الرقم سبعة ذو أهمية فى الوجدان الجمعى للبشر، وقد ذكر العديد من المرات فى الكتب السماوية، منها القرآن الكريم، كان للسبع سنوات العجاف نصيب الأسد منها.
عند ذكر مصطلح “السبع سنين العجاف” يربط القارىء لا إراديا بين تلك الجملة، وبين قصة النبى يوسف -عليه السلام- والتى نعلمها جميعا، بدأت بسجن يوسف ثم حلم الملك فتفسير يوسف لذلك الحلم ومن ثم تجنيب تلك الفترة التاريخية أهوال سبع سنوات من القحط.
هل نستطيع أن نربط بين قصة النبى يوسف وبين الآثار المكتشفة حتى الآن ؟
يبدو الموضوع بسيطاٌ، حلم للملك، يفسر يوسف ذلك الحلم تفسيرًا صحيحًا، يعلو شأنه حتى يصبح ذو أهمية كبيرة لدى ذلك الملك. قصة النبى “يوسف” كلنا نعلمها فلا داعى للإستطراد وإعادة سردها مرة أخرى، يتبقى فقط أن نطابقها بما لدينا من آثار حتى نستطيع ان نحدد متى عاش النبى يوسف على أرض مصر.
تأويل قصة النبى “يوسف” وربطها بالآثار موضوع يطول شرحه وتم بحثه من جوانب عدة ومن علماء لهم وزنهم وللقصة جوانب عدة لا نستطيع أن نغطيها كلها فى موضوع واحد أو حتى عدة مواضيع، ولكن سأحاول وضع قاعدة سنبدأ بها هذا البحث تتلخص فى سؤال واحد:
هل دون تاريخ مصر القديم سنين عجاف إرتبطت بالرقم سبعة ؟
إجابة هذا السؤال هى: نعم! ولم يحدث ذلك مرة واحدة، بل مرتين مدونين بكامل تفاصيلهم.
يرتبط أشهر تدوين لقصة سبع سنين عجاف بأثر نال شهرة عالمية وذلك بسبب النص المدهش المدون عليه والذى يتحدث وبوضوح عن حلم للملك وسبع سنين عجاف، مما جعل هذا الأثر يحمل اسم مثير للإهتمام وهو “لوحة المجاعة“.
وقد اتجه البعض للربط الفورى بين هذا الأثر وبين حلم الملك الذى فسره النبى يوسف ولا يزال حتى الآن يعتقد الكثيرون بذلك. بل إن البعض تخطى مرحلة الاعتقاد إلى اليقين التام بأن ذلك الأثر يرتبط بالفعل بقصة النبى يوسف، لذلك سنجعل الأثر يتحدث عن نفسه.
لوحة المجاعة (السبع سنين العجاف فى عصر الملك زوسر)
وهى لوحة ضخمة من حجر الجرانيت الأسود مقطوعة بشكل مستطيل وموجودة حاليًا بجزيرة سهيل فى أسوان، تنقسم تلك اللوحة إلى جزئين.
الجزء العلوى: يظهر ملك مصرى – وهو الملك زوسر من الأسرة الثالثة حكم مصر فى منتصف القرن السادس والعشرين ق.م تقريبًا – يقوم بتقديم القرابين للآلهة المصرية “خنوم، ساتت، عنقت” وهى آلهة مصرية مرتبطة بنهر النيل والفيضان وكذلك هم آلهة جزيرة إلفنتين التى تقع ايضا فى أسوان وقريبة من جزيرة سهيل.
الجزء السفلى: وهو عبارة عن نص مكتوب بالخط الهيروغليفى وهو أحد خطوط كتابة اللغة المصرية القديمة والنص عبارة عن مرسوم ملكى موجه من الملك زوسر إلى حاكم المقاطعات الجنوبية، زعيم النوبيين وفيها يأمر زوسر بمنح ريع أراضى بمساحة واسعة قريبة من جزيرة “إلفنتين” إلى معبد “خنوم” الموجود بالجزيرة، مع منح المعبد حصة من واردات بلاد النوبة لمصر.
