النيل فى مصر القديمة وأسطورة عروس النيل
النيل فى مصر القديمة وأسطورة عروس النيل

عروس النيل، مصطلح وصورة ذهنية معينة ترتبط دوما بالفنانة المصرية لبنى عبد العزيز فى فيلمها الشهير، هاميس تلك الفتاة التي خرجت من أعماق التاريخ المصري القديم ليحبها بطل الفيلم (رشدي أباظة) ويحاولا بكافة الطرق تجنب مصيرها المحتوم وهو أن تقتل ويتم التضحية بها كعروس لنيل مصر، تلك الخرافة التي أصبحت واقع لدى الكثير من متحدثي العربية.

 

أهمية النيل عند المصريين القدماء

كان نهر النيل هو أحد أهم مقومات قيام الحضارة المصرية القديمة، فهي حضارة زراعية بحتة قامت على أكتاف المزارعين الذين كانوا يشكلوا الغالبية العظمة من عموم الشعب المصري، ذلك كان الدافع وراء المقولة الشهيرة للمؤرخ هيرودوت “مصر هبة النيل”.

لربما تبدو تلك الجملة صحيحة ومقبولة.  ولكن حقيقة الأمر أن مصر هي هبة الإنسان المصري. فالنهر العظيم جرى في دول عديدة ولكن الحضارة نشأت في مصر بسواعد أبنائها وتقديرهم لذلك النهر العظيم.

النيل فى مصر القديمة.
النيل فى مصر القديمة.

كان المصريون القدماء يقدسون نهر النيل ويولونه أهمية بالغة لاعتباره أهم مقومات حضارتهم.

إلا أنه لم يكن هناك إلها محدداً للنيل في مصر القديمة، فالنيل كان يسمى “نا إترو عا” ، وتعنى النهر العظيم، والتى تحولت إلى نارو أو نيرو لاحقاً.

ومن ثم جاء منها كلمة النيل،كما أن” تعبير “نا إترو عا” هو الذى جاء منه كلمة “ترعة” فى مصر الحديثة.

في الميثولوجيا الإغريقية فإن إله النيل وتمثيله هو الإله “نيلوس” وهو واحد من ثلاثة ألاف إله يمثلون الأنهار من نسل الإله اوشيانوس.

وهذا التمثيل لم يكن مصرياً قديما في الأصل وإنما هو جزء من ثقافة الإغريق التي دخلت إلى مصر بعد دخول الإسكندر الأكبر إليها.

الإله "نيلوس" إله النيل فى المثيولوجيا الإغريقية.
الإله “نيلوس” إله النيل فى المثيولوجيا الإغريقية.

 

أما في مصر القديمة فلم يكن هناك إلها للنيل أو تجسيد له، وإن أشارت النصوص والديانة المصرية القديمة لبعض الآلهة التي كانت مرتبطة بالنيل.

فعلى سبيل المثال فإن الإله “خنوم” سيدة منطقة إلفنتين هو رب الفيضان والمتحكم فيه ، أما تمثيل الفيضان فهى الإلهة “ساتت” زوجة الإله “خنوم”.

بينما إبنتهما “عنقت” هي سيدة جنادل النيل، أما الإله “حعبى” (ينطق أيضا حابى) فهو روح الفيضان وليس النيل نفسه كما يظن البعض.

 

الإله "حعبى" روح الفيضان.
الإله “حعبى” روح الفيضان.

 

لم يكن للمصريين القدماء تصوراً واضحاً لمنابع النيل أو مصدره، فالفيضان هو دموع الإلهة “إيزيس” حزناً على زوجها أوزير (أوزوريس).

اما منابع النيل فكانت فى كهف بأسوان بجزيرة إلفنتين كما أشارت لوحة المجاعة التي كتبت في عصر البطالمة، كما عرف المصريون القدماء مقياس النيل وكانت كل المعابد المصرية تقريباً بها مقياس خاص بها.

أما على المستوى الديني فكان تلويث النهر جريمة تحرم صاحبها من دخول جنة البوص (حقول يارو المصرية القديمة).

وفى كتاب الخروج في النهار (كتاب الموتى) يوجد ما يسمى بنصوص الاعتراف الإنكاري وهى مجموعة من الذنوب ينفى المتوفى فعلها.

وهو يحاكم أمام قاضى الموتى الإله أوزير (أوزوريس) فيما يتعلق بالنيل ينفى المتوفى عن نفسه تلويث مياه النهر، أو حتى قطعه لمجرى المياه.

 

هل قام المصريون بالتضحية بالفتيات؟

كان النيل تحديداً مصدراً للخير وفيضانه من مباهج الحياة التي تعدو للاحتفال، فكان الفيضان هو بداية السنة الجديدة طبقاً للتقويم المصري.

وقد سموا فصل الفيضان فصل “آخت” وهو واحد من ثلاثة فصول قسم بها المصريون القدماء السنة التي كانت كالتالي:

  1. فصل آخت :الفيضان.
  2. برت: الزراعة.
  3. شمو:الحصاد: وهو ما يعكس بيئة مصر الزراعية وتفكيرها المعتمد كلية على النيل.

 

القرابين فى مصر القديمة.
القرابين فى مصر القديمة.

 

حقيقة الأمر أن المصادر الأثرية متعددة وثرية وتمدنا بمعلومات كاملة عن حياة المصريين القدماء.

