هل عرف المصريون القدماء تكنولوجيا متطورة وما هو سر هليكوبتر معبد أبيدوس؟
هل عرف المصريون القدماء تكنولوجيا متطورة؟ : سر هليكوبتر معبد أبيدوس.

لطالما أثارت الحضارة المصرية خيال الإنسان على مر العصور، فمنهم من كتب عنها منبهراً بتفردها، ومنهم من اتجه لدراستها لمعرفة أسرارها، ومنهم حتى من روج الخرافات عنها.

تاريخ مصر والخرافات

باختلاف العصور اختلفت الخرافات حول الحضارة المصرية القديمة فكان لكل عصر خرافاته الخاصة به، وترويج الخرافات عن حضارة مصر طوال التاريخ كان يعكس تفوق المصريين الحضاري حتى يومنا هذا.

على سبيل المثال نجد الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” في محاورتين له مع “تيمايوس” وكريتياس” يتحدث عما ذكره جده “طولون” عن رحلته إلى مصر ولقاءه مع الكهنة المصريين الذين حدثوه عن قارة أطلانتس الخرافية والتي زعموا أنها كانت أكثر الحضارات تقدماً.

أما الشرق فكان يرى نظرة مختلفة عن الحضارة المصرية فلغتها لغة العصافير وأعمالها نتاج السحر والشعوذة وحكامها أسطوريين يعيشون لمئات الاعوام، وحتى في أوروبا كان تفسير إنجازات الحضارة المصرية مستمد من “العهد القديم” فنجدهم يعتقدوا أن أهرامات مصر ما هي إلا صوامع الغلال التي بناها النبي “يوسف”.

خرافات العصر الحديث

لم يتغير الحال في العصور الحديثة حيث بقيت بعض خرافات العالم القديم متداولة. وتم إضافة خرافات أخرى لها تتخذ طابعاً عصرياً، فما فسره الأقدمون بالخرافات حاول بعض المعاصرون تفسيره بالعلوم الزائفة.

فنجد تارة فريقاً يقول أن الحضارة المصرية القديمة بنيت بوساطة كائنات فضائية، أو أن الأهرامات المصرية مولدات للطاقة أو حتى مراصد فلكية وهؤلاء يجمعهم الإيمان أن المصريين لم يبنوا حضارتهم، بينما على جانب آخر فريق يؤمن بأن المصريين بنوا حضارتهم ولكن إما بمساعدة أجناس أخرى.

فنجد من يقول إن الأهرامات المصرية بنيت بأحجار مصنعة علمها لهم اليهود، أو حتى من يقول إن المصريون عاصروا عمالقة بنوا كل هذا. واختفوا فجأة وحل مكانهم المصريون، وفى جميع الأحوال يلجأ الجميع للزائف من العلم والخيال الواسع وحتى إضفاء الثوب الديني على الأمر برمته.

الأهرمات المصرية وخيالات الفضائيين.
الأهرمات المصرية وخيالات الفضائيين.

باختصار يمكننا أن نقول إن الحضارة المصرية القديمة اثارت جنون وخيالات العقل البشرى على مر العصور وتركت أبواباً مفتوحة من التساؤلات لا حصر لها، وعلى الرغم من إجابة العلوم الحديثة وعلى رأسها علم المصريات على كثير من تلك الأسئلة وإماطة اللثام عن كثير من غموض الحضارة المصرية إلا ان الخيال والخرافات لا يزالا سلعة رائجة حتى يومنا هذا.

هل عرف المصريون القدماء تكنولوجيا متطورة أم لا؟

نقش الهليكوبتر والدبابة بمعبد ابيدوس
نقش الهليكوبتر والدبابة بمعبد ابيدوس

لهذا السؤال إجابة سهلة وأخرى صعبة، الأجوبة السهلة تكمن في الصورة المعروضة بالأعلى، نقوش واضحة جدا تظهر معرفة قدماء المصريين لآلات حديثة مثل الدبابة والهليكوبتر، الغواصة أو المنطاد وإذا ثبت صحة تلك النقوش فبالتالي حاز المصريون على علوماً خفية لا نعلم عنها شيء، وهكذا وبكل بساطة يمكننا أن نفتح للخيال والخرافات ألف باب.

أما الإجابة الصعبة لنفس السؤال وعلى عكس الإجابة الأولى تتطلب الكثير من البحث والجهد سنحاول تطبيقه في السطور التالية.

 

معبد أبيدوس

النقوش المثار حولها الجدل موجودة بمعبد أبيدوس (محافظة سوهاج، مركز البلينة)، وهو المعبد الذي شيده الملك “سيتي الأول” وأكمله له ابنه الملك “رمسيس الثاني”، كانت مدينة أبيدوس تعرف في النصوص المصرية القديمة باسم “آبجو”، وتشابه اسمي “أبيدوس” و”آبجو” يعكس الموروث المصري القديم في أسماء الأماكن حتى يومنا هذا.