كما أن “زوسر” أمر بمنع أى وزير بفرض ضرائب على المعبد أو إصدار أى أوامر لكهنته، وقد فسر زوسر سبب إصدار ذلك المرسوم فى بقية النص.
الملك زوسر يحلم بالمجاعة
يحكى بقية النص أنه فى العام ال18 من حكم الملك زوسر حدثت مجاعة فى مصر!، الحزن يعم البلاد، والمعابد مغلقة، والأخ يسرق من أخيه، والطعام قليل وشحيح، والسبب أن النهر (النيل) لم يفيض لمدة سبع سنوات.
لجأ الملك زوسر لمجلس الحكماء لوضع حل للمشكلة، واستشار “زوسر” كبير كهنة “إيمحوتب” لمعرفة مكان ميلاد النيل، ومن هو الإله المتحكم فى تلك المنطقة.
يذهب الكاهن فى رحلة إلى الأشمونين، وبعد بحث طويل فى النصوص المقدسة يعود للملك زوسر بالإجابة، النيل ينبع من جزيرة إلفنتين والإله المتحكم بتلك المنطقة هو الإله خنوم رب الفيضان.
لم يكذب زوسر خبراٌ فقدك على الفور القرابين للإله “خنوم” ولجميع آلهة إلفنتين، وبعدها يستغرق الملك فى حلم يظهر فيه له الإله “خنوم” بنفسه ويعده بإنهاء المجاعة، وبالفعل حدث ذلك وإنتهت المجاعة ومعها معاناة المصريين وعم الفرح البلاد.
هل إيمحوتب هو نبي الله يوسف عليه السلام؟!
كان النص السابق هو سبب مباشر فى ربط الكثيرون وحتى علماء الآثار الأوائل بين تلك القصة وبين أحداث عصر النبى يوسف، بل أن البعض ذهب إلى أن يوسف وإيمحوتب هم شخص واحد.
من هو إيمحوتب؟
إيمحوتب شخصية حقيقة من عامة الشعب من أصول متواضعة حظى بأهمية كبرى فى عصر الملك زوسر حيث تدرج فى المناصب حتى ظهرت أهميته بسبب أنه كان المشرف على تشييد هرم الملك والمعروف بـ “هرم سقارة المدرج”.
وكذلك كان المشرف المحتمل على تشييد المجموعة المعمارية الملحقة بذلك الهرم. فى هذه المجموعة المعمارية انتقل إيمحوتب بالحضارة المصرية بأكملها من البناء بالطوب اللبن إلى البناء بالحجر على نطاق واسع.
وشيد أول مجموعة معمارية من الحجر فى التاريخ، وكرمه الملك زوسر تكريم غير مسبوق فى حضارة مصر بأكملها لم ينله سوى إيمحوتب حيث تم تدوين اسمه على قاعدة تمثال للملك، وهو شرف لم يسبقه إليه أحد ولم يتكرر مرة أخرى، وذلك يعكس أهمية إيمحوتب فى تلك الفترة الزمنية.
بعد ما يقرب من 2000 سنة من وفاة إيمحوتب، استدعى المصريون القدماء شخصيات عظيمة من تاريخهم القديم، فعاد مثلا اسم الملك “خوفو” صاحب الهرم الأكبر يتردد بين الأحياء، كما عاد ايضاٌ إسم “إيمحوتب” كواحد من الأسلاف العظماء للمصريين بل أنه تحول إلى إله الطب فى تلك الفترة وأصبح إبن للإله “بتاح” رب الحرفيين فى مصر القديمة، حيث إعتبر المصريون أن ما أنجزه إيمحوتب غير بشرى، وهذا ما إيمحوتب أحد أهم شخصيات التاريخ المصرى على الإطلاق.
لا يزال السؤال المطروح معلقا: هل إيمحوتب هو يوسف بناء على لوحة المجاعة؟
قبل تناول تلك الجزئية لا بد أن نضيف أن جميع علماء الآثار قد إكتشفوا شيئاٌ مهماٌ بخصوص تلك اللوحة، وهى أن طريقة كتابتها والألفاظ المستخدمة فيها وحتى البناء اللغوى يحتم أن يكون هذا النص قد كتب فى العصور البطلمية حوالى 305-30 ق.م ، بينما زمن إيمحوتب والملك زوسر هو منتصف او اواخر 2600 ق.م ! أى أن الفارق الزمنى بين النص والفترة التى يحكيها يتعدى الألفى عام بكثير!
