب نهايات تلك المراحل الحضارية اخترع الإنسان المصري الكتابة وهو ما أعاد كتابة كتب التاريخ مرة أخرى بحدوث مفاجئة مدهشة، ففي عام 1988 عثرت البعثة الألمانية بقيادة عالم الآثار الألماني جونتر دراير على بطاقات صغيرة تحمل علامات من اللغة المصرية القديمة يمكن قراءة بعضها، مما يدل على وجود نظام كتابي محكم في تلك الفترة وقد تم تأريخ تلك البطاقات لتسبق معرفة السومريون بالكتابة بحوالي 300-500 عام.

بطاقات أبيدوس.
بطاقات أبيدوس.

بل أن تلك البطاقات قد غيرت منظورنا عن الحضارة المصرية القديمة ككل من جانب آخر حيث أنها تسبق ظهور الملك مينا موحد القطرين بحوالي ألف عام بأكملهم، كما شهدت تلك الفترة ظهور أقدم تسجيل لملكات في التاريخ الإنساني وهن الملكتان نيت حتب ومرنيث.

 

كيف تم توحيد القطرين؟

يمكننا تلخيص قصة توحيد القطرين المصريين على النحو التالي: تبدأ القصة في خط زمنى متوازي نشأت فيه مملكتين رئيسيتين فى شمال مصر/، مملكة في الشرق تسمى عنجت وكان الإله الرئيسي لها هو الإله عنجتى وشعارها الحربة وهى تقع حالياً بالقرب من سمنود بمحافظة الغربية، اما المملكة الغربية فتقع عاصمتها حالياً بالقرب من دمنهور بمحافظة البحيرة وكان الإله الرئيسي لها هو الإله حورس (الصقر)، يتم توحيد المملكتين لتصبح مملكة واحدة اتخذت من صان الحجر , بسيون، محافظة الغربية حالياً وكانت الإلهة الرئيسية لتلك المملكة هي الإلهة نيث وكان ملكها يرتدى التاج الأحمر وشعار تلك المملكة هى النحلة.

تزامن مع ذلك توحد الجنوبيين واتخذوا لنفسهم عاصمة أطلق عليها “نوبت” وهي تقع حاليا بقرية طوخ، نقادة، محافظة قنا.

يتم تغيير عاصمة الشمال لتصبح مدينة “أون” عين شمس والمطرية حالياً، ويصبح الإله أوزير هو الإله الأكبر، ويمكننا ان نستنتج من تلك الخطوة أن الشماليين قد سيطروا على الجنوب بشكل ما وذلك لأن الإله أوزير هو المعادل للإله ست الذي كان يعبد فى الجنوب، ويحدث شد وجذب ما بين المملكتين ما بين سيطرة الشمال على الجنوب ومن ثم انفصال الجنوب وإعادة السيطرة من الشماليين وانفصال الجنوب مرة أخرى.

حتى نصل إلى المرحلة الأخيرة التي كتبت نهاية فصول ذلك الصراع، هذه المرة كان النظام أكثر تعقيداً في الشمال والجنوب، في الشمال كانت العاصمة هي مدينة “بى” القديمة (بوتو) وهي حالياً تل الفراعين بمحافظة كفر الشيخ، وظهر معها مدينة أخرى. وهي “دب” والتي كانت العاصمة الدينية للملكة، كان الإله الرئيسي للملكة هو الإله “حورس” بينما إلهة العاصمة الدينية هي الإلهة “واجيت” (ثعبان الكوبرا الذي سيزين جبين الملوك لاحقاً).

أما في الجنوب فكان هناك وضع مماثل، كانت عاصمة الجنوبيين السياسة هى “نخب” الموجودة شمال إدفو، محافظة أسوان وإلهتها هى الإلهة “نخبت” (أنثى النسر) والتي أصبحت تزين جباه ملوك مصر لاحقا مع الإلهة واجيت، أما العاصمة الدينية للجنوب فكانت مدينة “نخن” والتي بها أقدم معبد مكتشف للإله حورس الآن، وقد اتخذ الجنوبيين خطوة كان من الواضح أنها بداية حسم الصراع.