كما عرف المصريون أيضا تقديم القرابين ومارسوه، وكان للنيل نصيباً من تلك القرابين التي كانت تجهز من أجود المنتجات ويتم إلقائها فى النهر.

إلا أنه لا يوجد مصدر واحد يشير لتضحيات بشرية للنيل كنوع من أنواع القرابين على الإطلاق.

 

أسطورة عروس النيل

على الرغم من كل ما ذكرناه سابقاً إلا أنه فجأة ومن لا مكان ظهرت تلك الخرافة.

وأصبحت متداولة في المجتمع المصري، لم تكن تلك الخرافة بلا أصل.

وهى كعادة كل الخرافات ورائها أصل أو عقلية أجنبية دخيلة على حضارة مصر.

أصل تلك القصة يعود لكتاب “فتوح مصر والمغرب” لمؤلفه “عبد الرحمن بن عبد الحكم” والذى توفى في القرن التاسع الميلادي.

وفيه يحكى أن مصريين في زمن “عمرو ابن العاص”،  أتوا إليه ليطلبوا منه الإذن في إلقاء فتاة بكر في النيل باعتبارها من عاداتهم السنوية لإرضاء النيل لكى لا يعم القحط.

وتمضى القصة أن عمرو ابن العاص رفض ذلك ومن ثم أرسل لعمر ابن الخطاب ليستشيره فى الأمر فرفض الخليفة ما جاء إليه باعثا برسالة كان فحواها

:”من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك”.

 

 

وتنتهى القصة بإلقاء ابن العاص بالرسالة فى النيل فحلت (البركة) فى النيل وجرى 16 ذراعا فى ليلة واحدة !!

 

كتاب فتوح مصر والمغرب، بن عبد الحكم.
كتاب فتوح مصر والمغرب، بن عبد الحكم.

 

بدءًا من العصور اليونانية الرومانية ومع ظهور الرحالة الكلاسيكيين مثل هيرودوت وسترابو وديدور الصقلي وغيرهم، لم يذكر أحد منهم أى شىء بخصوص تلك الخرافة المزعومة.

ولم يدونوا أي شيء يشير لا من قريب ولا من بعيد على ذلك على الرغم من معاصرتهم لمصر القديمة وديانتهم وعاداتها.

أي أنه لم يرو أحد قبل بن عبد الحكم تلك القصة على الإطلاق، بل أن بن عبد الحكم نفسه يفصل بين زمنه وزمن ابن العاص أكثر من مائتي عام فكيف لم تظهر قبله.

بل أننا إذا ذهبنا لأبعد من ذلك فديانة مصر القديمة لم تعرف هذا الفعل فما بالك بالمسيحية التي كانت موجودة في مصر وقتها والتي كانت تحرم القتل.

على الرغم من كل هذا بقيت تلك الخرافة يتداولها الناس جيلاً بعد الآخر وواقع الأمر أن بن عبد الحكم.

لربما سمع تلك القصة من أحد المخرفين أو الجهلاء أو أنه قام بتأليفها بنفسه فى عادة متكررة للبعض لخلق قصة ذات طابع ديني ظناً منهم أنها تساهم فى نشر الإسلام.

 

فيلم عروس النيل

فى عام 1963 تم إصدار فيلم عروس النيل بطولة لبنى عبد العزيز ورشدى أباظة، ولا داعى للاسترسال في القصة أو مناقشتها لأن الجميع يعرفها.

والحقيقة أنه لا لوم على صناع الفيلم لأنه يدور فى إطار خيالي ولم يزعم أحدهم أن الأحداث حقيقية.

ولكن تصادف ذلك مع تبنى فكرة “عروس النيل” والأضحية البشرية وهو ما كان أسوأ خيار ممكن ليبني عليه الفيلم للأسف.

ساهم هذا العمل في ترسيخ خرافة بن عبد الحكم في أذهان الناس حتى صار نفيها شبه مستحيل.

كما أن هذا الإطار الخيالي لم يراعى أى أصالة سواء في الأزياء أو اختيار الأسماء أو حتى الأماكن ومنطقية الأحداث، فحتى اسم هاميس لا يمت لمصر القديمة بصلة.

فيلم عروس النيل.
فيلم عروس النيل.

 

على الرغم من كل هذا فلم يسلم النيل من خرافات مواقع التواصل الاجتماعي في العصر الحديث فقد ظهرت تلك الجملة الشهيرة “إذا إنخفض منسوب النيل فليهرع كل جنود الفرعون ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه”.

وذكر قائلوها أنها مكتوبة على جدران مقياس النيل في المنيل، ومن ثم تم نقد ذلك بان مقياس النيل بالمنيل لا يعود لمصر القديمة فقام هؤلاء المؤلفين بتغيير تلك التفصيلة وذكروا أنها مدونة على جدران مقياس نيل معبد إدفو، أى شىء لدعم تلك الخرافة كما فعل المدافعون عن بن عبد الحكم.

وظنا منهم أن ترويج مثل تلك الخرافات عمل وطني  أو حماسي وأن من ينقدها فهو ناقص الوطنية مثلما ينتقد من يقول بخرافة ما ذكره بن عبد الحكم ويصمونه بالكفر.

هو ما يقودنا لنقطة أخيرة وهى تمسك البشر ببعض الخرافات التي تعطيهم راحة نفسية تجاه مواقف ما تتناسب مع أهوائهم الشخصية على حساب حقائق تاريخية جامدة لا إثارة بها ولا تشويق.