بل أن النص نفسه يتحدث عن أن الملك زوسر قد طلب الإستشارة من “كبير كهنة إيمحوتب” وليس من “إيمحوتب” نفسه, وكبير كهنة إيمحوتب هو لقب ظهر بعد تأليه “إيمحوتب” وتكريس معابد مخصصة له.
النص أيضا يتحدث عن أن المجاعة حدثت بالفعل وأن ما فعله الملك “زوسر” لحل المشكلة هو تقديم القرابين للإله “خنوم” وأن من أنهى المجاعة فعليا كان الإله “خنوم” نفسه، بينما فى النص القرآنى والكتب السماوية تجنبت مصر المجاعة ولم تحدث من الأساس.
كما يمكن أن نضيف أن النبى “يوسف” يستحيل أن تكون فترته الزمنية هى فترة الملك “زوسر” والتى تبعد زمنيا عنا الآن بحوالى 4600 سنة، وهو تاريخ غير مقبول زمنيا لوقائع قصة النبى يوسف، كما أن “إيمحوتب” كان مصرياٌ خالصا بحسب النصوص، بينما القرآن الكريم والكتب السماوية تنسب “يوسف” عليه السلام للعبرانيين.
كذلك فإن إيمحوتب ارتبط إسمه فى مصر القديمة بالهندسة (كمهندس للملك زوسر) وبعد تأليهه ارتبط اسمه بالطب كطبيب يخفف من آلام الناس كما جعله المصريون إبنا للإله “بتاح”رب الحرفيين, بينما يوسف الصديق لم ترد اخباراٌ تنسب له تلك التخصصات.
بناء على ما سبق وضع علماء الآثار إحتمالين لتفسير ذلك النص.
الأول: ان القصة بالكامل من تأليف كهنة معبد خنوم لنيل الامتيازات الواسعة المذكورة فى النص.
الثانى: أن قصة دخول مصر فى مجاعة إمتدت لسبع سنوات لها صدى فى تاريخ مصر وهو ما أكده نص آخر يرجع أيضا للعصور البطلمية ويسمى “كتاب المعبد” 237ق.م, وهى بردية مدونة بالخط الديموطيقى ( أحد خطوط كتابة اللغة المصرية القديمة) تحكى عن مجاعة ضربت مصر لسبع سنوات بسبب قلة منسوب النيل فى عصر الملك “نفر كا سوكر” من الأسرة الثانية.
وأن الملك جاء له وحى إلهى فى الحلم أمره بترميم معابد مصر لتنتهى المجاعة، وهو ما فعله الملك بالفعل وإنتهت المشكلة، إذن بالموضوع متعلق برواية شعبية ترددت فى العصور البطلمية لإستعادة أهمية الإهتمام بالمعابد، مع عدم وجود دليل حاسم على حدوث تلك القصص المدونة فى الآثار بشكل حرفى.
الخلاصة
لا يوجد حتى الآن رابط بين لوحة المجاعة أو كتاب المعبد و بين النبى يوسف بشكل قاطع ما لم تظهر آثار مادية تثبت عكس ذلك، وأن تلك النصوص على الأرجح كانت جزء من دعايا سياسية فى ذلك الوقت تبناها الكهنة للحصول على إمتيازات أكثر فى زمن حكم أجنبى لم يعد يعطى أهمية قصوى للمصريين بكل طوائفهم.
وعلى الرغم من عدم وجود آثار مادية حتى الآن تخبرنا عن زمن النبى يوسف لنستطيع تأريخ زمن تواجده فى مصر بشكل قاطع إلا أن المستقبل وباطن الأرض فى ربوع المحروسة لربما يفصحوا عن إكتشافات تنير لنا الطريق، بينما فى المسلسلات الإيرانية وبكل سهولة يحسم منتجيها ومؤلفيها تلك القضايا الشائكة بإقحام الخيال فى الموضوع ليخلقوا منه تاريخ موازى مزيف لزمن تواجد النبى”يوسف”, ولهذا حديث آخر.