كانت أبيدوس قبلة الحج في مصر القديمة، فقد عرف المصريون شعيرة الحج وقاموا بتأديتها متوجهين إلى “أبيدوس”، وقد حج إليها ملايين المصريين عبر آلاف السنين، قام الملك “ٍسيتي الأول” ببناء واحد من أجمل المعابد المصرية هناك.

وقام بتكريسه للإله “أوزير” (أوزيرس) قاضى الموتى وسيد أبيدوس، توفى “سيتي” قبل إكمال المعبد فقام ابنه “رمسيس” البار بأبيه بإعادة إكمال المعبد لأبيه ودون ذلك في المعبد نفسه مخاطباً أباه المتوفى بان الأمور ستسير وكأنه هو الجالس على العرش، كما قام “رمسيس” أيضا بتشييد معبداً آخر بالقرب من معبد أبيه، وقد تميز هذان المعبدان بكونهما أكثر المعابد جمالاً في ربوع مصر إن لم يكونا الأجمل على الإطلاق.

سر النقوش العجيبة والدبابة والهليكوبتر

فور دخولك للمعبد الكبير (معبد سيتي الأول) وفى صالته الأولى، عند نظرك للأعلى ستجد ذلك النقش العجيب المثار حوله الجدل، وعلى الرغم من وجوده على ارتفاع عال إلا أنه يمكن رؤيته بالعين المجردة.

النقش العجيب بالصالة الأولى من المعبد.
النقش العجيب بالصالة الأولى من المعبد.

لتفسير ذلك النقش سيحتاج منا الأمر معرفة معلومتان في غاية الأهمية:

الأولى: هي أن المصريين القدماء كتبوا لغتهم بخطوط متعددة اهمها ما سمى بالخط الهيروغليفي، وهو الخط الذي نقش به المصريون على جدران المعابد والمقابر وتميز ذلك الخط بأن علامات (حروف) الكتابة كانت مفصلة ومرسومة بدقة بل وملونة أيضاً، وهو الخط الذي نقش به ذلك النقش الغامض.

الثانية: فور تولى أي ملك للعرش، تتغير صفاته ويحمل خمسة ألقاب (أسماء) ملكية تشير كلها إليه.

 

الألقاب الملكية الخمسة

سا رع: أول ألقاب الملوك كان اسم الميلاد، وهو الاسم الذي ولد به الملك يسبقه عبارة “ابن الإله رع” ومن ثم الاسم الذي يوضع بداخل ما يسمى بخرطوش (الخرطوش عبارة عن الدائرة الأبدية التي تحيط باسم الملك لتمنحه حكماً وحياة أبدية. وكان استخدام الخرطوش مقتصراً على الملوك والملكات)، في حالة رمسيس الثاني فكان: سا رع رع مسو مري إمن (ابن الإله رع، رمسيس محبوب الإله آمون)

نسوت بيتى: ويكتب بنبات الغاب وخلفه النحلة في إشارة لجنوب مصر وشمالها، أي ان اللقب يعنى حاكم مصر العليا والسفلى ومن ثم يتم وضع اسم الملك خلفهما في خرطوش، والاسم بداخل الخرطوش هو لقب تتويج الملك المختلف عن اسم ميلاده، في حالة رمسيس كان لقب تتويجه نسوت بيتى وسر ماعت رع ستب إن رع (ملك مصر العليا والسفلى، القوي بماعت الإله رع، الملك المختار من الإله رع)، وكان لقبي سا رع ونسوت بيتى هما اللقبين الوحيدين اللذان يوضع فيهما اسم الملك في خرطوش.

اللقب الحورى: وهو نسبة إله الإله “حِر” (حورس)، وهو اللقب الذي يعكس تجسيد الملك للإله “حورس” على الأرض، وكان يكتب بعلامة الصقر يعقبها اسم الملك بدون خرطوش، في حالة رمسيس كان: حر كا نخت مري ماعت (حورس الثور القوى محبوب العدالة).

اللقب النبتى: نبتى كلمة مصرية تعنى السيدتان وهما الإلهتان الحاميتان “تخبت وواجيت” واللتان صورتها في هيئة أنثى العقاب والكوبرا وكان اللقب يكتب بالعلامتين المشيرتين لهما ويعقبهما اسم الملك، في حالة رمسيس كان: مك كمت وعف خاسوت (حامى مصر، قاهر البلاد الأجنبية).

لقب حورس الذهبي: وهو علامة الإله حورس يقف على علامة الذهب، رمسيس: وسر رنبوت عا نختو ( ثرى السنين عظيم الانتصارات).

كان يتم استخدام هذه الأسماء والألقاب كجزء من البروتوكول الرسمي عند مخاطبة ملك مصر أو الكتابة عنه وهو ما حدث وتكرر فى معبد أبيدوس.

 

تفسير النقش العجيب

حمل ملوك مصر هذه الألقاب ولم يكن رمسيس وسيتي باستثناء فحملوه هم الآخرين، وقد كُتبت تلك الأسماء للملكين في مواضع كثيرة بالمعبد كان أهمها المكان الموجود به النقش العجيب.

كان اللقب النبتى للملك سيتي الأول: وحم مسوت سخم خبش در بدجت بسجت (مجدد الولادة قوى السيف مخضع الأقواس التسعة.

أما رمسيس فكان كما ذكرنا مك كمت وعف خاسوت (حامى مصر، قاهر البلاد الأجنبية).

اللقب النبتى للملك رمسيس الثانى وسيتى الأول.
اللقب النبتى للملك رمسيس الثانى وسيتى الأول.

وإذا قمنا بوضع اللقب النبتى للملك رمسيس الثانى فوق اللقب النبتى لسيتى الأول ستظهر لنا فورا حقيقة هذا النقش العجيب.

التفسير العلمي الوحيد والمنطقي لهذا النقش هو أن الملك “رمسيس” قام بكتابة اسمه فوق اسم والده في هذا الجزء من المعبد، كان هذا الجزء في البداية يحمل إسماء وألقاب الملك سيتي بتتابع معين عن طريق النحت الغائر، وهنا قام رمسيس بوضع طبقة من الجص (الجبس) فوق نقوش والده ومن ثم قام بوضع اسمه فوقها، وبمرور الزمن تساقطت تلك الطبقة وظهر ذلك النقش العجيب.

رسم توضيحى لتداخل اللقبين وتطبيقه على النقش العجيب.
رسم توضيحى لتداخل اللقبين وتطبيقه على النقش العجيب.

والجزء الموجود به النقش عبارة عن مجموعة من التداخلات لم ينتج عنها أي أشكال عجيبة إلا في الجزء الذي احتوى على الاسم النبتى للملكين.

تداخل اللقب الحورى لرمسيس وسيتى بنفس النقش ولم ينتج عنه أى أشكال عجيبة.
تداخل اللقب الحورى لرمسيس وسيتى بنفس النقش ولم ينتج عنه أى أشكال عجيبة.

باختصار هو تداخل نقوش نتج عنه صدفة عجيبة تم بناء فرضية خاطئة إستنادا عليها، ومن ثم تحولت إلى خرافة وأسطورة كعادة معظم الخرافات عن حضارة مصر.

لماذا وضع رمسيس اسمه فوق اسم والده؟

على الرغم من ذكرنا لحب سيتي لابنه والعكس، إلا أن هذا النقش يقول بوضوح إن رمسيس بالفعل وضع اسمه فوق اسم والده، فكيف يمكن أن نفسر تلك الفعلة؟

هذا التفسير لا علاقة له بحبنا أو كرهنا لرمسيس أو سيتي نفسه، ولكنه متعلق بالنظرة الرسمية من المصريين للوثائق والمنشآت الرسمية مثل المعابد.

في أغلب المواضع في المعبد ومقصوراته وغرفه نجد اسم الملك سيتى الأول موجوداً لم يمس، وهذا يعنى أن رمسيس لم يمحو اسم والده لمجرد المحو، كما أن المعابد المصرية كانت تبنى من الداخل للخارج أي أن أول نقطة يتم بنائها في المعبد هي آخر نقطة نزورها في عصرنا الحالي وهى قدس أقداس المعبد.

أما النقش العجيب فهو موجود بالصالة الأولي من صالات المعبد وفى الواجهة مباشرة، وبما أننا نعلم أن رمسيس قام بترميم وإكمال المعبد لوالده فكان هناك أجزاء لم تكتمل من المعبد وأجزاء مهدمة. والتي كانت الصالة الأولى منها حتماً لأنها كانت من المراحل الأخيرة في خطة البناء.

فكان وضع أسماء “رمسيس” فوق أسماء “سيتي” جزء من خطة الترميم لواجهة معبد لا بد أن يحمل اسم الملك المتوج الحي على عرش مصر وقتها.

ختام

عند نفى أي خرافة متعلقة بالحضارة المصرية يظن البعض أن من يفعل ذلك فهو ينفى عظمة الحضارة المصرية، وفى حالة نقش معبد أبيدوس يخرج البعض في كثير من الأحيان مهاجمين من يقوم بالتوضيح، وهنا أتوقف قليلاً بسؤال منطقي؟

أي عظمة تكمن في ترويج الخرافات عن حضارة مصر؟ إن كانت الحضارة المصرية هي أعظم حضارات بنو الإنسان ذلك لأنها قامت على العمل والعلم لذلك فحقها علينا أن نعرفها بحقائقها لا أن نروج الخرافات عنها ونضعها في إطار الخيال العلمي الذي لا يشجع معتنقه سوى على عدم البحث والاكتفاء بتفسير سطحي للأمور.

عظمة الحضارة المصرية تكمن في عبقرية إنجازاتها بأدوات بسيطة وإن كان لهم حق علينا فهو أن نحاول أن نعلم هذا الإنجاز ونبحث ورائه لا أن نروج وننسج حوله الخرافات وندافع عنها.