في تلك المرحلة نقل الجنوبيين عاصمتهم إلى مدينة “ثنى” والتي لربما تقع حالياً في البربا, جرجا، محافظة سوهاج، وقد حدث ذلك فى مرحلة نقادة الثالثة والتي حكم فيها ملوك مثل “العقرب الثاني” وكذلك ملك يدعى “نعرمر”.

 

مينا موحد القطرين

ينتمى هذا الملك للمرحلة الثالثة من حضارات نقادة، وهى المرحلة التي تم حسم فيها الصراع وإعادة توحيد القطرين المصريين مرة أخرى بشكل مستقر أعقبه تأسيس الدولة المصرية، وقد قام مينا على الأرجح باستكمال أعمال ملوك “نقادة الثالثة” وعلى رأسهم الملك “عقرب الثاني”، وكانت أهم الاثار التي تركنها لنا تلك الفترة هي المقتنيات التي عثر عليها بمعبد حورس في الكوم الأحمر بمدينة أسوان وهو معبد مدينة “نخن” القديمة، ويأتي على رأس تلك الآثار “صلاية نعرمر”، وهى أثر تذكاري امدنا بالكثير من المعلومات عن تلك الفترة التاريخية.

صلاية نارمر، المتحف المصرى.
صلاية نارمر، المتحف المصرى.

اسم الملك المكتوب على تلك الصلاية هو “نعرمر” وهي الاسم الذي عُرف به “مينا” وقتها، والذي ظهر على جانبي الصلاية ولأول مرة مرتديا التاج الأحمر على وجه منها وعلى الوجه الآخر يرتدى التاج الأبيض، وقد أمدتنا تلك الصلاية بما هو أكثر من ذلك فأمام الملك “نعرمر” يأتي رجل يحمل لقب “ثاتى” والذي يعنى وزير في إشارة لتنظيم إداري لتلك الحكومة، كما أن منظر ضرب الأسير الشمالي للملك “نعرمر” هو الذي قام بمحاكاته كل ملوك مصر القديمة من بعده.

أما تسمية مينا فقد أتت لاحقاً في التاريخ المصري، فقد أطلق المصريون على ذلك الملك لاحقاً اسم “مِنى” ويعنى “المؤسس” وقد ظهر ذلك الاسم فى قائمة ملوك مصر بمعبد أبيدوس من عصر رمسيس الثاني، وهو الاسم الذي تحول فى الإريقية إلى “مينيس” ثم “مينا” حاليا، أما اسم “نعرمر” فقد تحول إلى “نارمر”، بينما اسم هذا الملك في عصره كان “نعرمر” ولكن هذا لا يمنع ان أسماء: مينا، نعرمر، نارمر، مينيس يشيروا لنفس الشخص.

 

خع سخموى وتوحيد القطرين مرة أخرى

تمثال الملك "خع سخموى"، متحف الأشمولينا، أوكسفورد.
تمثال الملك “خع سخموى”، متحف الأشمولينا، أوكسفورد.

على الرغم من الجهد الخرافي الذى بذله ملوك نقادة في توحيد القطرين إلا أن ذلك لم يكن نهاية الأمر، فقد إستمر الشد والجذب والاضطرابات الداخلية لفترة طويلة من الزمن امتدت طوال الأسرتان الأولى والثانية، حتى جلس على عرش مصر ملك يسمى “خع سخموى” وهو الملك الذى قاد بإعادة توحيد القطرين مرة أخرى وأقرن اسمه بالإلهين “حورس وست” معاً ليضع نهاية لصراع أتباع هذه الآلهة، ويقدر الفرق التاريخي ما بين مينا وخع سخموى  حوالى 400 عام كاملة، وقد كانت نهاية عصر سخوى هي البداية الحقيقة للحضارة المصرية القديمة ونهاية كل الإضراربات الداخلية لتبدأ بعدها مصر أحد عصورها الذهبية وهو الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام.